إشكالية النظام السياسي في لبنان.. بين استلاب الخصوصية والولاءات الإقليمية

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

مقدمة

أولا: البنى اللاواعية الجمعية المولدة لجذور الخلاف في المسألة اللبنانية

أ- إشكالية النظام السياسي اللبناني بين أبعاده الداخلية والتأثيرات الدولية

ب- إشكالية النظام السياسي اللبناني بين النسق الداخلي والولاء الخارجي

ثانيا: التحولات في موازين القوى اللبنانية من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية-الأيديولوجية

أ- المارونية السياسية بين الكيانية والعروبة

ب- القوى السياسية في لبنان من اتفاق الطائف حتى طوفان الأقصى

ثالثا: لبنان بين حرب طوفان الأقصى والتحديات الداخلية والضغوطات الخارجية

خاتمة

 

مقدمة

إذا كان لأي مجموعة من الناس أن تخلق لنفسها شعورا بكونها جماعة سياسية وأن تحافظ عليها فلابد أن تكون لها رؤية موحدة لماضيها [1].. هذه المقولة للمؤرخ اللبناني "كمال الصليبي" التي طالما رددها في إطار رؤيته للمسألة اللبنانية. 

هذا ما أدركته الأطراف اللبنانية المجتمعة في مدينة الطائف السعودية عام 1989 بهدف وضع تصور لإنهاء الحرب الأهلية والانتقال به من "الدويلات" إلى الدولة، حيث نصّت وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) على تعديلات تتعلق بالتربية والتعليم أهمها العمل على وضع كتاب تاريخ موحد في المنظومة التعليمية بهدف تعزيز الانتماء والانصهار الوطني وهو ما لم يتحقق حتى هذه اللحظة. 

ولكي نفهم الحاضر لابد من الوقوف على التاريخ الكلي بمظهره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري، فما تاريخ الدول والشعوب والأمم إلا عبارة عن سلسلة حلقات متداخلة متشابكة لا انفكاك لإحداها عن الأخرى.

وإذا عرف تاريخ الشعوب حروبا أهلية، وأخرى طبقية، ومرة دينية... ففي لبنان مجموعة أخلاط يصعب حتى على "أبطاله" غالبا تحديد وصفها وبيان حقيقتها وعمق دوافعها.

فكل أزمة سياسية يمرّ بها لبنان توصف بالمصيرية، لأنها تهدّد وجوده وتهز أسس كيانه، وتعيد النظر في وحدته الجغرافية من خلال طروحات التقسيم والفيدرالية واللامركزية الموسعة.

ويطرح معها في كل مرة المفكرون، والنخب المالية والاقتصادية التي تتشابك أولوياتها ومصالحها المتداخلة مع الآخر، وحتى الفئات الأكثر ابتعادا عن نقاش كهذا مثل العامة المنشغلة بصراعات حياتها اليومية، أسئلة وجودية تتعلق بتحديد هوية الأنا ورسم هوية الآخر، حتى أضحى تحديد مفهوم "الهوية" ورسمها أحد المحركات المهمة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر خاصة بعد عام 2005 إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري حيث أصبح هذا السؤال صريحا ومتفجرا. 

وعند البحث في خلفيات الأزمة نجدها مسألة في خطوطها العريضة ثلاثية الأبعاد يتداخل فيها المخطط الخارجي بالنزاع الداخلي مرورا بالحرمان الاجتماعي، فلا توجد طائفة في لبنان أو حزب إلا وربط نفسه بأمور داخلية وولاءات خارجية، خاصة المارونية السياسية تاريخيا والشيعية السياسية والدينية حديثا، وليست السنية السياسية ببعيدة عنها.

فلا يقع خلاف سياسي داخلي في لبنان إلا واستدعى البُعد الطائفي والمذهبي والثقافي وبرزت عقدة الخوف والشعور الأقلوي خاصة لدى الدروز ثم لدى السنة حاليا، ولا يتحرك وتر حساس كالحرمان الاجتماعي إلا ورفعت الأحزاب والفئات اللبنانية شعار الحق في إزالته والمطالبة بحق المشاركة الفاعلة في الوجود.

فتحْت شعار حركة المحرومين وصوت المستضعفين تأسس الكيان السياسي الشيعي الحديث على يد السيد "موسى الصدر" الذي أسس حركة أمل عام 1975 ومن رحمها خرج تنظيم حزب الله عام 1982. 

الحرمان نفسه، والشعور بالتهميش، أو عقدة الخوف، وعقدة شعور الأقلية التي كانت تشعر به الطائفة الشيعية انسحب اليوم على المكونات المسيحية والطائفة السنية.

المفارقة فيما ذكر أن الصراع الطائفي أو المذهبي بين المكونات اللبنانية لم يكن أبدا ولا في أي لحظة منه على قضايا دينية أو خلافات مذهبية، لذا فإن الطائفة والمذهب في لبنان هي حالة ثقافية وسياسية واجتماعية لا دينية.   

وفي كل أزمة سياسية يمر بها لبنان تطرح الإشكاليات ذاتها: هل الطائفية والمذهبية اختراع سياسي خارجي تم سبكه على القالب اللبناني، أم هي طبيعة تكوين المجتمع اللبناني استدعى الداخل فيه الخارج؟ وهل الأحزاب السياسية في لبنان تلعب دور تنمية الحياة العامة وتطويرها، أم أنها تعبر عن حساسيات طائفية أو مذهبية أو ادعاءات الخصوصية؟ وما هو دور الشخصيات اللبنانية المدنية منها والدينية النافذة في رسم الولاءات ورفع الشعارات ودعوى الحفاظ على المكتسبات؟ وهل الأزمة اللبنانية جزء من صراع ثقافي مستمر بين الشرق والغرب؟ وهل يمكن عد لبنان المساحة الحرة المشتركة للتعبير عن الانحياز لأي فكرة أو فلسفة أو طرح عالمي ضمن مؤيد ومعارض أو لنقل بشكل آخر مخبر سياسي وطائفي وفكري واجتماعي...؟

أولا: البنى اللاواعية الجمعية المولّدة لجذور الخلاف في المسألة اللبنانية

لا وجود لأحزاب بمعناها السياسي وأبعادها التنظيمية الجامعة للمكونات الجماهيرية والشعبية في لبنان؛ وجُل ما في الأمر أن جميع الأحزاب تزعم تمسكها بأفكار ومبادئ وطنية أو علمانية أو قومية أو دينية بهدف خدمة الصالح العام، فيما تسعى كل جهة منها إلى الإطاحة بالآخر مدفوعة بولاءات إقليمية ودولية، وضغائن يعود الكثير منها إلى غابر الأزمان، وتحاول السيطرة الفردانية في إدارة الدولة تحت حجة الحق التاريخي، وما تلك الأفكار أو المبادئ إلا أقنعة تستتر وراءها الدوافع الغريزية.

وتخفي معظم الأحزاب والجماعات السياسية اللبنانية في طياتها الأصل المذهبي والديني لها، ولكي تستر هذا الوجه فيها، تظهر وجه التعددية من خلال اختيار شخصيات من غير طوائفها في مناصب قيادية وتستقطب الأتباع والمناصرين لها من الفئات الأخرى كما فعل حزب الله مثلا من خلال إنشاء "سرايا المقاومة" بهدف ضم الفئات اللبنانية غير الشيعية إليه، وتبنّيه سياسيا وماليا لتجمع علماء المسلمين الذي يضم رجال دين من الطائفتين الشيعية والسنّية.

وكما فعل تيار المستقبل بزعامة الرئيس سعد الحريري من خلال وضعه شخصا شيعيا وآخر مسيحيا في منصب نائب الرئيس، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الأحزاب كالحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد وتيمور جنبلاط الذي جعل منصب أمين السر في الحزب حكرا على شخصية شيعية، وشخصية شيعية أخرى ومسيحية في منصب نائب الرئيس، وكذلك الأمر بالنسبة للتيار الوطني الحر بزعامة الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل الذي وضع أيضا شخصية شيعية في منصب نائب الرئيس، حتى الحزب القومي السوري الاجتماعي، الحزب الأكثر علمانية والعابر للطوائف هو وجه فكري للأرثوذكس ومن معهم من الدروز والشيعة والسنة والناقمين من الموارنة على فكرة الخصوصية اللبنانية والقومية العربية بمواجهة الطموح السياسي الماروني. 

لذلك فإن اللعبة فيما بينها لم تشمل خلافا أو شجارا حول المعتقدات المذهبية، وما استدعاؤها لرجال الدين فيها إلا لإعطائها بُعدا قيميا وجدانيا على الأتباع يمكن من خلاله تسليم القاعدة الحزبية لقياداتها والالتفاف حولها بشكل أكبر، ولم يستطع قناع التعددية في القيادة أن ينعكس على الوجه الحقيقي المذهبي والطائفي المتعصب للقاعدة الشعبية أو لخطاب رئيسها عندما تستدعي الحاجة. 

لذا فإن الأحزاب والجماعات السياسية في لبنان تشبه "العشائر"، إذ يصبح التعصب معها "للقبيلة" أساس اللعبة، ولو قدّر لهذه اللعبة أن تستمر بين اللبنانيين وحدهم لما تعدت أخطارها، أخطار السياسات اليومية العادية، ولبقي باستطاعة الدولة السيطرة عليها، وهذا ما جعل اللاعبين من الخارج غالبا ما يتدخلون بدعوة من الفريق الداخلي المرتبط به بالولاء الديني، أو الارتباط السياسي، أو الامتداد الثقافي، لإفساد أي مسار طبيعي.

أ- إشكالية النظام السياسي اللبناني بين أبعاده الداخلية والتأثيرات الدولية

لطالما وصف عميد الصحافة اللبنانية ناشر جريدة النهار الراحل "غسان تويني" التأزم السياسي في لبنان وحروبه بأنها "حرب الآخرين على أرض الوطن"[2].

