"نهج تسلطي".. كيف يواجه المحامون والقضاة ديكتاتورية قيس سعيّد؟
“انتخابات 6 أكتوبر ستكون فرصة ولن تضيع لطي صفحة الانقلاب في تونس”
أزمة الرئيس التونسي قيس سعيد مع محامي بلاده متواصلة ومستمرة، في ظل الانتهاكات الحقوقية والردة الديمقراطية التي تعرفها البلاد، وتصاعد الاحتقان الشعبي، بين عامة المواطنين ونخبه السياسية والحقوقية والفئات المهنية.
وفي هذا الصدد، أعلنت الهيئة الوطنية للمحامين في تونس، عن عدد من "التحركات الاحتجاجية تنديدا بما عاينته من "انتهاكات جسيمة مسلطة على المحامين أثناء أدائهم لمهامهم".
مطالب أساسية
وقالت الهيئة عبر بيان، في 11 سبتمبر/أيلول 2024، إنها سجلت حرمان عدد من المحامين "من حق الاطلاع على الملفات القضائية والترافع وزيارة موكليهم والتضييق عليهم، وتعمد إهانتهم والاعتداء عليهم، وتهديد البعض الآخر بالملاحقات والعقوبات الجزائية بمناسبة ترافعهم في بعض القضايا".
وذكرت أن آخر هذه الانتهاكات ما حصل قبل أيام "بمناسبة محاكمة المحامية سنية الدهماني من ضرب لحق الدفاع وشروط المحاكمة العادلة، وإصدار للحكم دون احترام لدور المحامين ورسالتهم في الدفاع".
كما استنكرت عمادة المحامين "تواصل نقل القضاة (..) بمجرد مذكرات عمل صادرة عن وزيرة العدل، ليلى جفال، في ظل عدم تركيز المجلس الأعلى للقضاء الضامن لاستقلالية القضاء والقضاة من حيث الإعفاء والنقل وإسناد الخطط الوظيفيّة (تكليف الموظفين)، مما أضفى مناخا يمس باستقلالية القضاء وسيادة القانون".
وعلى هذا الأساس، أكدت عمادة المحامين أن "احترام حق الدفاع ليس مجرد إجراء قانوني شكلي، بل هو ركيزة أساسية من ركائز المحاكمة العادلة ودولة القانون التي تحترم حقوق الأفراد وتصون كرامتهم"، داعية جميع الجهات المعنية المتداخلة في الشأن القضائي إلى “احترام حق الدفاع وإجراءات المحاكمة العادلة والنزيهة”.
كما ذكرت أن استقلالية القضاء هي الضامن لسيادة القانون، مؤكدة رفضها كل تدخل أو ممارسات من أي جهة كانت تفسد العملية القضائية وتجعلها عرضة للتلاعب والفساد، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في النظام القضائي، ويهدد مكتسبات حقوق الإنسان.
وفي الصدد ذاته، حملت عمادة المحامين وزارة العدل مسؤولية “الوضع المتردي الذي آل إليه وضع القضاء والمحاماة، نتيجة اعتماد المماطلة والتّسويف بعدم الجدية في الاستجابة للمطالب المشروعة للمحاماة”.
وأعلنت أن مجلسها قرر "حمل الشارة الحمراء لمدة أسبوع بداية من 16 سبتمبر إلى غاية 20 من الشهر ذاته"، مع “تنظيم وقفات احتجاجية أمام قصر العدالة بتونس وبمقرّات المحاكم الابتدائية”.
نفي رسمي
ردا على بيان المحامين، أفادت وزارة العدل، بـ"احترامها الكامل للقانون، وعلى تمسكها بضمانات استقلالية القضاء وحق الدفاع".
ونفت الوزارة عبر بيان في 15 سبتمبر 2024، "الادعاءات بوجود انتهاكات جسيمة مسلطة على المحامين، أو بالتعدي عليهم أو تهديدهم بالملاحقات الجزائية أثناء أدائهم لوظائفهم، سواء بالمحاكم أو بالمؤسسات السجنية والإصلاحية، أو حرمانهم من حق الاطلاع على الملفات القضائية أو الترافع أو زيارة موكليهم".
