لأول مرة منذ انقلاب السيسي.. لماذا رفض القضاة تنفيذ أوامر الجيش؟
في حادثة نادرة، اصطدم قضاة مع الجيش المصري في قضية تتعلق بحق انتفاع العسكر ببعض الأراضي المدنية، وهي حالة غير مسبوقة في ظل تبعية النظام القضائي للمؤسسة العسكرية.
وبناء على توجيهات من رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، صدرت في 22 أكتوبر/تشرين أول 2024 تعليمات من "إدارة مشروعات أراضي القوات المسلحة"، بإلغاء وعدم تجديد عقود "حق الانتفاع" بجميع أراضي طرح نهر النيل من حلوان حتى شبرا.
ولكن رغم تدجين القضاء وخنوعه للسلطة في مصر، رفض اثنان من أندية القضاة على النيل (مجلس الدولة ومستشاري النيابة الإدارية) أوامر الجيش، حين ذهب لتسلم أراضي الناديين منهما.
طرح هذا تساؤلات وجدلا حول دلالات وتداعيات اعتراض القضاة على أوامر الجيش لأول مرة منذ انقلاب السيسي عام 2013 وتواطؤ بعضهم معه.
كما طرح تساؤلات عن علاقة الجيش بأراضي طرح النهر، وهي مدنية لا عسكرية، وأسباب استيلائه عليها من الأصل، وهل ستباع للإمارات كما يتردد.
قصة الاستيلاء
بدأت القصة بإرسال "جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة"، خطابات إلى سبع جهات تقع على النيل، لإبلاغهم بإلغاء عقود حق الانتفاع، وعدم تجديدها، مع مطالبتهم بإخلاء مواقعهم فورا، بناء على تعليمات رئاسية.
وصلت خطابات الإخلاء إلى أندية القضاة (مجلس الدولة ومستشاري النيابة الإدارية)، ونادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وكلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان، وهؤلاء جرى إبلاغهم بالإخلاء فورا وذهب الجيش لتسلم أرضهم.
إضافة إلى حديقة أم كلثوم التابعة لمحافظة القاهرة، والمسرح العائم التابع لوزارة الثقافة، ومقر شرطة المسطحات المائية التابعة لوزارة الداخلية، وهؤلاء تم تأجيل إخلائهم حتى نهاية العام 2024.
تبين أن المستهدف والمخطط هو إخلاء مساحة تعادل حوالي 70 ألف متر مربع على النيل من حلوان حتى شبرا، تشمل كامل المنشآت على منطقة أراضي طرح النهر.
وذلك بداية من كوبري جامعة القاهرة وحتى فندق جراند نايل تاور (جراند حياة سابقا)، المملوك حاليا لسعوديين ولا يعرف مصيره، ومكتب البريد ومبنى شرطة المسطحات المائية.
قصة الاستيلاء على أراضي النيل، بدأت عندما جرى تكليف مجلس الوزراء، بإصدار قرار رقم 2637 لعام 2020.
والذي جرى بموجبه منح جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة الحق في إدارة أراضي طرح النهر من منطقة شبرا حتى حلوان، بدلا من الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية.
حينها وقع الجهاز التابع للجيش، بروتوكول تعاون مع وزارة الري، للانتفاع بالمسطحات المائية شرق وغرب النيل في المنطقة ذاتها، دون معرفة تفاصيله وماذا سيفعل الجيش بهذه الأراضي التي لا علاقة لها بشؤونه العسكرية.
تبع هذا بدء الجيش في الاستيلاء على أراضي طرح النيل وجزر داخل النيل، وطرد سكان عوامات منطقة الكيت كات والزمالك، وإعادة تأجيرها بعقود جديدة بثمن أكبر، ضمن سياسة تسليع الفراغ العمراني العام في جميع أنحاء مصر والقاهرة خصوصا.
وجاء هذا ضمن سياسة اتبعها نظام السيسي لإرضاء جنرالات الجيش الذين عاونوه في الانقلاب العسكري، عبر تخصيص أراضٍ ومساحات خضراء عامة للقوات المسلحة؛ وذلك لإدارتها أو الانتفاع منها بنفسه، بمنح حق الاستغلال لها للقطاع الخاص مع بقائها ضمن ملكية "الجيش".
وقد نظم جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، مزادا في 20 مارس/آذار 2023، لبيع أراضي طرح نهر النيل، المُخصصة للجهاز بقرارات سابقة والتي تقع بمناطق منها الزمالك والمنيل والمعادي وإمبابة.