ولطالما ردّد اللبنانيون القول المشهور بينهم "وقعت مئذنة في مصر فالله يسترنا من طراطيشها في لبنان" إذ إنّ كل ما يحصل في المنطقة ينعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على الواقع اللبناني: فانقسام الدول العربية مثلاً بين محور القاهرة ومحور بغداد خمسينات القرن العشرين كان سبباً لانقسام واقتتال داخلي عام 1958 استدعى تدخلاً مباشراً لقوات المارينز بمهام قتالية لأول مرة في تاريخها إلى الشرق الأوسط[3] ولم تنتهِ الأزمة إلا بتفاهم مصري-أميركي أوصل فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة في الجمهورية[4].

ثم إنّ الخلاف حول مسألة عمل المقاومة الفلسطينية ضدّ الوجود الإسرائيلي انطلاقاً من جنوب لبنان فيما عرف بـ"فتح لاند" عام 1969 كان مدخلاً للحرب الأهلية اللبنانية[5] عام 1975 ثم إخراج منظمة التحرير من بيروت عام 1982.

والحرب الطاحنة بين العراق وإيران طيلة العقد الثامن من القرن العشرين أدت إلى حرب داخلية تسببت في تفجير السفارات ومقرات القوات الدولية، وتجاذب المحاور الإقليمية بين ما سمي محور المقاومة والممانعة ومحور السلام انعكس انقساماً عامودياً حاداً بين فريق 8 آذار بزعامة حزب الله الشيعي وفريق 14 آذار بزعامة تيار المستقبل السنّي.

وهذا كان أحد الأسباب الخلفية لوقوع أحداث 7 مايو/ أيار عام 2008 واجتياح حزب الله لمدينة بيروت الذي انتهى بتوقيع اتفاقية مصالحة في العاصمة القطرية. 

كما أن سقوط بغداد عام 2003 ثم اندلاع الثورة السورية عام 2011 وما تلا تلك الأحداث من نزوح شعبي كبير من سوريا إلى دول الجوار وظهور الحركات الإسلامية الراديكالية إلى الواجهة كان محل انقسام داخلي أدّى إلى التحاق أعدادٍ كبيرة من الشباب السُنّة للقتال إلى جانب تلك المنظمات في العراق وسوريا ودخول حزب الله بتشكيلاته العسكرية إلى سوريا بهدف مساندة النظام السوري عسكرياً وعدم سقوطه ميدانياً، واستنهاض القوى المسيحية للمطالبة بترحيل النازحين السوريين تحت عناوين اقتصادية وأمنية أخفت عمق الخوف من التوطين والتغيير في الميزان الديموغرافي المائل أصلاً بقوة إلى الكفة الإسلامية.

وصولاً إلى اشتعال جبهة الجنوب اللبناني ودخول لبنان بفصل جديد على جبهة الصراع مع إسرائيل بعد هجوم حماس المباغت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لغزة في عملية "طوفان الأقصى" وهو ما أدخل شركاء المحور من حزب الله والجماعة الإسلامية في لبنان وغيرهم على خط المواجهة المباشر مع اسرائيل والمشاركة في ساحات القتال، وهو ما رأت أطراف لبنانية عديدة أن حزب الله يخطف مجددا من الدولة قرار السلم والحرب ويدخل الدولة قسراً في محور قتالي لا تتفق معه في الرؤية على الصعيد السياسي على الأقل، وعاد ليخلق انقساماً لبنانيا جديدا.

لذا فإن أي دراسة للواقع اللبناني حتى في أدق تفاصيله يجب أن يُلحظ فيه أمران أساسيان: أحدهما خارجي وهو البُعد المحيط به دولياً وإقليماً وعربياً، والثاني داخلي وهو البُعد التاريخي الذي يفسّر مسألة الهوية وبناء الكيان اللبناني. 

إذ إن فهم النسق العام يمكن أن يشكّل مدخلاً إلى فهم الأجزاء والتفاصيل المتعلقة به، وهو ما توصلت إليه الكاتبة اللبنانية ليلى فواز طرزي في خاتمة كتابها "مناسبة للحرب: الصراع الأهلي في لبنان ودمشق في 1860" وترى أن كل الحروب الأهلية في لبنان تعود إلى مسألتين أساسيّتين: مشكلة الهوية واللاتوازن الداخلي؛ والتدخل الخارجي.

وتبدو هاتان المسألتان متداخلتين حيث تقوم بينهما علاقة ديالكتكية تطرح إشكالية جدلية حول سؤال هل كانت مسألة الكيان اللبناني ومشكلة الهوية فيه بسبب التبعية والتدخل الخارجي، أم أن مسألة الكيان ومشكلة الهوية داخليا هي التي استجلبت الاستقواء بالخارج والتبعية له؟

وشكّلت مسألة التبعية التاريخية للخارج بالنسبة للبنان سيفاً ذا حدين: إيجابي من حيث العناية الدولية به، وسلبي من حيث سلب القرار والاستقرار الداخلي؛ وهذا ما أدركه جيداً منذ البداية واضع الدستور اللبناني ميشال شيحا حين رأى أنّ "لبنان عندما يرتهن يعتز وحين يستقل يهتز" [6].

وهذا الاهتزاز لا يعود إلى تعدد الطوائف والمذاهب فيه، ولا إلى حقوق حماية الطوائف الذي يشبه النظام الإيرلندي، إنما الأمر يعود إلى العقل الطائفي الذي ربط هوية اللبناني بطائفته، حيث لكل طائفة أحوالها الشخصية الخاصة بها، ولكل مذهب شخصيته المستقلة، حتى تبدو معه الطوائف وكأنّها عشائر -كما أشرنا- لكل عشيرة رأسها ومصالحها الخاصة[7] التي تفرض نفسها على حساب المسارات التي تبني الوطن وتوصله إلى المواطنية التي لم يستطع اللبناني أن يحققها حتى الآن. 

وبناء عليه غابت الهوية الجامعة، وغاب معها النظام العادل وغابت النُخب الوازنة على الصعيد السياسي والاقتصادي حتى أصبحت منظومة الفساد فيه حاضرة بقوة، مغيبة معها الصيغة الجامعة وإصلاح الدولة الوطنية التي تقوم على أسس قيم الديمقراطية والمواطنة.

ب- إشكالية النظام السياسي اللبناني بين النسق الداخلي والولاء الخارجي

محور التحولات الكبرى والفترات المفصلية منذ عهد القائمقاميتين عام 1840، وتاريخ أول وضع دستور للدولة اللبنانية عام 1926، ثم الميثاق الوطني عام 1943، واتفاق الطائف عام 1989 كانت تدور حول الهوية الحقيقية للبنان، فمشكلة الهوية فيه تنبع من خلال بنية نظامه، والبنية نسق، والنسق مجموعة عناصر تأخذ معنى وجودها من خلال انتمائها إلى هذا النسق.

فاللبناني اليوم يعرّف عن نفسه انطلاقا من انتمائه لبنية معينة، وبنية لبنان بشكل عام بنية مركبة وليست نسقا صافيا، إنه نظام مركّب من كيانات متعدّدة وهو بهذا المعنى نظام مفتعل، تتغير تركيبته الداخلية وفق المتغيرات الخارجية والتدخلات الإقليمية والدولية. 

فالذي يحصل أنه كلما وجدت فئة أنها قادرة على تغيير الواقع فيه نتيجة نموها الديمغرافي أو قدرتها التنظيمية أو دعمها الخارجي تبدأ بطرح إدخال تعديلات على النظام السياسي القائم، وهذه حقيقة تاريخية في لبنان منذ قيام نظام القائمقاميتين عام 1840 الذي منه يمكن التأريخ الفعلي لتاريخ لبنان السياسي الذي أعطى القوة المارونية الصاعدة لأول مرة حقا في الحكم، ثم قيام نظام المتصرفية الذي بموجبه حمت فرنسا والقوى الأوروبية موارنة لبنان ومسيحيي المشرق من ردة فعل الدروز والمسلمين، وصولا إلى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 بعد ضم مناطق البقاع وطرابلس وعكار ومناطق صيدا والجنوب، وتحقيق حلم الموارنة بدولة مستقلة تتمتع بعلاقة مميزة بالدولة الفرنسية.

ثم محاولة الرئيس كميل شمعون إلحاق لبنان بمحور بغداد وتمرير مشروع "أيزنهاور" والوقوف في وجه حلم "جمال عبدالناصر" بالوحدة القومية العربية التي تلقى تأييدا إسلاميا في لبنان، ثم إرغام العرب للدولة اللبنانية -بحسب وصف جوزف أبو خليل- على توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 التي تجيز انطلاق العمل الفلسطيني المسلح من جنوب لبنان وهو ما أدى إلى استنفار القوى المسيحية والاستعداد لحرب مع منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الإسلامية والوطنية التي استقبلت الثوار الفلسطينيين كحليف لهم[8]، وهو ما دفع بزعيم الحزب الاشتراكي كمال جنبلاط إلى استغلال الحالة الفلسطينية لإسقاط النظام اللبناني القائم على الثنائية المارونية -السنية القائمة منذ الأربعينيات[9]، وهو أيضا ما دفع بالضابط اللبناني "سعد حداد" الذي انشق عام 1979 بوحدته العسكرية المؤلفة من 400 عسكري المكونة من أغلبية مارونية عن الجيش اللبناني متحالفا مع الجيش الإسرائيلي ليسيطر على الجنوب اللبناني وإعلان ما أسماه دولة لبنان الحر كردة فعل على انشقاق الضابط أحمد الخطيب عام 1976 بوحدته العسكرية السنية وتحالفها مع الفدائيين، وهو الدور عينه الذي قام به حزب الكتائب والقوات اللبنانية بالتنسيق مع الحليف الإسرائيلي الذي كان له الفضل في وصول بشير الجميل إلى سدة الرئاسة في الجمهورية اللبنانية[10] وهو ما يحاول الثنائي الشيعي فعله اليوم مستقويا بالنفوذ الإيراني الممتد إلى العراق وسوريا من خلال طرح عقد اجتماعي سياسي جديد يقوم على المثالثة بين الشيعة والسنة والمسيحيين بدلا من نظام المناصفة القائم حاليا بين المسلمين والمسيحيين وهو ما تعارضه أغلبية القوى المسيحية، والدرزية، في ظل ضعف سنّي خاصة بعد تعليق تيار المستقبل عمله السياسي.