وشددت على أن "حق الدفاع يمارس في كنف الاحترام التام للقانون، ووفقا للضوابط المقررة، وأن التتبعات الجزائية الجارية بشأن بعض المحامين كانت بناء على أفعال منسوبة إليهم تدخل تحت طائلة القانون الجزائي، شأنهم في ذلك شأن أي تجاوزات مرتكبة من قبل أي طرف آخر".
وادعت في هذا الصدد، “احترامها الكامل للقانون والإجراءات المتخذة في شأن تلك التجاوزات، وتمسكها بضمانات استقلالية القضاء وحق الدفاع، في إطار المساواة التامة بين الجميع والامتثال لعلوية القانون”.
كما أفادت الوزارة بحرصها على "إيلاء المحاماة المكانة التي هي جديرة بها، نظرا لأهمية الدور الذي تضطلع به كمكون من مكونات الأسرة القضائية في الارتقاء بالمنظومة القضائية، والتصدي طبق القانون لأي اعتداء يتعرض له المحامون أو ينال من تقديرهم".
وسبق لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أن أدانت "ترهيب ومضايقة" السلطات في تونس للمحامين، بعد حملة توقيفات واسعة طالت عددا منهم، إضافة إلى سياسيين وناشطين حقوقيين.
وقالت المتحدثة باسم المفوضية، رافينا شامدساني، خلال تصريحات صحفية في مايو/أيار 2024، إن التوقيفات ومداهمة مقر نقابة المحامين أفعال "تقوض سيادة القانون، وتنتهك المعايير الدولية المتعلقة بحماية استقلال المحامين ووظائفهم... وتشكل أشكالا من الترهيب والمضايقة".
ونقلت المتحدثة المفوضية عن المفوض فولكر تورك، دعوته "السلطات لاحترام وحماية حريات التعبير، وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي، كما هي مكفولة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتونس طرف فيه".
احتقان شامل
إضافة إلى بيان المحامين، شهدت تونس في الأسبوع نفسه، إصدار بيانات هيئات مهنية أخرى، تنديدا بالانتهاكات المستمرة للحقوق الأساسية من لدن السلطات.
وفي هذا الصدد، أصدرت جمعية القضاة التونسيين بيانا قالت فيه إن وزارة العدل “تستحوذ بالكامل على صلاحيات مجلس القضاء العدلي، وتتجاوز كل الخطوط الحمراء في السيطرة على القضاء”.
وانتقدت الجمعية عبر بيان، في 9 سبتمبر 2024، قيام وزارة العدل، "خارج كل اختصاص يخول لها ذلك، وفي مخالفة واضحة وصريحة للنصوص القانونية المنطبقة، على نشر جداول الكفاءة لترقية القضاة وإصدارها في الأسابيع الأخيرة لعدد كبير من مذكرات العمل بشكل متواتر وشبه يومي، فيما يشبه الحركة القضائية الواسعة".
وأدان البيان "بشدة هذا النهج التسلطي المتواصل الذي تفرضه السلطة التنفيذية عبر وزارة العدل على القضاة، والتوسع غير المحدود وغير المسبوق لنفوذ وزيرة العدل داخل القضاء، واستغلالها وضعية الشلل والجمود التي عليها المجلس المؤقت للقضاء العدلي نتيجة عدم ملء الشغور الحاصل في تركيبته منذ نحو عام من طرف رئيس الجمهورية لبسط سيطرتها عليه بالكامل وبشكل تجاوز كل الخطوط الحمراء".
وأكدت الجمعية أن "ما تأتيه السلطة التنفيذية ووزارة العدل، يشكل سياسة واضحة وممنهجة من السلطة السياسية لترهيب القضاة والمسؤولين القضائيين، بغاية تطويعهم وفرض إملاءاتها وتعليماتها وبرامجها وأهدافها عليهم بالقوة، دون أن يكون لذلك أي علاقة بما ترفعه من شعارات الإصلاح والتطوير والنهوض بأوضاع المحاكم وتحسين أداء مرفق العدالة".
وطالب القضاة بكل شدة، "السلطة السياسية بمراجعة خياراتها الكارثية في التعامل مع السلطة القضائية التي ثبت فشلها، وتسببت في اضطراب العمل بالمحاكم، واحتقان الأوضاع داخلها، وزادت في استفحال الأزمة في مرفق العدالة".
وحذر البيان "من تداعيات الأزمة القضائية والترهيب المسلط على القضاة، وإشاعة أجواء الخوف والرعب وانعدام الأمان بينهم من قبل وزارة العدل، على وضع الحقوق والحريات وحقوق المتقاضين والمواطنين، وتراجع الحماية القضائية لها خاصة في خضم أجواء استحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة".
وفي اليوم الموالي لبيان القضاة، صدر بلاغ عن "النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين"، قالت فيه إنها “تتابع بقلق شديد انهيار الحالة الصحية للصحفي محمد بوغلاب، الذي تم إيداعه السجن منذ مارس/آذار 2024، وتتم ملاحقته قضائيا في عديد الملفات على خلفية عمله الصحفي”.
وقالت نقابة الصحفيين في 10 سبتمبر 2024، إن “معاناة بوغلاب من أمراض مزمنة تتضاعف بسبب ضعف الإحاطة الطبية بوضعه الصحي بالسجن، وعدم توفر بعض الأدوية وبدائلها، خاصة وأنه يعاني من أمراض مزمنة متقدمة على غرار مرض السكري وضغط الدم، كما يتواصل حرمانه من التواصل مع عائلته عبر المراسلات المكتوبة”.
وعبرت عن "تضامنها المطلق والمبدئي مع بوغلاب ومع كل الصحفيين والصحفيات بالسجون التونسية، الذين يعانون من ظروف قاسية، خاصة في ما يتعلق بالرعاية الصحية وتوفير الأدوية واحترام حقوقهم كمساجين في الرعاية الصحية".
ودعت النقابة الوزارة والهيئة العامة للسجون والإصلاح بـ"مراعاة احتياجات الزميل من أدوية مرض السكري وحقه في الماء وغيره، سواء في السجن أو خلال نقله لحضور جلسات محاكماته المتعددة، والتي تطول لتصل في بعض الحالات إلى 8 ساعات".
ميدانيا، نظم آلاف التونسيين، في 13 سبتمبر 2024، مسيرة بالعاصمة "تنديدا بواقع الحقوق والحريات في البلاد، وللمطالبة بوقف ملاحقة السياسيين والحقوقيين والإعلاميين وإطلاق سراح المعتقلين".
ودعا لتنظيم المسيرة “الشبكة التونسية للحقوق والحريات” (ائتلاف جمعيات وأحزاب يسارية وليبرالية)، وانطلقت من ساحة الجمهورية في اتجاه المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس.
وبحسب منظميها، فإنها جاءت لـ"الدفاع عن دولة القانون والحقوق السياسية والمدنية، وإلغاء المراسم القمعية، وضمان حق الجميع في حرية التعبير وحق المعارضة والمطالبة بإطلاق سراح مساجين الرأي والنشاط المدني والسياسي".
وخلال المسيرة، رفع المتظاهرون شعارات من قبيل: "لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب"، و"حريات حريات دولة البوليس وفات (انتهت)".
انتهاكات متواصلة
وقال رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بتونس (مستقلة)، بسام الطريفي، إن "الوضع اليوم على مدى خطورته يتطلب أكثر من مسيرة وأكثر من تحرّك نضالي حتى نقول إننا لن نصمت إزاء الانتهاكات للحقوق والحريات في هذه المرحلة خاصة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024".
وأضاف الطريفي في تصريحات إعلامية على هامش المسيرة: "اليوم نلاحظ تعمّق الانتهاكات التي طالت ليس فقط السياسيين والصحفيين بل عامة الشعب التونسي، اليوم تُنتهك حرية الرأي والتعبير والعمل الجمعوي وأيضا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية".
وأردف قائلا: "اليوم نقول كفى ولن نصمت إزاء ما نراه من انتهاكات للحقوق المكتسبة بعد ثورة 2011 بفضل دماء شهداء وجرحى الثورة".
وتزامنا مع المسيرة، أصدرت حركة “النهضة” بيانا قالت فيه إن "السلط الأمنية أقدمت منذ ليلة 9 سبتمبر وخلال الأيام الموالية، على إيقاف حوالي 80 من مناضلي ومناضلات الحركة من المعنيّين بملف العدالة الانتقالية، في حملة غير مسبوقة من المداهمات وانتهاك أبسط الحقوق التي يكفلها القانون".
وأوضحت أن “المعتقلين يوجدون منذ إيقافهم من ظروف اعتقال قاسية وإهمال، ومنعهم من أدويتهم ومن مقابلة المحامين، علما بأن جلّهم تجاوزوا الستين سنة من العمر، ويعاني العديد منهم أمراضا مزمنة”.
واستنكرت الحركة "بشدة هذا التنكيل المتعمد الذي يتعرض له الموقوفون، ونطالب السلطة باحترام حقوقهم والإفراج عنهم".
وتفاعلا مع كل هذه التطورات، قال البرلماني السابق والناشط السياسي التونسي، زياد الهاشمي، إن الشارع بدأ يصدح بصوت واحد، كلماته تقول: "لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب".
وشدد الهاشمي لـ"الاستقلال"، على أن “مسيرة 13 سبتمبر، تعكس حالة الغليان السياسي الذي يعتمل الداخل التونسي في ظل النظام الحالي بقيادة سعيّد”.
ونبه إلى أن “كون التيار المنظم للمسيرة، والذي لم يسبق له الوقوف بشكل كبير وواضح ضد سعيد، وإن جاء متأخرا، إلا أنه وقع، وهذا هو الأساس الذي يجب البناء عليه، وليس انتقاد تأخرهم في اتخاذ هذا الموقف من النظام”.
ورأى الهاشمي أن ترديد المحتجين لشعار "جاك الدور جاك الدور يا قيس يا ديكتاتور"، و"يا قيس يا جبان يا عساس الطليان (حارس إيطاليا)"، و"صلاحيات فرعون إنجازات فكرون (السلحفاة)".. وغيرها، تعكس نظرة الشارع لسعيّد، وكونه غير مؤهل لأن يكون رئيسا للبلاد أو أن يبقى كذلك.
وعن خلفيات مختلف أشكال القمع والتضييق التي تقع في تونس من لدن السلطات، قال المتحدث ذاته، إنها "تعكس خوف سعيد من نتائج الانتخابات المقبلة، وإيمانه الأكيد بأن الشارع ليس معه، وبأن التزوير لن يكون ممكنا".
ولذلك، يردف الهاشمي، فإن "انتخابات 6 أكتوبر ستكون فرصة ولن تضيع بحول الله، لطي صفحة الانقلاب، والعمل الجماعي من أجل هذه الغاية، بما يعيد لتونس حياتها الحزبية والسياسية الطبيعية".
واستطرد: "وبما يمكن من الإفراج على جميع المساجين السياسيين والإعلاميين والصحفيين..، والعودة لدستور الشعب مع التعديل، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة ذات مصداقية".
وشدد الهاشمي على أن “تحقيق هذا مشروط بوعي الشارع ونخبه بدورهم السياسي وتأثيرهم الكبير على تغيير الوضع، ليس في تونس فقط، بل إن التغيير الداخلي سيكون بداية لتغيير جديد في المنطقة العربية، وخاصة مصر التي تعيش هي الأخرى على وقع الاحتقان، وتنتظر أي تحول شعبي واسع وضاغط في تونس كما وقع نهاية 2010 وبداية 2011”.