وكان الهدف الأصلي من إنشاء جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة عام 1981، هو تشغيل أو بيع أراضٍ كانت معسكرات تابعة للجيش في مدينة نصر ومصر الجديدة وجرى إخلاؤها ونقلها لمناطق أخرى.
واستخدام العائد من البيع في إنشاء مدن ومناطق عسكرية بديلة، وذلك بحسب تعديلات لاحقة جرت عام 1983.
لكن السيسي، منح صلاحيات أوسع للجهاز، فأصدر في ديسمبر/كانون الأول 2015، قرارا جمهوريا رقم 446 لسنة 2015 بتعديل أهداف الجهاز، ليسمح له بتأسيس شركات بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني والأجنبي، وممارسة خدمات وأنشطة تنمي موارده.
وبعدما استأجرت هذه الجهات التي تشغل طرح النهر، الأرض من وزارة الري ومحافظة القاهرة، وكان يدفعون لها إيجارها، أصبحوا مطالبين بإخلائها، بعدما آلت ملكيتها للجيش بجرة قلم من السيسي، لأسباب تتعلق ببيعها أو الاستفادة منها ماليا.
وجاء الكشف عن قرارات الإزالة هذه، حين وصلت أندية وكليات ومصالح مختلفة إنذارات رسمية من الجيش بداية من أكتوبر 2024 بإخلاء الأرض وما عليها من منشآت فورا.
ومن ضمنها المنطقة المخططة لتطوير مستشفيات قصر العيني بجزيرة الروضة، والمسرح العائم، وشرطة المسطحات المائية، وحديقة أم كلثوم، ونادي النيابة الإدارية، ونادي قضاة مجلس الدولة، وكلية السياحة والفنادق.
اعتراض القضاة
وكانت مفاجأة أن يعترض رئيس نادي قضاة مجلس الدولة، المستشار عبد السلام النجار، على تسليم مقر النادي إلى لجنة مشتركة من الجيش، ووزارة الموارد المائية والري، في 15 أكتوبر 2024، حسبما نشرت صحف محلية.
سبب الرفض، هو تعلل رئيس النادي أنه "يضم غرف مداولات خاصة بأعضائه القضاة في القضايا المطروحة عليهم في عملهم"، ومقار خدمات حكومية، وطلبه التواصل مع وزير العدل للتوسط في الموضوع مع الجيش.
وبعد نادي قضاة مجلس الدولة، تكرر رفض التسليم الفوري من نادي مستشاري النيابة الإدارية لمقره، إلى لجنة التسليم المشكلة من الجيش ووزارة الري، حسبما أكد رئيس النادي، المستشار عبد الرؤوف موسى.
وقال عضو بمجلس إدارة نادي النيابة الإدارية لموقع "صحيح مصر"، إن مجلسي إدارة ناديي النيابة الإدارية وقضاة مجلس الدولة أبلغا جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، رفضهما إخلاء المقر.
كما أوضحا أنهما في انتظار إفصاح جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة عن سبب الطلب المفاجئ بالإخلاء.
لكن مصريين قالوا إن القضاة اعترضوا فقط حين مسّت عمليات السلطة لمصادرة الأراضي مصالحهم ومنها أنديتهم.
ويقول خبير سياسي لـ "الاستقلال" إن أراضي طرح النهر (من حلوان إلى شبرا) والتي سيطرت عليها القوات المسلحة منذ عام 2022، وتطرد حاليا المقيمين بها، ليست ملكا للجيش ولا تدخل ضمن "الأراضي الإستراتيجية" التي تستدعي إشرافه عليها.
أوضح أنها تعد "أراضي مدنية تماما" مملوكة ملكية خاصة للدولة ممثلة في وزارة الري، لكن الجيش سيطر عليها بقرار من السيسي، والآن بدأ طرد من ينتفعون منها مقابل إيجار، ضمن خطة سيطرة المؤسسة العسكرية على غالبية أراضي مصر.
وينفي "الخبير السياسي" صحة ما قيل عن "رفض" القضاة تسليم أراضي ناديهم.
وأكد أن "المحضر الرسمي" الذي نشره موقع "مدى مصر" ينفي ذلك، وكل ما جرى هو إثبات صعوبة النقل "فورا" والامتثال للقرار، ومن ثم أخذ مهلة لمحاولة وقفه.
ووفق ما نشر "مدى مصر" في 21 أكتوبر، "أعرب عدد من قضاة مجلس الدولة عن غضبهم من قرار رئيس النادي بالتوقيع على محضر تسليم أرض النادي إلى اللجنة المشتركة المشكلة من جهاز مشروعات القوات المسلحة وجهاز حماية النيل".
ونقل الموقع عن ثلاثة قضاة، بدرجة نائب رئيس مجلس الدولة، تأكيدهم أن رئيس النادي المستشار عبد السلام النجار وقع فعلا على محضر تسليم الأرض.
واعترضوا على اتخاذه هذه الخطوة دون دعوة الجمعية العمومية للانعقاد والتشاور حول سيناريوهات التعامل مع القرار، وإمكانية التفاوض بشأن التراجع عنه أو تخصيص مكان بديل وقيمة التعويض عن المباني والتجهيزات الموجودة بالمقر.
قالوا إن صعوبات تسليم النادي التي حددها رئيسه، بشأن وجود مقار "خدمات حكومية" داخله، تعني تعذر إخلاء المقر مؤقتا.
وذلك لحين نقل المقار إلى مكان آخر خارج النادي، وهو أمر يمكن أن يحدث في بضع ساعات.
ووفق نص المحضر الذي نشره موقع "مدى مصر"، فإنه يظهر في مقدمته عبارة "محضر تسليم قطعة أرض طرح النهر"، وعليها توقيع رئيس النادي ومسؤولي الجيش ووزارة الري، ما يعني أن التسليم الرسمي حدث، ولم يعترض القضاة سوى على سرعة الإخلاء.
وقد يكون "تمرد" قضاة ضد النقل، لو صح الأمر، أو رفضهم "سرعة تنفيذ القرار"، على قرارات استيلاء الجيش على أرض ناديهم، هو أول خلاف فعلي بين جهة قضائية والجيش الذي يستحوذ على العديد من الأراضي منذ انقلاب السيسي.
لكن محللين وخبراء يرون أنه صراع "مصالح ونفوذ"، أكثر منه "مصلحة عامة للدولة" كما يتردد كمبرر لانتزاع أراضي طرح النهر.
لذا يتوقعون أن تكون نتيجة حسمه "مؤشرا للمستقبل"، رغم توقع كثيرين نزول القضاة عند رغبة الجيش في نهاية المطاف.
سخرية واسعة
واستغل مصريون ذلك للسخرية من القضاة، بأنهم دعموا السلطة ضد الشعب بأحكام قضائية ظالمة.
وكتبوا يحرضون السلطة، بطريقة ساخرة، على ضرورة مواجهة تمرد القضاة على قرارات الجيش، وحبس القضاة "الخونة"، الذين يعارضون إرادة "الدولة"، وفق قولهم.
وكتب الصحفي سليم عزوز "نداء إلى قضاة مجلس الدولة الشامخ"، يطالبهم فيه بتسليم ناديهم للجيش.
ووصف رفض رئيس نادي قضاة مجلس الدولة تسليم النادي بأنه "تمرد" على قرار الدولة، ويسقط "هيبتها".
قال لهم إنه "لا يجوز سؤال الدولة ماذا ستفعل بهذا الموقع الإستراتيجي، لأنهم سبق أن حكموا بأن الدولة ليست ملزمة ببيان "المصلحة العامة".
وبين ساخرا أن ما تراه الدولة "مصلحة عامة" ولا يليق لهم القول إنها تتجه لبيع هذه المناطق الإستراتيجية للإمارات.
وشجع رفض القضاة قرارات الجيش بعض إعلاميي السلطة الذين ينعمون بحصانة سعودية مثل لميس الحديدي وزوجها عمرو أديب على السؤال عمن ستذهب له هذه الأرض وماذا سيبني على النيل، ما يشير لصراع نفوذ إماراتي سعودي على مصر.
ولم يقتصر تمرد القضاة على قرارات الجيش تسليم أرض ناديهم، ولكنه امتد لأساتذة وطلاب كلية السياحة والفنادق الذين أعلنوا رفضهم تسليم أرض كليتهم ودعوا لمؤتمر في 23 أكتوبر لمناقشة هدم وإزالة الكلية وأضراره على التعليم.
وأعلنت كلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان عن تلقيها خطابا من مدير إدارة مشروعات أراضي القوات المسلحة، بناء على توجيهات رئاسية، يقضي بإلغاء وعدم تجديد عقود حق الانتفاع لجميع أراضي طرح النهر من شبرا حتى حلوان.
وأكدت أنها بدأت مفاوضات مع الجيش لتأجيل تنفيذ قرار الإخلاء حتى نهاية العام الدراسي في يونيو/حزيران 2025، لصعوبة إخلاء مقر الكلية وتسكين الطلاب في مبانٍ أخرى لاستكمال العام الدراسي.
كما تلقى مجلس إدارة نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة خطابًا من الجيش بتوجيهات رئاسية، بإلغاء وعدم تجديد عقود حق الانتفاع بأرض النادي وإخلاء ما عليها من منشآت فورا، ومن ضمنها المنطقة المخططة لتطوير مستشفيات قصر العيني بجزيرة الروضة.
بما يشمل، بخلاف النادي، المسرح العائم، وشرطة المسطحات المائية، وحديقة أم كلثوم، ونادي النيابة الإدارية، ونادي قضاة مجلس الدولة، وكلية السياحة والفنادق.
وفوض النادي رئيس الجامعة ووزير التعليم العالي، للتفاوض مع الجيش للسماح ببقاء النادي المقام منذ عام 1982، وجرى تجديده بمليوني جنيه، مؤكدا سعيه لإيجاد حلول مناسبة وطرق جميع الأبواب لمحاولة الإبقاء على مقره.
وضمن هذه الأفكار المطروحة قبول رفع قيمة الإيجار السنوي، البالغ قرابة 500 ألف جنيه، والذي يجرى تسليمه للجيش حاليا بدلا من وزارة الري سابقا، وفق ما قالت مصادر في النادي لـ "الاستقلال".
ويقول أساتذة جامعات إن التعليم والثقافة هما اللذان سيدفعان ثمنا لاستثمار هذه الأرض لمستثمر مجهول يعتقد أنه الإمارات، ما يضع مستقبل التعليم السياحي في مأزق.
إخلاء لمن؟
وجرى الكشف عن قرار إلغاء وعدم تجديد عقود حق الانتفاع بجميع أراضي طرح نهر النيل من شبرا إلى حلوان، بعد أسبوعين من آخر زيارة أجراها رئيس الإمارات محمد بن زايد لمصر ولقائه السيسي، وتسلمه أراضي رأس الحكمة التي اشتراها سابقا.
مصريون تساءلوا عن المستفيد، وهل هو الجيش أم الإمارات، ولو كانت الأرض سيستفيد منها العسكر وسيعمل على تأجيرها لمصريين وأندية كما كانت تفعل وزارة الري حين كانت تملكها، فلماذا طرد منها مقار النوادي وكلية السياحة وغيرها، إلا إذا كان سيجرى بيعها لمستثمر أجنبي.
وأبدى طلاب بكلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان سخطهم مما وصفوه "بيع كُلّيتهم لمستثمرين إماراتيين".
وقال مصدر في محافظة القاهرة لموقع "صحيح مصر" أيضا، إن ما تم الإفصاح عنه حتى الآن، بشأن إخلاء أراضي طرح النهر المذكورة، هو انتقال ملكيتها بعد إخلائها إلى صندوق مصر السيادي.
وأوضح المصدر، أن الصندوق السيادي، سيشارك بهذه الأراضي في مشروع استثماري ضخم لم يكشف عن تفاصيله بعد، وذلك بالتعاون مع "جهات عربية".
وما يثير الغموض أنه يجرى التعتيم حول مصير هذه الأرض، ولمن يتم إخلاؤها، حيث لم يصدر قرار رسمي حتى الآن بشأن المخطط الذي تقرر من أجله سحب أراضي هذه المنشآت.
وحتى وزير الثقافة، أحمد هنو، قال، بشأن وجود قرار بإزالة المسرح العائم إن الوزارة لم تُخطر رسميا بالمخطط الحضري لمنطقة المنيل، أي مصير الأرض بعد إخلائها.
قال إن هناك "خطة بين عدد من المؤسسات التنفيذية المسؤولة عن مشروع تطوير منطقة المنيل، لكن الوزارة لا تعلم عنها شيئا، بحسب صحيفة "المصري اليوم" 14 أكتوبر 2024.
وقد استضاف المذيع "عمرو أديب" في برنامجه على قناة "أم بي سي مصر" السعودية، عضو مجلس النواب مها عبد الناصر، لتنتقد "عدم وجود شفافية" بشأن قرار سحب جميع أراضي طرح نهر النيل من شبرا حتى حلوان، وتساءلت عن الجهة (السرية) التي ستؤول إليها هذه الأراضي.
ومنذ 6 سنوات تحاول سلطات الأمن المصرية طرد سكان جزيرة "الوراق" وسط نيل القاهرة، لتنفيذ مشروع سياحي إماراتي لكنهم يتصدون لها حتى الآن.
ويبقي السؤال: لماذا تم إخلاء أراضي طرح النهر من الجهات التي تستأجرها؟ هل لإعادة تأجيرها بأسعار أعلى أم لبيعها لمن يدفع أكثر؟
وهل هناك فائز خليجي، اشترى أراضي طرح النهر من حلوان الى شبرا في المزاد المقام على أفضل الأماكن بمصر؟