وحتى كتابة هذه الورقة لا وجود لرئيس جمهورية في لبنان منذ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ويبدو أنه لن يكون ما لم يسفر هذا الانتخاب عن عقد اجتماعي جديد يحدث تغيّرا في تركيبة النظام السياسي أو الحصول على مكاسب جديدة ترضي الطموح السياسي الشيعي وتضمن له القوة والهيمنة.

ولا يتوقف أثر التحولات في موازين القِوى على الشأن السياسي فقط، فهو ينعكس بشكل مباشر على نواحٍ متعددة، كالجانب التربوي والتعليمي، فهناك الكثير من المدارس والجامعات الخاصة (عددها 37) ترتبط بإرساليات أجنبية أو بطوائف ومذاهب معينة كسلسلة المدارس الكاثوليكية والجامعات الخمس الأكبر في لبنان التابعة لها، أو سلسلة مدارس المصطفى والمهدي والمبرات المرتبطة بشكل أو بآخر بحزب الله. 

فالمدارس والجامعات هذه لها تأثير بالغ في توجيه السياسات والقيم المحلية حيث يتبنّى معظمها نهجا ثقافيا دينيا يطغى على الدور الوطني للمدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية التي كانت ومازالت تشبه مناطق النفوذ الطائفي (الفرع الأول في الجامعة اللبنانية للمسلمين والثاني للمسيحيين). وبعد أن كانت الجامعة اللبنانية لفترة طويلة تخضع لنفوذ الجامعة اليسوعية التي كانت تشبّه صلتها بالجامعة اللبنانية صلة دولة الانتداب بدولة الاستقلال[11]، تحوّل النفوذ فيها منذ عام 1999 بشكلٍ متتابع لتنتقل إلى المكاتب التربوية للأحزاب وصولا إلى السيطرة الشيعية شبه الكاملة في الآونة الأخيرة. 

فالفيديو الذي انتشر لعدد من الطلاب بإحدى الكليات في مبنى مجمّع الحدث الجامعي وهو المجمع الوحيد للجامعة اللبنانية، يعلنون فيه الولاء للمرشد الإيراني علي خامنئي بعد أيام قليلة على انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.. دليل واضح على وجود تحالف ضمني داخل كل طائفة ممتد بولائه لجهة خارجية. 

والأمر ينسحب على الحالة الإعلامية؛ المسموعة والمكتوبة والمرئية، فثماني قنوات تنتمي كل منها إلى تيّار أو حزب سياسي في البلاد تلعب دورا حساسا ورئيسا في صناعة الأحداث على المستويين السياسي والاقتصادي والتأثير على المستويات الاجتماعية والثقافية والتربوية.

وبالرغم أن قنوات التلفزة هذه ليست قنوات إخبارية، إلا أنها ترصد ميزانية كبرى لقسمها الإخباري بهدف صناعة الحدث أو تطويعه وتوجيهه بحسب الميول الطائفية والحزبية حيث وقع ضحيتها قناة الدولة الرسمية (تلفزيون لبنان) التي أقفل البث فيه أكثر من مرة بسبب أزمات تنوعت بين السيطرة الحزبية والفساد الإداري والأزمة المالية، وهو اليوم على حافة الانهيار الكامل في مشهد يحاكي حالة الدولة والجمهورية.

ولذا كان كلام فيلسوف الدستور اللبناني ميشال شيحا في محله عندما رأى أن "كل ما تكسبه الفكرة الطائفية تخسره الأمة"[12]. هذا فضلا عن المرافق العامة الأخرى التي تخضع بمعظمها إلى نفوذ الأحزاب وتبادل المصالح. 

فقضية كبرى مثل انفجار مرفأ بيروت الضخم جدا -الذي سمي "بتروشيما" تشبيها له بانفجار هيروشيما في الحرب العالمية الثانية- الذي حصل في 4 أغسطس/ آب 2020 كان له تأثيره المباشر على العالم كله من خلال ما أحدثه الانفجار من اضطرابات مؤقتة في طبقة "الأيونوسفير" بالغلاف الجوي للأرض[13]، حيث مُنع القضاء من متابعة التحقيق في أسباب الحادث بعد الدعاوى القضائية التي قدمها وزراء الثنائي الشيعي وتيار المردة والوزير نهاد المشنوق المنشق عن تيار المستقبل ضد قاضي التحقيق بتهمة "الارتياب المشروع" ولم يبت بتلك الدعاوى حتى الآن، وغدت الجريمة بلا مجرم!

ثانيا: التحولات في موازين القوى اللبنانية من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية-الأيديولوجية

خرج الدروز من معركة الجبل نهاية عهد القائمقاميتين منتصرين عسكريا على الموارنة مهزومين سياسيا أمامهم بفعل مؤتمر بروتوكولات 3 أغسطس/ آب عام 1860 المنعقد في باريس الذي نقل لبنان إلى نظام المتصرفية معطيا الغلبة في الإدارة السياسية للمتصرفية إلى الموارنة.

وبهذا البروتوكول بدأت مسيرة العصر الذهبي للمارونية السياسية التي توّجت بتحقيق حُلم إقامة دولة ذات سيادة مستقلة تكون الكلمة الفصل لها، عام 1920 بعد إعلان الجنرال غورو إنشاء دولة لبنان الكبير.

ثم استكملت المارونية السياسية صعودها بتحقيق مكاسب كبرى لها دستوريا وعرفيا في إدارة الدولة من رئاسة الجمهورية رأس النظام السياسي، ربطا بقيادة الجيش رأس النظام الأمني والعسكري، وليس نهاية بحاكمية المصرف المركزي رأس النظام الاقتصادي.

وفي عام 1989 أعاد التاريخ نفسه حيث خرج الموارنة من الحرب الأهلية التي استعرت نارها عام 1975 بعد تاريخ من التفوق الكبير في شتى الميادين، منهزمين سياسيا بفعل بنود مؤتمر الطائف الذي نقل الصلاحيات الواسعة من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعا برئاسة رئيسه السٌنّي، ولم تفلح الحركة الاعتراضية العسكرية لقائد الجيش ميشال عون الذي أعلن حرب الإلغاء على موارنة الطائف، وحرب التحرير على النظام السوري الضامن السياسي لهذا الاتفاق حيث انتهى الأمر به منفيا إلى باريس، مدشنا بذلك نهاية حقبة المارونية السياسية وتوزعت قياداتها بين النفي والسجن والاغتيال، وإعلان البقية منها مقاطعة المشاركة في العمل السياسي، ومؤذنا ببداية صعود الشيعية السياسية.

 وبالرغم من صعود "السنّية السياسية" إلى الواجهة بعد مؤتمر الطائف والنهوض العمراني والاقتصادي والتعليمي والسياحي والاستقرار الأمني الذي تحقق على يد الابن المدلل للمملكة العربية السعودية رفيق الحريري إلا أن هذا الصعود جوبه بالصد من قِبل طرفين أساسيين:

النظام السوري الموجود عسكريا في لبنان بقيادة اللواء غازي كنعان ثم رستم غزالة المتخذين مقرا رسميا لهما في بلدة عنجر البقاعية التي غدت عاصمة الظل للدولة اللبنانية، والطرف الثاني هو الثنائي الشيعي خاصة حزب الله المتهم وفق الحكم النهائي لمحكمة الدولية الخاصة بلبنان الصادر في 18 أغسطس/ آب 2020 بقتل الرئيس الحريري. 

ثم توقف هذا الصعود في المرة الأولى بعد اجتياح حزب الله لمدينة بيروت في 7 مايو/ أيار 2008 وتطويق دار الفتوى، وإسقاط النفوذ العسكري الناشئ لتيار المستقبل المغطى بعنوان شركة أمنية SECURITY+ التي استقطبت المتقاعدين السنة من الجيش والقوى الأمنية حيث ترجم انتصار حزب الله بمؤتمر الدوحة في 21 مايو/ أيار 2008 ضمن فيه الثنائي الشيعي الهيمنة السياسية على لبنان. 

وأدى هذا إلى تجميد مفاعيل الانتصار الانتخابي الكبير لتيار المستقبل وقوى 14 آذار في الانتخابات البرلمانية عام 2009 وذلك عبر إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2011 باستقالة الثلث الضامن منها على خلفية الانقسام الحكومي حول التعامل مع المحكمة الدولية وترأس نجيب ميقاتي الحكومة الجديدة التي ضمّت أكثرية وزارية مغايرة لأكثرية قوى 14 آذار النيابية. ثم شكل إحباطاً في المرة الثانية عند فوز قِوى 8 آذار والثنائي الشيعي بالأكثرية البرلمانية في انتخابات 2018 وتحجيم كتلة تيار المستقبل إلى 21 نائبا بعد أن كانت 37 نائبا من أصل 128 من خلال إقرار قانون انتخابي في مجلس الوزراء جاء على حجم الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وحلفائهما، ثم انكسارا تاما إثر تعليق تيار المستقبل لعمله السياسي وعدم خوضه انتخابات 2022.

أ- المارونية السياسية بين الكيانية والعروبة

دخل مصطلح "المارونية السياسية" إلى المعجم السياسي اللبناني عشية الحرب الأهلية في البلاد (1975- 1990) إثر التصريحات المتكررة اللاذعة التي انتقد فيها "كمال جنبلاط" الهيمنة المارونية على النظام السياسي في لبنان داخليا وخارجيا، وقد ظهرت إرادة الهيمنة في ثلاث محطات مهمة: الأولى عندما أشعل الرئيس "كميل شمعون" فتيلها بإقرار مجلس النواب اللبناني انحيازه إلى حلف بغداد ضد المد القومي العربي الناصري.

والمرة الثانية حين تشكل أكبر وأوسع حلف ماروني ضم الثلاثي "كميل شمعون" رئيس حزب الوطنيين الأحرار، و"ريمون إده" زعيم الكتلة الوطنية، و"بيار الجميل" رئيس حزب الكتائب في محاولة للفوز بانتخابات 1968 والوقوف في وجه النهج الشهابي المتمثل بالرئيس فؤاد شهاب والرئيس شارل حلو وحلفائه السنة كالرئيس رشيد كرامي وصائب سلام والقوى الإسلامية المؤيدة للنهج الناصري، والحاضن للعمل الفدائي الفلسطيني. 

والمرة الثالثة والأخطر كانت في "كراسات الكسليك" التي صاغتها النخب المارونية من عام 1967 حتى عام 1970 وهي اثنان وعشرون كراسا عبرت عن اللاوعي الجمعي الماروني، وشكّلت الأساس النظري المكتوب للمارونية السياسية، وكان لها دور فاعل في تشكيل الوعي الماروني لدى الأجيال الناشئة. 

وحملت هذه الكراريس عناوين عدة مثل: لبنان أمانة في عنق الموارنة، لبنان الكبير مأساة نصف قرن، لبنان المستقبل من الانصهار السياسي إلى الانشطار النفسي والجغرافي، أربع صيغ جديدة لبناء لبنان الجديد... ركّزت في مضامينها على شعار "التعددية الحضارية" مقابل شعار "العروبة" أو مقابل موروث عربي خلط بين العروبة والإسلام، إضافة إلى الإقرار بأن إله الإسلام هو إله السطوة والبطش، وأن اللغة العربية والعروبة معها ترمي العقل العربي في الانحرافات، وأن هذا العقل غيبي مغرور وسخيف ومتخلف وساذج وسلفي لا يتطلع إلا إلى مقابر الزمن، وهو مازال في مرحلة الشعوذة والسحر.

كراسات "لم تبق للصلح مكانا" وهو ما حدا بـ"روبرت أميس" أحد قادة جهاز الاستخبارات الأميركية الذي قضى في انفجار السفارة الأميركية في بيروت عام 1983 ليقول: "هناك ما يكفي من الكراهية في لبنان لملء العالم كله"[14].

وهذا ما دفع بمؤسس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل ليقول "مستعدون للاستعانة بالشيطان إذا لزم الأمر"[15] وهو العامل السيكولوجي المتواري خلف تحالف القوات اللبنانية بقيادة مؤسسها بشير الجميل مع إسرائيل. 

ولقد حولت تلك الكراسات دور المارونية في مشروع بناء الجمهورية إلى دور سياسي عنصري عنوانه الوطن القومي المسيحي، وشكلت التمهيد النظري لمواجهة العروبة بتصويرها "عصبية دينية وعنصرية جديدة وإمبريالية توسعية تعسفية وجاهلية" 

كراريس الكسليك هي نتيجة عملية لتاريخ الصراع الدائر في جبل لبنان خلال حِقبة ما قبل قيام نظام القائممقاميتين عام 1840 وما بعده، مرورا بحِقبة متصرفية جبل لبنان، وليس "نهاية" خلال حقبة الانتداب الفرنسي، حيث سؤال الهوية كان دائم الحضور، والانقسام حول تعريفها وحدّها ورسمها موضوع نزاع وتجاذب، هل هوية لبنان عربية/سورية؛ أم كيانية/لبنانية؟ 

وساد خطاب ماروني -مسيحي خلال فترة المتصرفية فحواه أن لبنان ليس هوية رسمية فقط، بل هوية قومية تاريخية، فكما أن سكان سوريا سوريون، وسكان العراق عراقيون، وسكان فلسطين فلسطينيون... ولهؤلاء الحرية أن يعدوا أنفسهم عربا يشتركون مع بعضهم في هوية قومية واحدة إلا أن اللبنانيين يبقون لبنانيين لا تجمع بينهم وبين العرب إلا وحدة اللغة من باب المصادفة التاريخية[16].

فمصلحة الموارنة وحقهم يكمن في قيام نظام سياسي للبنان يكون للموارنة والمسيحيين فيه الصوت المقرّر تحت حماية الفرنسيين سياسيا والفاتيكان دينيا بذريعة عدم تكرار دورات العنف ضد المسيحيين والتخلص من هيمنة الأكثرية الإسلامية في المنطقة واستبدادها[17]. 

وخطاب الخصوصية هذا بدأ الشعور به إثر زوال حكم الصليبين عن الشرق ورؤية البطريركية المارونية الحاجة إلى الاتحاد مع الكنيسة الغربية بهدف تأمين الحماية والدعم[18].

ثم توالى الميول نحو الغرب وتوّج بتأسيس المدرسة المارونية في روما عام 1584، ثم نسج الموارنة عبر "آل الخازن" خلال القرن الرابع عشر وما بعده خيوطهم بالنَوُل الفرنسي حيث أصبح هؤلاء يعيّنون كنواب وقناصل لفرنسا في لبنان، ومنذ ذلك الحين أصبح الموارنة يعدون فرنسا صديقتهم وحامية مصالحهم[19].

وبهذه العلاقة أدخل الموارنة تأثير الغرب وعلومه الحديثة ومدنيّته الثقافية إلى لبنان بشكل سلس وهادئ، على عكس التأثير الغربي على الدول العربية الذي جاء بشكل غزو عسكري وثقافي، وأصبح يتسلل إلى نفوس الموارنة الشعور بالتفوق العام حيث لا مظهر اجتماعيا متقدما يوجد في أي مكان آخر في العالم العربي غير لبنان سوى مصر.

إضافة إلى المستوطنين اليهود وهم الأربيو الأصل الذين أضفوا مثل هذا المظهر على فلسطين إلى حد يفوق ما حصل في لبنان، وبذلك فإن الموارنة والمسيحيين عامة يلتقون مع إسرائيل في الجذر الثقافي والسياسي المشترك، وهو ما سهل التحالف معهم خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

والمسيحيون اليوم على استعداد نفسي "حذر" مرة أخرى لهذا التحالف في حال تكرّرت المشهدية ذاتها غير المتحصلة في الزمن الحالي بسبب التغير في التحالفات الدولية ودخول لبنان عصر التجاذب الإقليمي السني الشيعي بين المحور الإيراني والمحور السعودي- المصري.

تماهى الموارنة مع الغرب سياسيا ودينيا، وكرّست فرنسا الحضور القوي للموارنة من خلال إنشاء دولة لبنان الكبير ومنحهم الغلبة من خلال دستور عام 1926. 

وشكل هذا الانسجام هاجسا كبيرا لدى المسلمين في لبنان والدول العربية التي رأت في فرنسا عدوا للمسلمين والعرب، بينما هي في لبنان صديقة للمسيحيين وللموارنة الذين كانوا لا يخفون مشاعر الفرحة كلما أخفق العرب في حروبهم وسياساتهم.

وهذه الحالة استدعت سلسلة مؤتمرات إسلامية في بيروت ضمّت السنة والشيعة معا، رأت أن هوية لبنان الحديثة التي يراها الموارنة هي انسلاخ عن هويتهم التاريخية: الإسلامية دينا، السورية جغرافيا، والعربية سياسيا[20].

ولم تكن صيغة دستور عام 1943 التي قامت بدعم بريطاني على ثنائية حديثة متحالفة بين المارونية السياسية والبرجوازية السنية البيروتية بعد التوصل إلى صيغة توافقية حول هوية لبنان بصفته "وطنا ذا وجه عربي لا شرق ولا غرب" لتُعجب اليمين المسيحي والكتلة الوطنية وحزب الوطنيين الأحرار وحزب الكتائب لاحقا.

فالتماهي الذي ظهرت به الطائفة السنية المنسجمة مع الفدائية الفلسطينية الموجودة في لبنان والقومية العربية الداعمة لها عززت من مكانة السنة السياسية وأزعجت القوى المسيحية كافة بما فيها الكتلة الشهابية المتحالفة مع التيار المقاصدي بزعامة صائب سلام.

حيث بدأ التيار الشهابي يبحث في كيفية كبح الصعود السياسي السني عبر حليف مسلم آخر حتى وجد ضالته في "السيد موسى الصدر" أثناء عهد الرئيس شارل حلو بحسب المؤرخ اللبناني فواز الطرابلسي[21].

حيث بدأ "الصدر" في تحويل الشيعة: إلى "مؤسسة طائفية" عبر تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي مُنح حق الدفاع عن حقوق الطائفة وتحسين أحوالها الاجتماعية والاقتصادية؛ و"مؤسسة سياسية" عبر تأسيس أفواج المقاومة اللبنانية أمل. 

وهذه الحالة ستمهد إلى أول انشقاق بين السنة والشيعة بعد عقود طويلة من التماهي بينهما، بعد أن تتحول المخيمات الفلسطينية وسط الثمانينيات إلى ساحة حرب ضروس بين حركة أمل والفدائيين، وهو ما تحول إلى نوع من الرضا المسيحي على الطائفة الشيعية[22].

ومع ازدياد العمل الفلسطيني المسلح وتوقيع اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرّع العمل الفدائي المسلح ضد إسرائيل انطلاقا من لبنان، بدأ اليمين المسيحي خاصة حزب الكتائب اللبناني يبحث عن كيفية الخلاص من هذه الحالة. 

