مستعمرة “كاليدونيا” الفرنسية في المحيط الهادئ.. لماذا ثارت ضد باريس؟

12

طباعة

مشاركة

بعدما خسرت فرنسا 6 مستعمرات في القارة الإفريقية، طُردت منها، وهي مالي وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد عام 2021، والنيجر والغابون عام 2023، بدأت شعوب مستعمراتها في المحيط الهادئ تثور عليها، وتحديدا في "كاليدونيا الجديدة".

ويقع هذا الأرخبيل جنوب غرب المحيط الهادئ، على بعد أكثر من 1500 كلم من أستراليا من جهة الشرق، وعلى بعد قرابة 16 ألف كم إلى الشرق من الأراضي الفرنسي، وهي عبارة عن أرخبيل من الجزر الساحرة سياحيا، وتستغل فرنسا مواردها التعدينية.

واستيقظ الفرنسيون في 15 مايو/أيار 2024 ليجدوا أبناء الشعب الأصلي (الكاناك) يرفعون راية العصيان ضد الاستعمار الفرنسي، ويهتفون "الحرية" و"المقاومة" ويحرقون القواعد العسكرية الفرنسية.

والمفارقة أنه على غرار رفع ثوار دول الساحل الإفريقي التي تمردت أعلام روسيا ليغيظوا فرنسا، رفع سكان "كاليدونيا" أعلام أذربيجان وتركيا، اللتين تتهمهما باريس بدعم الثورة ضدها.

أسباب الثورة

سبب ثورة سكان كاليدونيا الأصليين، هو تبني البرلمان الفرنسي مشروع قانون جديد يسمح للمواطنين الفرنسيين (الوافدين الجدد) الذين عاشوا في كاليدونيا الجديدة لمدة عشر سنوات بالتصويت في الانتخابات المحلية هناك.

هذه الخطوة أثارت حفيظة القادة المحليين، الذين رأوا فيها تقويضا للقدرة التصويتية للسكان الأصليين -الكاناك- الساعين إلى الحصول على استقلالهم من فرنسا في نهاية المطاف.

وسبق هذا التشريع قيام فرنسا بإرسال آلاف المهاجرين غير النظاميين إلى كاليدونيا الجديدة لاستيعاب سكان الكاناك الأصليين البالغ عددهم قرابة 270 ألفا، وعملت على تغيير قوانين الانتخابات لتقليل النفوذ السياسي لـ"الكاناك" على أراضيهم.

ما دفع شعب كاليدونيا الجديدة للثورة لأنهم سعوا منذ فترة طويلة إلى الاستقلال، على أمل إعالة نفسها من خلال التعدين والسياحة، لذا جاءت مناقشة البرلمان الفرنسي لهذا التشريع الذي يعني بقاء سيطرة باريس ليصب الزيت على النار.

ونشب صراع بين حركات الاستقلال التي قادها شعب "كاناك" الأصلي، وباريس استمر لسنوات.

وتم إبرام "اتفاق نوميا" عام 1998 لإنهاء الصراع من خلال تحديد مسار للحكم الذاتي التدريجي وقصر التصويت على الكاناك والمهاجرين الذين يعيشون في كاليدونيا الجديدة قبل عام 1998. 

وسمح الاتفاق بإجراء ثلاثة استفتاءات لتحديد مستقبل البلاد أقلقت نتائج أولها فرنسا، لأن دعم الاستقلال نما في الاستفتاءين الأخيرين من 43 بالمئة مؤيدون للاستقلال عام 2018 إلى 47 بالمئة عام 2020.

وقاطع الشعب استفتاء 2021 متهمين فرنسا بمحاولة التأثير فيه، لذا جاءت نتيجته أكثر من 96.50 بالمئة (من المشاركين) ضد الاستقلال عن فرنسا لأن شعب "الكاناك" وغيره من المواطنين لم يشاركوا فيه.

ولا يزال الاستفتاء الثالث عام 2021، غير معترف ومحل نزاع مع فرنسا، من قبل الجماعات المؤيدة للاستقلال التي سعت إلى تأجيل التصويت بسبب أزمة جائحة كورونا، ورفضت فرنسا ذلك، وأسهم هذا في تصاعد السخط منذ ذلك الحين.

ثم جاء قرار تغيير قانون الانتخابات والسماح للوافدين الفرنسيين الجدد بالتصويت، بعد أن كان تصويتهم قاصرا على من كانوا هناك حتى 1998، ليغضب دعاة الاستقلال، فوقعت اضطرابات خطيرة في الجزيرة، ومصادمات مع القوات الفرنسية.

ومع إشعال المتظاهرين الغاضبين النار في السيارات والمتاجر والمباني غضبا من الاستعمار الفرنسي وطلبا للاستقلال الذي تتحايل عليه باريس بـ"إجراءات تشريعية باطلة"، غطى دخان أسود العاصمة وانتشر العنف بشكل كبير.

حالة من الذعر

وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" في 17 مايو 2024 إن الاشتباكات المميتة في كاليدونيا الجديدة "تثير مخاوف من نشوب حرب أهلية"، لأن المتظاهرين أشعلوا النيران في سيارات الشرطة ومصنعين للشوكولاتة وتعبئة الصودا.

وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه سيؤجل إقرار القانون الذي يزيد عدد الوافدين الفرنسيين المسموح لهم بالتصويت في الانتخابات، وسيدعو ممثلين عن سكان الإقليم إلى باريس؛ لإجراء محادثات بهدف التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. 

لكنه قال إنه "يجب التوصل إلى اتفاق جديد بحلول يونيو/ حزيران 2024، وإلا فإنه سيوقعه ليصبح قانونا يجري العمل به".

لكن يبدو أن "محاولة ماكرون لم تنجح في تهدئة الموقف، إذ تحولت الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة أثارت حالة من الذعر في الجزيرة". 

وأرسلت فرنسا فرقة من القوات الخاصة يبلغ عددها 500 فرد إلى الجزيرة؛ لقمع سكانها فقتلت وأصابت العشرات، وعلى طريقة الأنظمة القمعية، أعلنت "حالة الطوارئ" وحظرت تطبيق "تيك توك" لتحريضه ضدها.

وقال المفوض السامي الفرنسي لوي لو فرانك، وهو أكبر مسؤول فرنسي في كاليدونيا الجديدة إنه تم إرسال 2700 جندي لقمع التمرد ودعاة الاستقلال.

وأكد أن ما لا يقل عن 60 فردا من قوات الأمن أصيبوا واعتقل 214 شخصا خلال اشتباكات مع الشرطة وإشعال حرائق ونهب، وفق ما نقلت عنه وكالة "أسوشيتدبرس" في 17 مايو.

وتنظم الاحتجاجات في كاليدونيا الجديدة جهة تسمى "خلية تنسيق العمل الميداني" وندد بها المفوض السامي الفرنسي ونأى بها عن "حزب جبهة الكانك للتحرير الاشتراكي" المؤيد للاستقلال. 

ووُضع عشرة من قادة جبهة تنسيق العمل الميداني، التي تقول باريس إنها المجموعة الأكثر تطرفا في "جبهة تحرير شعب الكاناك الاشتراكية"، قيد الإقامة الجبرية بشبهة رعايتهم أعمال العنف، حسبما أكد وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان.

أذربيجان وتركيا

وجهت فرنسا اتهامات لجهات خارجية بإشعال الموقف في كاليدونيا الجديدة.

وحاولت التستر على ثورة شعب "الكاناك" وقمعها لهم، بإلقاء اللوم على أذربيجان وتركيا.

ولامت وسائل إعلام فرنسية البلدين، وادعت أن وكالات المخابرات في باكو وأنقرة وراء دعم هذه الثورة ضدها.

من جهته، قال مصدر تركي لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني في 15 مايو إنه "من المضحك الاعتقاد بأن أنقرة لديها نية لإثارة الاضطرابات في مكان ما على بعد آلاف الكيلومترات منها".

كما اتهمت فرنسا أذربيجان في 17 مايو/أيار 2024 بتأجيج نيران أعمال الشغب في جزيرة كاليدونيا الجديدة، من خلال إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بما قالت إنها صور ومقاطع فيديو مضللة تستهدف الشرطة الفرنسية، بحسب وكالة "رويترز" البريطانية.

فيما نفت وزارة الخارجية الأذربيجانية على لسان المتحدث باسمها، أيخان حاجييف، ما وصفته بـ"المزاعم المهينة"، مؤكدة أن "لا علاقة لها باحتجاجات كاليدونيا الجديدة".

وقالت: "بدلا من اتهام أذربيجان بدعم الاحتجاجات المؤيدة للاستقلال في كاليدونيا الجديدة، ينبغي على فرنسا التركيز على سياستها الفاشلة تجاه أقاليم ما وراء البحار والتي أدت إلى مثل هذه الاحتجاجات". 

وسبق أن ردت أذربيجان بغضب على الدعم العسكري الفرنسي لأرمينيا خلال الصراع العسكري معها عام 2023، ويقول محللون إن "أذربيجان ربما ترد الصفعة لفرنسا".

وكانت فرنسا، التي تضم جالية أرمنية كبيرة، متعاطفة مع يريفان وقدمت لها المعدات العسكرية.

تداعيات وخسائر 

بعدما تم طرد فرنسا من الدول الإفريقية المنتجة لـ"الذهب" و"اليورانيوم" والنفط والغاز الطبيعي يجرى حاليا طردها من بلدان التعدين، ومنها كاليدونيا الجديدة التي تستغل باريس مواردها المعدنية لصالحها مثلما ظلت تفعل مع الدول الإفريقية التي طردتها.

ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، تم اكتشاف المعادن على أراضي الجزيرة، وبخاصة النيكل، ما زاد من أهمية كاليدونيا الجديدة بالنسبة لفرنسا. 

وكاليدونيا الجديدة هي رابع أكبر دولة منتجة للنيكل في العالم، وفرنسا تستغل هذا المخزون والمعادن في صناعة السلاح والسيارات الكهربائية وغيرها.

وبسبب النيكل والمعادن، وأيضا موقعها في قلب منطقة بحرية معقدة جيوسياسيا، حيث تتصارع الصين والولايات المتحدة على السلطة والنفوذ في مجالي الأمن والتجارة، تتشبث بها فرنسا.

وتعد كاليدونيا أيضا مكانا معروفا للسياح بجزرها المرجانية وشعابها المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

وقال ماكرون في تصريح أوائل 2024 إن حملة فرنسا لتوسيع نفوذها في المحيط الهادئ تهدف إلى ضمان "التنمية القائمة على القواعد"، في إشارة إلى موارد كاليدونيا المعدنية خاصة النيكل، وفق صحيفة "الغارديان" في 15 مايو 2024.

فيما أوضحت وكالة "رويترز" في 15 مايو أن "كاليدونيا الجديدة، هي واحدة من خمس مناطق جزرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تسيطر عليها باريس، ويضع ماكرون خطة مركزية لزيادة النفوذ فيها".

وكانت هذه المنطقة قد شهدت زلزالا جيوسياسيا عام 2022 تسبب فيه إعلان الصين وجزر سليمان، المجاورة لكاليدونيا الجديدة، عن توقيع اتفاقية أمنية، وهو ما أثار الغضب في أميركا وأستراليا ونيوزيلندا وباقي العواصم الغربية.

وجزر سليمان هي أرخبيل يتكون من نحو 990 جزيرة تشكل معا دولة عاصمتها هونيارا، وتقع في جنوب المحيط الهادئ على بعد أقل من 2000 كلم من الساحل الشرقي لأستراليا.

وجزر سليمان تابعة للتاج البريطاني وتتمتع بعلاقات وثيقة مع أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، وكانت تعد ملعبا غربيا خالصا، وجاء اتفاقها مع الصين ليقلق الغرب بسبب موقعها الإستراتيجي في جنوب المحيط الهادئ الذي يجعلها كنزا من الصعب التفريط فيه.

وتخشى الحكومة الفرنسية من أن تتصاعد الأمور وتؤدي في نهاية المطاف إلى موقف شبيه بما حدث مع أغلب المستعمرات الفرنسية السابقة في قارة إفريقيا، حيث فقدت باريس نفوذها هناك لصالح قوى أخرى أبرزها روسيا والصين.

وتقع كاليدونيا الجديدة في المياه الدافئة في جنوب غرب المحيط الهادئ، قرب أستراليا من جهة الشرق وعاصمتها هي "نيوميا"، وتبلغ مساحتها نحو 18.500 كلم مربع.

وعدد سكانها 270 ألف نسمة، 41 بالمئة من شعب الكاناك، وهم السكان الأصليون، و24 بالمئة من أصل أوروبي، معظمهم فرنسيون

والباقي من أصول أوروبية (من الكالدوش وفرنسيي الأراضي الفرنسية) وشعوب بولينيزية من 1000 جزيرة مبعثرة في المحيط الهادئ المركزي والجنوبي، وأيضا شعوب من جنوب شرق آسيا.

واستقر فيها البريطانيون وأطلق المستكشف البريطاني القبطان جيمس كوك على الجزيرة اسم "كاليدونيا الجديدة" عام 1774. 

ولاحقا امتلكت فرنسا الجزيرة وضمتها إلى أراضيها عام 1853، وظلت مستعمرة فرنسية حتى مطلع القرن العشرين. 

وفي عام 1947، تم إدراج كاليدونيا الجديدة في قائمة الأمم المتحدة للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، بعد أن أحالت فرنسا معلومات بشأن الجزيرة والأقاليم التابعة لها بموجب المادة 73 (هـ) من ميثاق الأمم المتحدة.