تصاعد كبير في العمليات النوعية.. كيف تواصل القسام تغذية صفوفها بآلاف المقاتلين؟

“الحديث عن اجتثاث المقاومة أقرب إلى الوهم العسكري”
مئات الآلاف من أطنان المتفجرات أسقطتها إسرائيل على قطاع غزة، واجتاحت مختلف محافظاته مرات عديدة، وارتكبت مجازر هائلة تجاوز عدد من استُشهدوا فيها 60 ألفا، وجوّعت سكانه، ومع ذلك، تتواصل عمليات المقاومة بشكل أكثر فاعلية وشراسة، وكأن صد العدوان قد بدأ لتوّه.
ورغم مرور أكثر من 21 شهرا من القصف والدمار، واستشهاد آلاف المقاتلين، لا تزال صفوف المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تتوسّع بوتيرة لافتة.
خزان متجدّد
اللافت في هذا المشهد المتكرّر أن الخزان البشري للمقاومة لا ينضب، بل يتجدّد حتى في أحلك لحظات الحصار والنزوح والمجاعة.
عمليات التجنيد لا تتوقّف، وعمليات المقاومة –من الاشتباك المباشر إلى محاولات أسر الجنود- تتزايد كمًّا ونوعا، في وقت تبدو فيه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية غارقة في حرب استنزاف لا أفق لنهايتها.
وتسبّب تزايد أعداد المقاومين وتواصل المقاومة واستمرار توافد جنود الاحتلال من غزة إلى الداخل المحتل قتلى ومصابين ومُعاقين، بصدمة لدى المجتمع الصهيوني.
وتُطرح أسئلة في الإعلام العبري مفادها أن “الجيش الذي أعلن أنه قتل 23 ألف مقاتل في حماس –التي كانت الترجيحات أنها تضم من 25 لـ30 ألف مقاتل- من بينهم مقاومو النخبة كافة، يواجه حاليا آلاف المقاتلين بشدّة أكبر، فمن أين جاؤوا؟ وكيف ما زالوا يخرجون من الأرض؟”
كما تشير تقديرات إسرائيلية رسمية، نقلتها صحيفة "هآرتس" العبرية، في 26 مايو/ أيار 2025، إلى أن عدد مقاتلي حماس اليوم يصل إلى نحو 40 ألفا، وأن الحركة نجحت في تعبئة الآلاف في جناحها العسكري خلال الحرب، مع قاعدة دعم شعبية تصل إلى مئات الآلاف داخل قطاع غزة.
وأنه في ظل هذا الواقع، تبدو فرضية استنزاف الجناح العسكري لحركة حماس بشريا غير واقعية، على الأقل في الأمد القريب، حسب الصحيفة.
ونقلت "نيويورك تايمز" الأميركية عن أعضاء في الكونغرس معلومات عن مصادر استخبارية أميركية مفادها أن حماس تمكّنت من تجنيد ما بين 10 إلى 15 ألف مقاتل جديد منذ بداية العدوان على غزة وحتى يناير/ كانون الثاني 2025.
وكان وزير الخارجية الأميركية السابق، أنتوني بلينكن، قد قال في 14 يناير 2025، إن الولايات المتحدة تعتقد أن "العدد الذي جنّدته حماس يُماثل العدد الذي فقدته تقريبا في غزة، ما يعني عدم جدوى استمرار الحرب".
ولا تتوقّف معالم الفشل في هذه الإبادة عند زيادة أعداد المقاومين، بل إن الأخطر -من وجهة نظر إسرائيلية- هو ازدياد جرأة المقاتلين، الذين باتوا، بحسب جيش الاحتلال، لا يكتفون بزرع العبوات وتفجيرها عن بُعد، بل يخرجون من بين الأنقاض للمواجهة المباشرة.
كما استغلّوا مفاجأة اللحظة وسلاح المبادرة، ويحاولون اختطاف جنود، حسب تقرير لصحيفة "معاريف" في يوليو 2025.
بنية متماسكة
لا تنفصل قدرة حماس على الاستمرارية عن بنيتها العسكرية المتشابكة، وعلى رأسها شبكة الأنفاق التي ما تزال تشكّل عنصر التفوق الإستراتيجي الأبرز للحركة.
وأشار تقرير "القناة 12" العبرية، نُشر في أبريل/ نيسان 2025، إلى أن "الجيش الإسرائيلي لم يدمّر سوى 25 بالمئة من شبكة أنفاق حماس"، بينما يقرّ اللواء الإسرائيلي المتقاعد، إسحاق بريك، بأن الجيش فجّر أقل من 10 بالمئة فقط منها خلال عام ونصف من القتال، عادا ذلك "فشلا إستراتيجيا".
وأوضح بريك أن "شبكة الأنفاق تلك سمحت للمقاتلين بالحركة، الاختباء وإعادة التموضع ونقل الذخائر، دون الظهور في العلن أو الوقوع في كمائن القصف، ما وفّر بنية تحتية قوية لامتصاص الهجمات الإسرائيلية، ومواصلة الإنتاج الحربي حتى تحت القصف".
وأضاف: "الرهان على الاستنزاف البشري لحماس، كما يبدو، فشل حتى الآن، الحركة أظهرت قدرة نادرة على الصمود والتجدّد، مستندة إلى تأييد شعبي عريض، وبنية قتالية مرنة، وتكتيكات حرب عصابات مدروسة، ما يجعل من الحديث عن اجتثاث حماس أقرب إلى الوهم العسكري".
وتمكّنت المقاومة الفلسطينية أيضا من استئناف عمليات تصنيع أسلحتها المحلية، حيث كشفت تقارير استخباراتية إسرائيلية نقلتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" في مايو 2025 أن القسام أعادت تشغيل مرافق إنتاج أسلحة دفاعية وهجومية، بما في ذلك تصنيع عبوات ناسفة داخل المباني والشوارع.
كما أن الكتائب نجحت - ولو بشكل محدود- في إنتاج قذائف صاروخية محلية، في استمرار لنهج الاكتفاء الذاتي الذي اتّبعته منذ سنوات.
من جانبه، قال الباحث في الشؤون الفلسطينية، زكريا السلاسة: إن إسرائيل تواجه فشلا عسكريا متصاعدا، يتجلّى بشكل واضح في قدرة المقاومة الفلسطينية على تجنيد وتعبئة صفوفها رغم أشهر طويلة من المعارك.
وأضاف السلاسة لـ"الاستقلال" أن "هناك إجماعا داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على أن كل مقاتل فلسطيني يُستشهد، يُستبدل فورا بمقاوم جديد، ما يجعل من القضاء على الجناح العسكري لحماس -وتحديدا كتائب القسام- أمرا مستحيلا على أرض الواقع".
وأشار إلى أن "حركة حماس متجذرة اجتماعيا وتنظيميا في القطاع، وتستند إلى قاعدة شعبية واسعة، ما يمنحها رصيدا بشريا مستمرا".
وأوضح الباحث أن "المناطق التي يجتاحها الاحتلال مرّات متكرّرة، مثل خانيونس وبيت حانون وبيت لاهيا والشجاعية، تشهد مقاومة أعنف في كل مرة يعود إليها، رغم إعلاناته المتكرّرة عن تصفية من فيها".
وأكّد السلاسة أن “القسام طوّرت قدراتها القتالية والتكتيكية بشكل ملحوظ، وهو ما يفسّر تكرار عمليات الاشتباك القريب (من مسافة صفر)، رغم استخدام الجيش تقنيات متقدّمة من طائرات مسيّرة، ورادارات حرارية، وأنظمة مراقبة ذكية”.
وأشار إلى أن القيادة العسكرية الإسرائيلية “باتت تسعى إلى إنهاء الحرب بأي ثمن، نتيجة القناعة بعدم تحقيق أهداف إستراتيجية من استمرارها”.
وتابع الباحث الفلسطيني: "الجيش يعلم أنه كلّما قتل مقاوما، ظهر آخر، وكلّما دمّر نفقا، بُني غيره، الحرب حاليا باتت استنزافا مزمنا له من الناحية البشرية والمعنوية".
وذكر أن "نجاح عمليات خطف الجنود –وإن تم إفشال بعضها لاحقا– يشكّل هاجسا دائما للقيادة الإسرائيلية، وقد يكون سببا في قلب الموازين إذا ما تكرّرت".
وحول الجبهة الداخلية الإسرائيلية، قال الباحث: إن "الجيش يعاني من إنهاك غير مسبوق، وسط شعور متنام لدى الجنود بأنهم يقاتلون فقط لأجل بقاء بنيامين نتنياهو في الحكم".
وأشار إلى أن سياسات الإعفاء من الخدمة العسكرية لأفراد "الحريديم" أسهمت في زيادة حالات التمرّد ورفض الخدمة.
ونوّه السلاسة إلى أن "التقارير الاستخبارية الإسرائيلية ذاتها تؤكّد أن المقاومة بدأت بالفعل بإعادة تشغيل ورشات تصنيع الأسلحة والعبوات والقذائف، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من حرب الاستنزاف، وهو السيناريو الأكثر رعبا للمنظومة العسكرية الإسرائيلية".
سلاح الثأر
ويرى مراقبون أن هذا الثبات للمقاومة، والتصاعد في العمل الفدائي، لم يأتِ حصرا من البنية التنظيمية المتينة للأجنحة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، بل إن ما واجهه الشعب الفلسطيني من مآسٍ شكّل وقودا ومحفزا لمواجهة الاحتلال.
وقال الناشط الفلسطيني، خليل حسون، إن "المجازر الإسرائيلية والجرائم اليومية هي المصدر الأساسي لاستمرار المقاومة، وتواصل توافد الشباب إلى صفوف المقاومة، ومراكمة الرغبة بالثأر والانتقام والحقد طويل الأمد للأجيال القادمة، وهي تأتي بنتيجة عكسية تماما عمّا أراده الاحتلال من ردع للشعب الفلسطيني".
وأضاف حسون لـ"الاستقلال": "ما زلنا نرى عبارات التهديد والوعيد من الكبار والصغار مباشرة بعد مجازر الاحتلال، ويمكن رؤية الحقد والرغبة في الثأر في عيونهم".
واستطرد: "في موازاة ذلك، نرى تواصل اشتداد المقاومة، وزيادة أعداد المقاومين، وتعدّد العمليات، ومنها عمليات استشهادية ظهرت بشكل أكبر في الأشهر الأخيرة. كل هذا نتيجة ما زرعه الاحتلال من ألمٍ وقهرٍ في الصدور".
وشدّد حسون على أن “عمليات المقاومة أيضا تشكل مصدرا أساسيا في إلهام حماس الفلسطينيين، وتشجيع عمليات المقاومة، وجذب المقاتلين، عندما يرون أن الحقد والإجرام الصهيوني لا تتم معاقبته سوى بهذه العمليات”.
ولفت إلى أن "شبّانا مسلحين بأبسط الأسلحة المحلية يحيلون دبابة الميركافا 4 لحاوية مهملات محترقة يتفحّم فيها الجنود القتلة، يُلهمون الآلاف من الشباب الفلسطيني، ليس فقط في غزة، بل في عموم العالم الإسلامي".
وقال حسون: “أمام خيمتي في مواصي القرارة، كل صباح، أشاهد الأطفال النازحين يلعبون على الكثبان الرملية، يمثّلون دور المقاومة كفريقين، ويرفض أي أحد أن يلعب دور الاحتلال، فيسمّون أنفسهم بأسماء ألوية المقاومة والمناطق التي نزحوا منها”.
وأضاف: "يقلّدون فيديوهات القسام، ويستخدمون عصي يسمّونها (الياسين 105)، وقوارير يطلقون عليها اسم (عبوة العمل الفدائي)، وأوعية معدنية يسمونها عبوة (شواظ)، ويصنعون من الأخشاب ما يشبه البنادق، ويفترضون أنهم يخوضون اشتباكا، ويكون الطفل الأصغر سنا والأخف وزنا هو هدف الخطف، كأنه جندي في جيش الاحتلال".
وتابع: “وأنا أشاهدهم، أفكّر في حجم الحقد الذي يحملونه، لا أحد منهم كان بعيدا عن القصف والقتل والإصابات، وتظهر الأمراض الجلدية عليهم بشكل واضح، ونحفت أجسادهم بفعل المجاعة بشكل شديد، ومنذ عامين لم يتم تعليمهم، حتى فقد معظمهم القدرة على القراءة والكتابة”.
وأوضح حسون أنه "في ظل كل هذا، يقضون شطر اليوم في محاولة جلب المياه والطعام والحطب، والشطر الآخر يلعبون أدوار الانتقام ممن أوصلهم لهذا الحال".
وشدّد على أن "فكرة المقاومة اليوم هي في أوج قوتها وضرورتها، لهذا تتعافى فصائل المقاومة من أي ضربة إسرائيلية، ويتوافد إليها المقاتلون، وتزداد عملياتها، وتواصل إنتاج الأسلحة، ومن الواضح والجلي أن المستقبل لها".