فمن يقرأ كتاب "الموارنة في الحرب" لصانع الرؤية الإعلامية لحزب الكتائب ومهندس التحالف مع إسرائيل "جوزف أبو خليل" يرى كيف رأى المسيحيون والكتائب في الفدائيين تهديدا وجوديا لهم، حيث إن السنة وجيشهم الفدائي يغيّرون وجه لبنان الماروني "الحضاري" وهم أداة الولايات المتحدة ومهندس سياستها الخارجية "هنري كيسنجر" لجعل لبنان وطنا بديلا للفلسطينيين بعد فشل المحاولة في الأردن واندلاع أحداث أيلول الأسود 1970-1971 التي أنهت الوجود العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية ودخولهم لبنان بتنسيق سوري- عراقي بمظلة سوفيتية[23].

ثم تشجيع "كيسنجر" المسيحيين على الهجرة إلى أميركا ووصول البواخر إلى مرفأ جونية بهذا الهدف وتمنع الكتائب والوطنيين الأحرار عن الاستجابة لهذه الدعوات. 

وأصبح طريق فلسطين يمر من جونية، ولا بد للمسيحيين من بطل يوقف هذه "المهزلة" وهو الدور الذي قام به "بشير الجميل" الذي أعلن الحرب على الفدائيين بعد حادثة عين الرمانة عام 1975 وأعلن معها نهاية لبنان بصيغة 1943 حيث قال "إن صيغة 1943 ماتت ودفنت ووضعنا حجرا كبيرا فوق قبرها كي لا تقوم"[24].

لكن الصيغة لم تمت، إنما الذي مات هو "بشير الجميل" ومات معه حُلم المارونية السياسية بالرجوع إلى العصر الذهبي لها من خلال محاكاة زمن الانتداب وزمن المتصرفية حيث الكلمة الفصل للموارنة.

ودخل الفرقاء المسيحيون في اقتتال داخلي شرس، وابتعد الرئيس أمين الجميل عن نهج أخيه بشير في الرهان على إسرائيل ومحاولته المراهنة على سوريا لتحقيق الحماية وتثبيت الوجود المسيحي في الشرق الأمر الذي أدى إلى إحداث ردة فعل مسيحية واسعة ناقمة عليه حتى ممن هو من رحمهم كحزب الكتائب والقوات اللبنانية وصلت إلى حد المطالبة المتكررة له بالاستقالة.

وخسر المسيحيون موقع رئاسة الجمهورية بشغور المنصب إثر نهاية ولاية الرئيس الجميل لأول مرة في تاريخ لبنان ودخلت البلاد بـ"حرب الإلغاء" التي قادها الجنرال ميشال عون بوجه القوات اللبنانية والبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير الموافقين على اتفاق الطائف الذي جرّد رئيس الجمهورية من الصلاحيات الواسعة التي كانت ممنوحة له وحسم هوية لبنان بأنه "عربي الهوية والانتماء".

ثم فتح الجنرال "حرب التحرير" التي قادها ضد الجيش السوري لإخراجه من لبنان، وانتهى الأمر به لاجئا في السفارة الفرنسية بعد اقتحام الجيش السوري لقصر بعبدا، ومعه انتهت الحرب الأهلية اللبنانية، ودخل لبنان عصر اتفاق الطائف، وأفول حقبة المارونية السياسية وبداية الشراكة بين نفوذ السنية السياسية والشيعية السياسية.

ب- القوى السياسية في لبنان من اتفاق الطائف حتى طوفان الأقصى

بعد اتفاق الطائف ودخول لبنان عمليا تحت الوصاية والهيمنة السورية كانت أولى مشاهد النظام السياسي الجديد هو الإحباط المسيحي الواسع بعد تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لأول مرة منذ دستور عام 1926، ثم نفي الجنرال ميشال عون إلى فرنسا، ومغادرة عدد من القيادات المسيحية البلاد كالرئيس أمين الجميل وريمون إدة.

ثم اعتقال سمير جعجع ودخوله السجن أحد عشر عاما بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة بعد أن لعب دورا مهما في مقاطعة المسيحيين الانتخابات النيابية بمباركة البطريرك الماروني عام 1992 بسبب قانون الانتخاب الذي قسّم الدوائر الانتخابية بطريقة مغايرة لما اتفق عليه في الطائف، حيث استمرت المقاطعة حتى عام 2002.

 بات المشهد السياسي كالآتي: أفول نجم الأحزاب والقوى المسيحية وانهيار المارونية السياسية ودخولها مرحلة العزلة والتفكك، في ظل بروز السنية السياسية بشخص الرئيس رفيق الحريري الذي لعب دورا محوريا في مشهدية اتفاق الطائف مهندس صلاحيات رئيس الحكومة، وثورة نهضوية شيعية على غرار نهضة الموارنة خلال القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.

1- على الجانب المسيحي: برزت قيادات وشخصيات مسيحية ضعيفة، معظمها ملحق تحت كنف الراعي السوري وعادت "بكركي" لتلعب دور الأم للطائفة المارونية المعبّرة عن همومها والحاضن لمؤتمراتها كمؤتمر البريستول وقرنة شهوان المناهض للوجود السوري، والمطالِبة بعودة قياداتها لتلعب دورها على الساحة المحلية كبقية الفرقاء الآخرين. 

وبعد عودة الرئيس أمين الجميل والجنرال ميشال عون وخروج سمير جعجع من السجن عام 2005 ودخولهم من جديد المعترك السياسي وبالتالي استدعاء الانقسام المسيحي مرة ثانية بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون، دخلت القوات في تحالف قوى 14 آذار المناهض لسوريا، المستند إلى الظهر السعودي، ومن خلال هذا التحالف عززت القوات اللبنانية والبطريركية المارونية العلاقة القديمة مع السعودية التي كانت ترتبط بمراسالات الملوك السعوديين بالبطاركة الموارنة خاصة خلال الحرب اللبنانية وقبول القوات اللبنانية بالسعودية كراعٍ رسمي لاتفاق الطائف.

ثم تطورت هذه العلاقة لتتوج بزيارة البطريرك "الراعي" إلى السعودية لأول مرة في التاريخ عام 2017، وظهور سمير جعجع كرجل السعودية الأول في لبنان وهو الخصم الأكبر للثنائي الشيعي والمحور الإيراني سياسيا وحتى قتاليا خاصة بعد أحداث الطيونة في عام 2021، ثم ابتعاده المستمر عن الغرب وفرنسا تحديدا بسبب الدور الفرنسي المساند لحزب الله عبر مهندسها، وزير حزب الله "علي حمية" الذي يحمل في الوقت عينه الجنسية الفرنسية.

حيث منح الحزب امتيازات اقتصادية لشركة "توتال" الفرنسية في التنقيب عن الغاز في حقل قانا في المياه اللبنانية، وشركة “سي إم أيه” في إدارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت، فضلا عن نسج العلاقات بين الوجود القوي للشخصيات الاقتصادية الشيعية في غرب إفريقيا وتنسيقها مع الشركات الفرنسية صاحبة النفوذ فيها[25].

لذا فإن السعودية ترى في القوات اللبنانية وسمير جعجع ما كانت تعول عليه في تيار المستقبل وهو الذي انهار بسرعة البرق قتاليا أمام حزب الله عام 2008 وظهر رئيسه في مظهر المهادن والمتنازل للثنائي الشيعي خلال فترات توليه رئاسة الحكومة خاصة الأخيرة منها. 

وعليه فإن القوات اللبنانية في حال قدر لها أن تعيد تسلحها ستكون صوت المحور السعودي في مواجهة المحور الإيراني، وهي اليوم لا شيء أمام قدرات حزب الله العسكرية وجلّ ما تستطيع القيام به اليوم قتاليا هو مناورات على شاكلة أحداث الطيونة.

على الوجه الآخر رأى ميشال عون في السنة خصما تاريخيا في استدعاء جديد لرؤية كراسات الكسليك خاصة في ظل ما أسماه نفوذ الحريرية السياسية وتحميلها وزر المديونية الثقيلة في ميزانية الدولة وإعلان القطيعة معها من خلال إصدار كتاب "الإبراء المستحيل" والدخول في تفاهم مار مخايل مع حزب الله وإحياء تحالف الأقليات الذي دشنه إيلي حبيقة ورفعت الأسد في مواجهة الأكثرية السنّية[26]. 

ولم تتغيّر رؤية التيار العوني للسنة حتى بعد تأييد تيار المستقبل انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية وزيارة الأخير إلى المملكة العربية السعودية مطلع ولايته الرئاسية.

2- أما على الصعيد السني: فقد كان رفيق الحريري شخصية تجاوزت أبعادها ونفوذها حدود لبنان، وهو ما جعل الإدارة السورية في لبنان تقف منه موقف المعادي وتقلّب عليه الخصوم السياسيين خاصة رئيس حركة أمل نبيه بري.

ثم إجباره بالموافقة قسرا على قبول التمديد للرئيس إميل لحود الخصم اللدود للحريري، حيث اضطر الأخير إلى التحالف الضمني مع القوى المسيحية وتحالف قوى قرنة شهوان المعادية تقليديا للمسلمين والدخول معها في تحالف انتخابي ضمني ما سرّع بالبحث في كيفية التخلص منه.

وهو ما حصل في العام نفسه عندما تعرّض الحريري للاغتيال وعدت سوريا على نطاق واسع مسؤولة عن الجريمة حيث واجهت ضغوطا دولية مكثفة أهمها سعودية[27] للمطالبة بتطبيق القرار 1559 القاضي بخروج سوريا الفوري من لبنان التي خرجت منه بعد ما يقارب ثلاثين عاما على وجودها فيه تحت وطأة مظاهرات غير مسبوقة عدها أصحابها بمثابة الاستقلال الثاني للبنان.

إثر اغتيال الرئيس الحريري تكوّن لدى السنة شعوران: الأول أن وجودهم في لبنان مستهدف، وهو الدافع خلف الالتفاف الشعبي الواسع الذي لا نظير له في تاريخ السنة في لبنان حول ورثة الحريري.

والشعور الثاني هو الانفكاك عن الامتداد العربي الذي طالما شكّل محور المخاصمة العامودية مع القِوى المسيحية حيث خرج السنة يهتفون بأعلى صوتهم مع من انضم إليهم من القوى الأخرى المسيحية والدرزية بعد شهر واحد على اغتيال الحريري في 14 آذار ضد سوريا مقتربين من السياسة الغربية التي رأت فيهم شريكا في معركة حياة أو موت ضد سوريا وشركائها الشيعة. 

وقد تعمق الشعور السني بالانفكاك عن المحيط العربي ودخولهم في إحباط مماثل للقوى المسيحية بعد هيمنة الشيعة على المشهد السياسي اللبناني وإقامة تحالف مؤيد لسوريا الذي خرج في مظاهرة شعبية حاشدة في 8 آذار تحت شعار "شكرا سوريا" إثر خروج قواتها من لبنان وهو ما عد تحديا لما سمي "ثورة الأرز" ومعركة "الاستقلال الثانية" التي بان أطرافها في تظاهرة 14 آذار. ثم تعمّق الانفكاك إثر اجتياح حزب الله لمدينة بيروت في 7 أيار 2008 وإسقاطه تيار المستقبل.

اليوم وبالرغم من تشكيل السنة حوالي ثلث الشعب اللبناني إلا أنهم طوّروا في أنفسهم وعقلهم الجمعي عقدة الأقلية[28] نتيجة شعورهم بالإحباط بسبب تهميشهم سياسيا وإداريا، ولولا نص الدستور والعرف اللبناني على الموقع السنّي لرئاسة الحكومة وبعض المراكز في الفئة الأولى لكان السنة في أضعف هامش سياسي لهم. 

وما عزّز هذا الشعور هو التهميش في الإنماء الاقتصادي حتّى أصبحت مناطقهم الأكثر فقرا خاصة الشمال اللبناني، بالإضافة إلى محاولة حزب الله الهيمنة الكلية على السنة من خلال إنشاء خلايا له ضمن الطائفة السنية تحت مسمى "سرايا المقاومة" وهو ما يعده السنة أداة لاختراق واقعهم وخلق بيئة معادية لهم من الداخل[29].

الأمر الذي عزز البيئة السنية ضمنا الالتزام المذهبي خاصة بعد ملاحقة الناشطين المناصرين لقضايا الثورة السورية والزج بهم في السجون وتكوّن ملف مظلومية "الإسلاميين" الذي أصبح مصدر كراهية تجاه الشيعة.

3- أما على المقلب الشيعي: لقد أرخى القتال العنيف بين حركة أمل وحزب الله في ثمانينيات القرن العشرين فيما سمي بحرب الأخوة ظلاله على حقبة ما بعد الطائف، فكانت التسوية السورية- الإيرانية التي رسمت الحد الفاصل بينهما بحيث يستحوذ حزب الله بأفضلية إدارة العملية القتالية ضد الاحتلال الإسرائيلي، مقابل أفضلية لحركة أمل في استحواذها على إدارة العملية السياسية الداخلية في أنساقها المؤسساتية والخدماتية وفي علاقات الطائفة مع الدولة والطوائف الأخرى. 

فسوريا مهتمة بدرجة أساسية في تثبيت مقاربتها للتسوية بإدخال حلفائها اللبنانيين ومنهم حركة أمل في معادلة السلطة، بينما كانت إيران مهتمة بتثبيت مقاربتها الإسلامية الثورية للصراع مع إسرائيل وتعزيز حضور حليفها حزب الله في معادلة المقاومة. 

وانعكس هذا التفاهم بشكل جلي خلال العدوان الإسرائيلي عام 1993 "حرب الأيام السبعة" وعام 1996 "حرب نيسان"، وظهر التنسيق السياسي والعسكري واسعا خلال معركة التحرير عام 2000، وازدادت فعاليته خلال حرب تموز 2006. 

وما زاد من شد الروابط بينهما ما عده حزب الله وحركة أمل تحديا مشتركا خطرا عليهما من خلال مواجهة نفوذ تيار المستقبل داخليا، وخارجيا من خلال اندلاع الأحداث السورية ومحاولة إسقاط النظام السوري الذي أصبح يمثل بعد تولي بشار الأسد سدة الرئاسة العمق الإستراتيجي لشيعة لبنان. 

وهذه العلاقة انعكست تفاهما سياسيا واسعا أصبح يتجلى باستمرار في الانتخابات البرلمانية والبلدية، وعلاقة حزبية متينة حتى أصبحا كالثنائي المتحد، فحيث تكون أمل يكن حزب الله، وحيث يكون حزب الله تكن أمل.

وبدأت المعادلة الداخلية تتغير في لبنان أعقاب ما أسماه حزب الله انتصارا على إسرائيل في حرب تموز 2006 وإرادة الثنائي استثمار الانتصار داخليا من خلال تصحيح ما عد تهميشا طويلا لدور الشيعة وحجمهم في المعادلة اللبنانية التي اقتصر نفوذها على ثنائية مارونية- سنية. 

وعلى إثر التباين العامودي بين مكونات الحكومة حول المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري واستقالة الوزراء الشيعة منها عام 2011 والمطالبة باستقالة الحكومة بوصفها فقدت المكوّن الشيعي فيها وأصبحت بحسب قوى 8 آذار فاقدة للشرعية والميثاقية ثم فشل الحوار الوطني الذي قاده الرئيس نبيه بري، شن حزب الله وحلفاؤه معركة محاصرة السراي الحكومي بهدف إسقاط الرئيس فؤاد السنيورة بأطول اعتصام جماهيري مفتوح في لبنان استمر لما يزيد عن السنتين ضمّ مختلف مكونات قوى 8 آذار، تحول معه السرايا الحكومي مركز استقطاب للحشود السنّية وتحويل يوم الجمعة فيها إلى مسجد تقام فيه صلاة وخطبتي الجمعة التي حضر أول انطلاقة لها مفتي الجمهورية اللبنانية، ثم استكمل الاعتصام باجتياح حزب الله وحركة أمل لمدينة بيروت في 7 أيار ووقوع ما يزيد عن مئتي ضحية لتيار المستقبل.

الأمر الذي أفضى إلى تدخل عربي وقطري لاجتماع الأفرقاء في الدوحة حيث تضمنت التسوية بندا رئيسا وهو الاعتراف للشيعة وحلفائهم بحق الفيتو من خلال إعطائهم الثلث "الضامن" أو "المعطل" في الحكومة، ثم تَرجم مفاعيلها حزب الله الذي أمسك بالقرارات الأمنية الحربية بما يشبه الحق الحصري في قراري الحرب والسلم.

الترجمة العملية للهيمنة الشيعة وتصاعدها بعد اتفاق الدوحة تمثل في إيصال حزب الله الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة كمرشح وحيد ومنع انتخاب أي مرشح آخر بعد شغور كرسي الرئاسي إثر انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان مدة عامين ونصف العام. 

ومع تزايد فائض القوة في ميزان الثنائي تم إلزام منصب وزير المالية حصرا الى شخصية شيعية في حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014 ثم الحكومات المتعاقبة حيث يكون له الحق في أن يضم توقيعه إلى جانب توقيع رئيس الجمهورية المسيحي ورئيس الحكومة السني تحت مسمى "الميثاقية" أخفت في طياتها مطلب الشيعة بنظام المثالثة في الحكم حتى أصبح مطلبا واضحا في عام 2020. 

ثم ازداد اتضاح مدى هيمنة الشيعة على الواقع اللبناني الحاضر من خلال إفشال الرئيس سعد الحريري في تشكيل الحكومة عام 2020 والإتيان بشخص سنّي ليس له أي حيثية شعبية حتى بين جيرانه في السكن وهو "حسان دياب" الذي كلف بتشكيل الحكومة الذي صاغها على مقياس حزب الله وحركة أمل ومعهما التيار الوطني الحر[30].

وهو يعيد الكَرّة مرة أخرى اليوم بمحاولته فرض ترشيح سليمان فرنجية بعد ما يقارب العامين على الشغور الرئاسي بنهاية ولاية الرئيس ميشال عون. 

ففي حال نجاح الثنائي في انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية فهذا يعني إكمال الشيعية السياسية صعودها، وفي حال عدم نجاحه فهذا يعني بداية كبح صعود تلك الهيمنة التي أكثر من يجابها اليوم حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، وهذا ما ستظهره الأيام القادمة والتسوية الشاملة التي ستحدث بعد نهاية حرب غزة التي دخلها حزب الله وفي يده حصرا قرار السلم والحرب.

فهل سيدخل لبنان في حرب موسعة مع إسرائيل بعد ما يقارب التسعة أشهر على فتح جبهة الجنوب المساندة لحرب غزة؟

ثالثا: لبنان بين حرب طوفان الأقصى والتحديات الداخلية والضغوطات الخارجية

اعتاد حزب الله في أدبياته الخطابية التركيز على أن الصراع مع إسرائيل هو صراع وجودي وعقائدي لا نهاية له إلا بزوال إسرائيل واسترجاع المقدسات الإسلامية وتحرير المسجد الأقصى. 

هذا الخطاب هو امتداد للنهج الإيراني الذي تبنى الفصائل القتالية في العالم العربي المناهضة للمشروع الإسرائيلي حتى غدت إيران زعيمة حلف المقاومة والممانعة. 

فإسرائيل مازالت تحتل أراضي لبنانية يجب تحريرها كمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهي تحاول بشكل دائم كسر محور المقاومة، وما حدث في سوريا بالنسبة لحزب الله ليس سوى مؤامرة أميركية إسرائيلية لضرب المحور وتحجيمه[31].

أصبح خطاب حسن نصرالله يتصاعد في الآونة الأخيرة في فترة ما قبل 7 أكتوبر ويحذر من المساس بالمقدسات الإسلامية حيث هدّد بشكل صريح في 2023 أنه إذا تم الاعتداء على المسجد الأقصى ستدخل المنطقة كلها في حرب إقليمية قاسية، وأن أي مساس بأي طرف من أطراف المحور سيدخل إسرائيل في حرب شاملة مع المحور ضمن نظرية "وحدة الساحات"، وأصبح الخطاب العام لحزب الله يوحي بأن الحزب ينتظر اللحظة ليدخل في حرب كسر عظم مع إسرائيل.

فاجأت حماس العالم في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبغض النظر إذا كانت حماس أبلغت المحور أو لم تبلغه، فإن حماس جزء من المحور، وكسرها يعني كسر لأحد أجنحتها، وبدا الحزب محرجا أمام جمهوره وحلفائه السنة وخصومه المشكّكين دائما به بعدم دخوله الحرب بعد مرور عدة أسابيع على العملية، فمصداقيته أصبحت على المحك وهو الذي لم يتوان لحظة عن دخول معركة سوريا ويرى أن طريق القدس يمر عبر الزبداني وماضايا وحمص وحلب، ويرسل خبراء عسكريين ومدربين ميدانيين إلى اليمن والعراق بحجة دعم المحور الذي هو في إعداد دائم لمقاتلة إسرائيل. 

فها هي المعركة فتحت في غزة وأوحت بالنصر الكبير الذي يمكن أن يتحقق، ولا يفصل العدو الإسرائيلي عن حزب الله سوى خط أزرق وهمي، وجدار إسمنتي بسماكة 35سنتم، فلماذا لا يدخل الحرب.

أمام هذه الإحراجات دخل الحزب الحرب بشكل خجول وتدريجي، فلم تكن ضرباته في البداية مؤذية حيث الضربات كانت تتناول الأطراف القريبة وأعمدة البث، فهو لا يريد تدخلا أميركيا خاصة بعد أن قدِمت الولايات المتحدة بأساطيلها الحربية إلى شرق المتوسط لحماية إسرائيل وردع حزب الله في حال تدخله المباشر في الحرب واقتحام الشمال الإسرائيلي من جهة.

 ومن جهة أخرى هناك حسابات داخلية لبنانية ستتعالى ضده وتحمّله مسؤولية دمار لبنان خاصة أنه هو الذي فتح المعركة على إسرائيل لا العكس، فضلا عن توجس حزب الله أن تشن إسرائيل حربا خاطفة عليه وهو لم يرتب نفسه عسكريا، ففصائله أنهكت في الحرب السورية وفقدت الكثير من عناصرها.

أصبحت الحكومة الإسرائيلية تقع تحت ضغوط داخلية بسبب تقاعسها عن حماية الشمال ونزوح السكان عن المستوطنات، فبدأت إسرائيل تتوسع في الضربات، وترى أن الحزب تجاوز حدوده. 

توسعت العمليات الإسرائيلية حتى وصلت إلى العمق اللبناني واغتيال قيادات عسكرية وسياسية نالت المستشارين الإيرانيين وتدمير القنصلية الإيرانية في سوريا، واغتالت القيادي بحركة حماس صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية، وحسام الطويل وقيادات الجماعة الإسلامية في العمق الداخلي.

ودفع هذا حزب الله بدوره ليطور من عملياته ويوسع من عمق الاستهداف ويستخدم أسلحة أكثر تقدما مثل صواريخ بركان ويدخل المسيرات الأكثر تطورا على خط المواجهة التي حققت بعض الإصابات النوعية. 

وما زاد المشهد تطورا وتصعيدا هو اغتيال إسرائيل القيادي "طالب العبد الله" قائد إحدى الوحدات العسكرية الخمس لحزب الله داخل العمق اللبناني، وتصاعد الخطاب داخل الحكومة الإسرائيلية المطالبة بإيقاف تمادي حزب الله عبر توجيه ضربة مؤلمة كبيرة له، فضلا عن ذلك فإن إسرائيل ماضية في حربها وتصعيدها بالرغم من قرار مجلس الأمن بوقف الأعمال القتالية من جهة، وتوسع جبهة العداء الدولية لإسرائيل من جهة أخرى.

وأمام هذا المشهد نحن أمام سيناريوهات ثلاث:

الأول: ضغط دولي بعدم التصعيد، وضغط من الداخل الإسرائيلي بعدم فتح جبهة الشمال وتوسيع الحرب، لا سيما أن الجيش أُنْهِك في غزة ولم يستطع حسم المعركة، كما أن الصفقة الأميركية مازالت قائمة ويُعمل على إنضاجها للوصول بها إلى النهاية. وهذا الاحتمال مستبعد نوعا ما؛ بسبب حِدة الخطاب داخل الحكومة الضاغط على نتنياهو بفتح جبهة الشمال.

الثاني: أن يحدث تصعيد أكبر والوصول إلى "نصف حرب" تحصل من خلال توجيه ضربات جوية تطال الضاحية الجنوبية والعمق الإستراتيجي لحزب الله في منطقة بعلبك، وهو ما سيواجه بتصعيد مماثل لحزب الله لكن دون المساس بالخطوط الحمراء لدى الطرفين كعميلة قتل تطال الأمين العام أو أحد مساعديه الكبار، أو ضرب تل أبيب والمفاعلات النووية. وهنا سيضغط على المجتمع الدولي والداخل الإسرائيلي أكثر لإيقاف الحرب، وهذا السيناريو مرجح في الفترة القليلة القادمة.

الثالث: أن تستمر الحرب في غزة والقتال المتبادل بين إسرائيل وحزب الله على حاله إلى أن تحين الانتخابات الأميركية، ففي حال فوز دونالد ترامب فإن الحرب ستتوسع بشكل كبير تشتعل المنطقة كلها معها عبر التدخلات العسكرية على الأرض، وربما يصل الأمر إلى حرب شاملة. 

تبقى المفاجآت التي يمكن أن تغير المسارات والاحتمالات كلها، خاصة تلك التي يمكن أن تحصل في الداخل الإسرائيلي الذي يشهد احتقانا كبيرا وصل إلى حد التحذير من نشوب حرب أهلية.

فالمظاهرات المطالبة باستقالة نتنياهو تزداد وتكبر يوما بعد يوم، والخلاف مع أركان القادة السياسيين يتدحرج ويكبر خاصة بعد استقالة الوزيرين بمجلس الحرب الإسرائيلي بني غانتس وغادي أيزنكوت ومطالبتهم بإجراء انتخابات مبكرة، وكذلك الخلاف مع القيادة العسكرية التي تحمّل نتنياهو الإخفاق ومسؤولية 7 أكتوبر وهو بدوره يحملها الإخفاق والمسؤولية ذاتها.

إضافة إلى التباين والخلاف الذي يظهر بين فينة وأخرى بين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، فضلا عن الخلاف مع الإدارة الأميركية التي يمكن أن تحدث انقساما داخل حزب الليكود تنهار الحكومة على إثرها.

خاتمة

"بيت بمنازل كثيرة".. بهذه العبارة وصف المؤرخ اللبناني "كمال الصليبي" لبنان، وإن البحث في تاريخ منازله ليس مجرد بحث عن المعرفة، بل هو كذلك بحث عن الفهم والإدراك والحكمة والتقدير واستشراف المستقبل. ويمكن أن نستنج من خلال ما سبق ما يلي:

- إن مطلب الاستقرار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والتوصل إلى لغة جامعة وهوية واضحة مطلب جميع اللبنانيين، لكن إمكانية تحقق هذا الأمر مازال صعب المنال في ظل الطموحات المتناقضة، وصراع المحاور، وصعود النزاعات الدينية، والتشدّد المذهبي خاصة بين السنة والشيعة، ولذا فإن سؤال الهوية في لبنان يبقى أقرب ما يكون إلى المأساة منه إلى التاريخ والسياسة.

- إن التقدم السياسي والاجتماعي الذي حدث أو سيحدث بفعل الدمج الاقتصادي والثقافي بين اللبنانيين سيبقى يتضمن في الوقت عينه عنصر تفجيره وهو الصاعق الطائفي، ما لم تتكوّن إرادة حل إشكالية التنوع هذه عبر إدارته بشكل حضاري، والتنوع الموجود في لبنان ليست حكرا عليه وحده، فهو سِمة كونية عامة موجودة في كل المجتمعات، وثمة بلدان نجحت في إدارة التنوع والنهوض ببلادها بعد أن كانت غارقة في الانقسامات مثل ماليزيا وسنغافورة وسويسرا وبلجيكا، حتى غدت هذه البلاد بمثابة سيدة الثنائيات.

- حدّد دستور لبنان عام 1943 بأن لبنان له "خصوصية" لا هو شرق ولا هو غرب، هو ذو وجه عربي. ثم نص اتفاق الطائف عام 1989 على أن لبنان عربي الانتماء والهوية، ثم نقل اتفاق الدوحة وجه لبنان عام 2008 كليا إلى الشرق. وفي واقع الأمر فإن ما كتب في النصوص يختلف إلى حد واسع عما هو في النفوس.

فاللغة الفرنسية التي يتحدث بها قطاع واسع من المسيحيين تخفي في طياتها الشعور بالانتماء نحو الغرب، ولا تزيد قوة المحور الإيراني ونفوذه الواسع في لبنان الشيعة إلا ازديادا في الانتماء إلى نظرية ولاية الفقيه والارتباط المباشر بمرجعية مرشد الثورة الإيرانية، ولن يزيد شعور الضعف الذي يلاحق السنة اليوم إلا ازديادا بالتمسك الديني من حيث الشكل أو من حيث التشدد وهو في الحالتين تعبير عن الإحباط.

- ثمة ضجيج واضح في لبنان اليوم بين مطالبة الثنائي الشيعي بمؤتمر تأسيسي على مبدأ المثالثة يعاد من خلاله تكوين القاعدة الطائفية للبنان وليس النظام السياسي فيه فقط، وبين دعاة الفيدرالية والتقسيم التي يتبناها قطاع واسع من الموارنة والمسيحيين، حيث تظهر بين الفينة والأخرى خرائط جغرافية لوجه لبنان المقسم بالألوان ذات الدلالات الطائفية والمذهبية والكنتونات الإدارية وتوزيع النفوذ. من بين تلك الدعوات ربما تكون اللامركزية الموسعة الخيار القادم إلى لبنان.

- حينا يكون طريق القدس يمر من جونية، ومرة أخرى يمر من المدن السورية، وحينا تكون فرنسا الأم الحنونة، ومرة أخرى تكون سوريا الحامي، وأحيانا السعودية أو مصر العمق الديني والثقافي. ومرة يكون المشروع قوميا عربيا، وحينا قوميا سوريا، وأحيانا علمانيا، ومرة دينيا. ومرة يعد المسيحيون أنفسهم كالسوسنة بين الشوك، وآخرون مثل شجرة الزقوم، ومرة توصف فئة معينة بأنها أطهر الناس وآخرون ينعتون بالعملاء، ما يجعل من الإجماع اللبناني يعود في كل فترة إلى نقطة الصفر مكونا معه في كل مرة خوفين: 

خوف على لبنان، وخوف على كل طرف فيه. الأمر الذي يدل على أن اللبنانيين مازالوا في مرحلة الجماعات وبينهم وبين مرحلة "الأمة" مسافات طويلة.

- إذا كانت اللبنانية هي الهوية الوطنية فإن نصفها الثاني العملي والمكمل لها هي المواطنة البديل الحديث للولاءات التحتية الغريزية، وإن تدمير وجه التجربة الديمقراطية للبنان والخوف من استنساخها يوحي بأن مصير الأنظمة الديمقراطية مشابه للنظام اللبناني. 

لكن تبقى كلمة رئيس الحكومة السابق سليم الحص حين قال: "في لبنان كثير من الحرية وقليل من الديمقراطية" الأقرب إلى الواقع، لكن الحرية هذه هي ميزة لبنان، وهي التي جلبت الأطراف المتناقضة كافة ليكون لبنان منبرا إعلاميا لها وقلما حرا لمريديها، وجعلت من لبنان متنفس العرب نحو التعبير الحر.

ولا يوجد أدل على ذلك اليوم من أن حركة حماس ليس بإمكانها التصريح الإعلامي في العالم إلا من لبنان حيث لا تحرج الدولة بذلك كما هو الحال مثلا مع قطر أو تركيا التي توجد فيها القيادات السياسية لحماس.

- أظهر التاريخ والحاضر أن الشارع والشعبوية هي من تقود النخب السياسية والدينية والثقافية في لبنان ، ولا يوجد أوضح من جواب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على السؤال الصحفي له عن خلفية تهديده بسحب وزرائه من الحكومة عام 2008 إن لم تتخذ قرارا بإلغاء شبكة الاتصالات اللاسلكية التابعة لحزب الله وإقالة مدير جهاز أمن المطار، الأمر الذي أوصل البلاد إلى الدخول في "حرب أهلية مصغرة" حيث قال: "تحمّست، حمسوني".

- إن مطلب تحديد الهوية والطموح المتناقض للأحزاب والقوى يخفي عمدا أو بشكل عفوي مشكلات حقيقية من نوع مغاير هي المشكلات الاقتصادية والمعيشية والتعليمية والتنمية المستدامة وحل مشكلة البطالة وإيجاد فرص العمل. 

فهذه الأمور إن دخلت إلى الوعي السياسي لدى العامة والنخب ربما تحل مشكلة لبنان الراهنة ويعود به الحال إلى مراحل مزدهرة شهدها على مر تاريخه، فالعمل على الشأن الاقتصادي والتنمية المعيشية والحاجة إلى توسيع الأسواق والانفتاح والاستقرار هو عامل مقاوم لأي دعوات تقسيمية أو فيدرالية. 

فمطلب الهوية هو في حد ذاته مطلب سياسي ونوع من أنواع التمرد على النظام المهيمن وفي حال انتهى التمرد يعلّق معه مطلب البحث عن الهوية، فأي إنسان في العالم له هوية مركبة! وفي حال بقيت الجماعات اللبنانية تقدم الخطاب الطائفي والمذهبي على الخطاب التنموي والاقتصادي فإن الواقع الاجتماعي والنمو الاقتصادي سيبقيان يسيران نحو الانحطاط أكثر فأكثر.

- تفيد دروس التاريخ اللبناني أن الهيمنة لم تدم فيه لأحد، حيث تقلبت موازين القوى فيه بين زمن وآخر، رفعت أقواما وحطت آخرين، وأن الشعور بنشوة القوة شكّلت دافعا نحو تأكيد الذات وتحقيق المكتسبات التي كانت تأتي دوما على حساب الآخرين التي عكست فيهم شعور الإحباط نحو الذات وتكوّن الكراهية نحو الآخر والبحث عن المخلّص من القوة المهيمنة حتى لو كان المنقذ "الشيطان" نفسه. 

فامتلاك السلطة وشعور القوة كانت تتداول بين الأطراف كافة على مرّ الأيام، والإقصاء عن الحكم وشعور الإحباط نال من كل الفئات على مختلف الأوقات. ولم تجرّب أي فئة حاكمة أو مهيمنة أن تتدارك شعور الآخرين ومخاوفهم بالاطمئنان ومدّ اليد للسلام، فكان القوي يحاول فرض ذاته على المخالف له بالتهميش والإقصاء، وعلى المتعاون معه بمنطق التبعية والاستتباع، لا بمنطق التعاون والمشاركة، وغاب بذلك منطق السلام، وحل مكانه منطق الانتقام. 

 

ومن صحب الدّنيا طويلًا تقلّبت    على عينه حتّى يرى صدقها كذبا

 

المصادر

[1] كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة، ترجمة عفيف الرزاز، ط6، 2013، دار نوفل، بيروت.

[2] غسان تويني في كتابه  une guerre pour les autres الصادر عام 1985.

[3] مقابلة الصحفي "مايكل يونغ" مع "بروس ريدل" مؤلف كتاب: بيروت 1958 ودروسها. انظر: مركز مالكوم كير- كارينيغي للشرق الأوسط، في 17 فبراير 2020

[4] باسم الجسر، فؤاد شهاب، ط1، 2018، دار سائر المشرق، بيروت.

[5] جو خوري الحلو، شارل حلو واتفاق القاهرة، ترجمة شربل النجّار، الفصل الحادي عشر تداعيات اتفاقية القاهرة، ط1، 2018، دار سائر المشرق، بيروت.

[6] فواز طرابلسي،  صلات بلا وصل، ط1، 1999، دار رياض الريس، بيروت.

[7] كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة.

[8] جوزف أبو خليل، الموارنة في الحرب، ط1، 1990، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت.

[9] الموارنة في الحرب، ص29.

[10] ​​الموارنة في الحرب، ص206

[11]عدنان الأمين، ورقة بحثية بعنوان: الجامعة اللبنانية من كنف الدولة إلى وصاية الأحزاب السياسية، المفكرة القانونية، في 30 مارس 2021

[12] هذه المقولة للمفكر اللبناني ميشال شيحا: انظر كتاب صلات بلا وصل، ص 179

[13] حازم بدر: انفجار مرفأ بيروت، موقع الجزيرة نت، بتاريخ 4-3-2024

[14] مآسي المارونية السياسية في لبنان المارونية، صحيفة العرب، بتاريخ: 9 سبتمبر 2023

[15] الماورنة في الحرب، ص45

[16] انظر بيت بمنازل كثيرة ص45

[17] محمد ورياض شيا، لبنان الهويات القلقة، ط1، 2023، مكتبة بيسان، بيروت.

[18] بيت بمنازل كثيرة، ص133

[19] بيت بمنازل كثيرة، ص142

[20] لبنان الهويات القلقة، ص 77

[21] المعارضات في لبنان، حسان الزين، مجلة نداء الوطن، 16 مارس 2024

[22] مقابلة مع الناشط السياسي والاجتماعي عيسى خير الدين بتاريخ 13-6- 2024

[23] أيلول الأسود..ذكرى جرح أدمى وجدان العرب، مركز الجزيرة الوثائقية في: 18-9-2019

[24] الموارنة في الحرب ص 123

[25] مقابلة مع الناشط الإداري المهندس طارق يونس، بتاريخ 17-6-2024

[26] مقابلة مع الباحث الأكاديمي اللبناني الدكتور كميل الحاج بتاريخ 17-6-2024

[27] مقابلة مع الناشط السياسي والاجتماعي عيسى خير الدين بتاريخ 13-6- 2024

[28] دور المؤسسات الدينية حيال التطرف في لبنان، روزالي بيرتيير، دراسة غير منشورة.

[29] مقابلة مع ناشط اجتماعي خبير بشؤون الجمعيات الأهلية والنشاطات الاجتماعية، في 15 يونيو 2024

[30] مقابلة مع جهاد الزغبي الناشط الاجتماعي بتاريخ 26-6-2024.

[31] مقابلة مع الباحث الأكاديمي الإعلامي الدكتور عمر كايد بتاريخ 22-6-2024