مقاطعة التونسيين الانتخابات التشريعية في بنزرت.. الخلفيات والتداعيات

"ضعف المشاركة يدل أن الشارع ينظر إلى العملية الانتخابية كعميلة ترقيع، لغياب الجدية والمصداقية عنها"
مع كل استحقاق انتخابي تشهده تونس، تتوسع دائرة المقاطعة الشعبية، مما يزيد في عزلة نظام قيس سعيد الديكتاتوري، ويعمق إشكالية مشروعيته السياسية.
ومن آخر المؤشرات المرتبطة بهذا الوضع، ما شهدته مدينة بنزرت الشمالية إثر الانتخابات التشريعية الجزئية التي نُظمت بها يوم 28 يونيو/حزيران 2025، حيث بلغت نسبة المشاركة فيها 2,5 بالمئة.
وبحسب منشور نقله موقع "الإذاعة الوطنية"، في 30 يونيو، فقد بلغ عدد الأصوات الإجمالية المصرح بها ما يعادل 2623 صوتا من مجموع 89632 ناخبا مسجلا، بينما بلغ عدد الأوراق الملغاة 56 ورقة، وعدد الأوراق البيضاء 80 ورقة.
وذكر أن الأصوات المصرح بها توزعت بين المترشحين السبعة كما يلي: عدنان العلوش: 581 صوتا، محمود السيد: 584 صوتا، محرز الغنوشي: 340 صوتا، فاطمة الربيعي: 475 صوتا، كمال العايدي: 252 صوتا، كمال شتوان: 213 صوتا، وهشام العرفاوي: 178صوتا.
ونقل موقع "بوليتكنيك" التونسي، أن الأمر لم يتوقّف عند هذا الحد، إذ خسر مرشّح السلطة محرز الغنوشي الجولة الأولى، وجاء في المرتبة الرابعة، ما يكشف بوضوح تراجع الثقة في مسار قيس سعيد الفردي، الذي جرّ البلاد إلى العزلة والفشل في المجالات كافة.
ومنذ أن قرّر سعيد احتكار السلطات في البلاد في تموز/يوليو 2021، فرض إجراءات استثنائية، شملت حل مجلس القضاء والبرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
وتشهد البلاد حالة احتقان سياسي وحقوقي كبير، في ظل محاكمات سياسية لحقوقيين وسياسيين معارضين، أبرزهم راشد الغنوشي، رئيس مجلس النواب المنحل وزعيم حركة النهضة، وذلك وسط اتهامات للرئيس باستغلال السلطة القضائية لتصفيه معارضيه.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2024، شهدت تونس انتخابات رئاسية أعادت سعيد إلى قصر قرطاج بنسبة تأييد بلغت 90.69 بالمئة، فيما بلغت نسبة المشاركة 28.8 بالمئة، وهي الأدنى منذ الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي في 2011.
عزلة سياسية
هذه النسبة الضعيفة في المشاركة الانتخابية دفعت بعدد من الفاعلين السياسيين إلى التفاعل معها، ومن ذلك ما صدر عن وزير الخارجية التونسية الأسبق، رفيق عبد السلام.
والذي رأى في تدوينة عبر فيسبوك، في 30 يونيو أن النسبة المسجلة في انتخابات بنزرت "هي أضعف نسبة في تاريخ البشرية منذ أن اكتشفت آلية الانتخاب".
وأضاف عبد السلام: "الحقيقة أن نسبة المشاركة ليست ضعيفة بل معدومة تماما".
وشدد على أن "شعبوية بدون شعب، هي أشبه ما يكون بقردة من دون موز، وزعيم بدون شعب هو أشبه ما يكون بمهرج يضحك وحده فوق الخشبة من دون جمهور".
بدورها، قالت النائبة البرلمانية فاطمة المسدي، إن ما وقع في الانتخابات الجزئية بدائرة بنزرت الشمالية ليس تفصيلا، بل هو إنذار.
وتابعت المسدي في تدوينة عبر فيسبوك، في 30 يونيو، "حين يتأهّل مترشحان بـ600 صوت فقط، فافهموا الرسالة"، مسجلة وجود "عزوف، وتمثيل ضعيف، وفارق 3 أصوات بين الأول والثاني".
ورأت أن "السؤال ليس فقط: "لماذا لم يصوّت الناس؟"، بل: “لماذا فقدوا الثقة أصلا؟”
والإجابة وفق النائبة البرلمانية "واضحة"، مردفة، “لأن البرلمان أصبح مهمّشا، لا دور حقيقيا له، والحكومة لا تُجيب على أسئلة النواب، ومقترحات القوانين تُجمَّد وتُهمَّش، والسلطة التنفيذية تشتغل وكأنها وحدها في الدولة، فماذا تنتظرون من الشعب؟”
وشددت المسدى أن "هذه الانتخابات كشفت هشاشة المسار الديمقراطي الحالي عند الشعب"، منبهة إلى أنه إن "لم نُصلح التوازن بين السلط، ونعيد للبرلمان وزنه ودوره، فالقادم أسوأ".
غياب الشرعية
من جانبه، رأى المحلل السياسي التونسي نصر الدين السويلمي، أن "العنوان الرئيس للانتخابات البرلمانية الجزئية ببنزرت هو العزوف عن السياسة أو الاستقالة التامة من المجال السياسي".
وشدد السويلمي لـ "الاستقلال" أن ضعف المشاركة يدل أن المجموعة الوطنية أو الشارع أو الناخب ينظر إلى العملية الانتخابية كعملية ترقيع، لغياب الجدية والمصداقية عنها.
وأردف، كما أنها تحيله على منظومة ومناخات ما قبل ثورة 17 ديسمبر/كانون أول 2010، حين كانت المنظومة الشمولية تبسط يدها على تفاصيل العملية الانتخابية.
واتهم السويلمي الهيئة المستقلة للانتخابات برئاسة فاروق بوعسكر، بالقيام بعملية تزوير انتخابي مبطنة، وذلك عبر مجموعة من الطرق الالتفافية للتحايل على العملية الانتخابية، من حيث تقسيم الدوائر وشروط الترشح وغيرها.
واستدرك، لكن لم نصل بعد إلى التزوير في عملية فرز الأصوات، لأنه ليس هناك ولاء مطلق بين أعضاء الهيئة لقيس سعيد.
ولا يستبعد السويلمي الوصول إلى هذا الأمر في الفترة المقبلة، أي التزوير العلني والمباشر والفاقع، ومن يعترض من أعضاء الهيئة على ذلك فسيجد نفسه في السجن أو الاعتقال أو سلة اتهامات من السلطة القائمة.
وكانت المحكمة الإدارية قد أصدرت أحكاما استئنافية غير قابلة للطعن، في أغسطس/آب 2024، أعادت بموجبها كل من المرشح القيادي السابق بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية عماد الدائمي، والوزير السابق في فترة حكم بن علي منذر الزنايدي، وأمين عام حزب العمل والإنجاز عبد اللطيف المكي، إلى سباق الانتخابات الرئاسية، المجراة في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وجاء هذا الحكم بعد أن قامت هيئة الانتخابات بإسقاط هؤلاء المرشحين للانتخابات بدعوى عدم استيفاء شروطهم، في وقت رأت فيه المعارضة أنها قد سعت متعمدة إلى إقصاء خصوم الرئيس قيس سعيد بشروط قانونية تعجيزية ولأتفه الأسباب، من أجل تعبيد طريقه لولاية ثانية.
وبخصوص سبل معالجة هذا الوضع أو الوصول إلى التغيير، قال المحلل السياسي التونسي، إن هذا مشروط بأن نصل إلى مرحلة تصبح فيها المعارك مع "الدكتاتور" أولى من المعارك البينية التي تطغى عليها الإيديولوجيات، حينها فقط يبدأ العد التنازلي.
واسترسل، اليوم مازال الخصم الأول للمعارضة العلمانية هو الإسلام السياسي وليس المنقلب والانقلاب، لذلك مازال النضال خارج التغطية، ومازالت المعارضة تحلب في آنية مثقوبة إلى الآن، وفق تعبيره.
حكم استبدادي
التحذير من وضعية الاستبداد التي تعيشها تونس جاءت أيضا على لسان عدد من المنابر الإعلامية الدولية، وفي هذا الصدد، قالت صحيفة لوفيغارو الفرنسية، إن قيس سعيد، منذ توليه السلطة عام 2019، شرع، على غرار جمهوريات الموز، في حملة استبدادية مجنونة، مهاجما المعارضين وأسس دستور البلاد.
وذكّرت الصحيفة في مايو/أيار 2025، بالأحكام الأخيرة التي أصدرها القضاء التونسي وقالت: إنها مبالغ فيها، وتشهد على التصعيد الاستبدادي للرئيس الذي واصل منذ انتخابه عام 2019 انتهاك الحريات، بدءا من حريات الأصوات المعارضة.
وتراوحت أحكام هذه المحاكمة التي وصفتها الصحيفة بأنها ذات صبغة ستالينية، بين 13 و66 عاما سجنا.
واُتهم 40 شخصا، معظمهم من الصحفيين والمحامين ورجال الأعمال والمثقفين والناشطين الذين يعدون من الرموز المعارضة للحكومة، في قضايا مثل "مