ماذا يعني منع تركيا مرور كاسحات ألغام بريطانية بالبحر الأسود إلى أوكرانيا؟
أعلنت المملكة المتحدة والنرويج في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2023 عن إنشاء تحالف القدرات البحرية في إطار منصة تعاون بين أوكرانيا والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "ناتو".
ويهدف التحالف إلى تعزيز القوة البحرية وقوة المشاة الأوكرانية وكذلك تعزيز القدرات الداخلية الأوكرانية بتوفير السفن الحربية لها للدفاع عن مياهها الإقليمية.
وكانت الحكومة البريطانية قد أعلنت في ذات المناسبة أنها ستزود كييف بسفينتين لمساعدتها في اكتشاف الألغام البحرية الروسية في البحر الأسود وتعزيز صادراتها عن طريق البحر.
إلا أن تركيا نفت في يناير/ كانون الثاني 2024 السماح بمرور كاسحتي الألغام عبر مضيق البوسفور والدردنيل نحو البحر الأسود.
ثقل جيوستراتيجي
وفي هذا السياق، قال معهد تحليل العلاقات الدولية الإيطالي إن أنقرة عادت من خلال هذه الخطوة إلى مركز العلاقات الدولية وللتموضع بشكل أفضل على الساحة الإقليمية والدولية خصوصا أنها استندت مجددا لاتفاقية مونترو.
وقد وقعت هذه الاتفاقية في عام 1936 في مونترو السويسرية ومنحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين.
وتنظم هذه المعاهدة الموقعة بين تركيا وبريطانيا وفرنسا وبلغاريا ورومانيا واليابان وأستراليا، إضافة إلى الاتحادين اليوغوسلافي والسوفياتي، حركة المرور للسفن التجارية في أوقات السلم والحرب.
وتسمح للسفن الحربية التابعة لدول حوض البحر الأسود بحرية الحركة من دون قيد أو شرط، وقيّدت في المقابل مرور السفن الحربية الأجنبية غير التابعة لأي من دول حوض البحر الأسود بشروط معينة.
في أعقاب انسحاب موسكو من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية في يوليو/ تموز الماضي، قامت القوات الروسية بنثر الألغام في قاع البحر الأسود بالقرب من المناطق التي تستخدمها مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب لإقامة حصار بحري لا تزال تعاني منه حكومة كييف إلى اليوم.
لذلك، يشرح المعهد الإيطالي بأن انسحاب روسيا وما ترتب على ذلك من فشل لحق باتفاق تصدير الحبوب، كان له انعكاسات منها تراجع دور تركيا كوسيط ولاعب أساسي.
ويؤكد، وفق تحليله، استنادها لاتفاقية مونترو لمنع مرور كاسحات الألغام البريطانية ثقلها في العلاقات الدولية.
وبحسب المعهد، يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعب دور التوازن بين الغرب والشرق ضمن إطار مشروعه رؤية "قرن تركيا" الذي كان قد كشف عنه في عام 2022.
"صفر مشاكل"
وأوضح بأن تركيا تشكل لاعبا أساسيا في كل الصراعات والقضايا التي لم يتم حلها تقريبا في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والقوقاز وتظل أيضا عضوا ثابتا في حلف الشمال الأطلسي.
وذكر دورها المباشر في ليبيا وسوريا منذ عقد من الزمن وكذلك تحالفها التاريخي مع أذربيجان التي استفادت من المساعدة التركية في حربها في إقليم قرة باغ المتنازع عليه مع أرمينيا.
كما أنها لعبت دور الوساطة في مسألة توريد الحبوب بين روسيا وأوكرانيا بعد اندلاع الحرب وحاولت أن تفعل الأمر نفسه" في الحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول في غزة" بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة المقاومة الفلسطينية حماس.
لكنها افتقرت إلى المتطلبات الكافية للعب هذا الدور، وفق زعم المعهد الإيطالي، لا سيما على ضوء علاقاتها مع حماس وتزايد خطابها العلني المناهض للاحتلال.
في نفس سياق التأثير التركي، يذكر كذلك تبنيها إستراتيجية "صفر مشاكل مع الجيران" التي تم اتباعها في العقد الذي أعقب اندلاع ثورات الربيع العربي.
كما بيّن المعهد الإيطالي أن "سياسة أردوغان الخارجية الحازمة بشكل متزايد" تتجلى في تحركات أنقرة تجاه الاحتلال والتي يُنظر إليها على أنها موجهة إلى حليف إسرائيل الرئيس، الولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، أشار إلى أن هناك العديد من الملفات التي لا تتفق فيها أنقرة مع واشنطن، على غرار مسألة دعم الأخيرة لوحدات حماية الشعب الكردية السورية التي تصنفها تركيا كجماعة إرهابية.
وكذلك رفض واشنطن تسليم فتح الله غولن، زعيم تنظيم "غولن" المتهم بتدبير محاولة الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016، فضلا عن الحظر الأميركي للأسلحة المفروض على تركيا بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية أس 400.
إلى ذلك، نوه المعهد الإيطالي بأهمية علاقات تركيا مع قطر، وهي لاعب أساسي آخر في الوساطة بين الأطراف المعنية بالعدوان على قطاع غزة، وكذلك مع إيران الممول الرئيس لمليشيات حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي اليمنية.
قال إن "تركيا حاولت مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إقامة جسر مع روسيا بوتين في يناير/كانون الثاني، من خلال الاجتماع الذي عُقد في أستانا بكازاخستان بدعمها خطاب وقوف المسؤولية الغربية وراء جميع الصراعات الحالية من أوكرانيا إلى غزة".
توسيع النفوذ
وأردف أن سيناريو توسيع النفوذ التركي يتضمن أيضا مناورات اقتصادية مثل مشروع "طريق التنمية"، الذي يتضمن شبكة بطول 1200 كيلومتر من السكك الحديدية والطرق السريعة وخطوط أنابيب النفط وكابلات الألياف الضوئية.
وستربط الطريق ميناء الفاو الكبير جنوب محافظة البصرة العراقية بالأراضي التركية ثم مع بقية أوروبا.
وسيكون هذا "الممر الإستراتيجي" بين أوروبا وآسيا في منافسة مفتوحة مع المشروع الأوروبي "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا" المُعلن عنه من قبل الرياض خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في سبتمبر 2023.
وجزم المعهد الإيطالي بأن تركيا لا تنوي رفع مستوى "الصراع" إلى ما هو أبعد من مصالحها الخاصة وتستمر في إظهار للغرب مدى أهمية "كونها شريكا وطرفا غير مريح في آن واحد".
في هذا الصدد، يذكر موافقة أنقرة على انضمام السويد إلى منظمة حلف شمال الأطلسي مقابل تسلمها من ستوكهولم بعض أنصار حزب العمال الكردستاني.
وأضاف أن أنقرة "أظهرت سياسة ثنائية في الصراع الروسي الأوكراني من خلال إرسال أسلحة إلى كييف على غرار مسيرات بيرقدار الشهيرة".
ومن ناحية أخرى، فتحت مبادلات تجارية مع روسيا من خلال استثمارات ضخمة أكبرها بقيمة خمسة مليارات لشركة روساتوم الروسية لبناء محطة للطاقة النووية في ولاية مرسين.
وفي يناير/ كانون الثاني، عقد الرئيس التركي اجتماعا ثنائيا مع رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني بشأن ملف المهاجرين فيما منع في الوقت نفسه مرور كاسحتي الألغام البريطانيتين عبر مضيق البوسفور.
وبذلك، يستنتج المعهد أن تركيا "تظل لاعبا أساسيا وعمليا ومرنا في نفس الوقت على الساحة الدولية وبإمكانها أن تتوغل في الوضعيات الشائكة والحفاظ على علاقاتها مع كل تلك البلدان والمنظمات التي لا تقيم معها الدول الغربية اتصالات مباشرة".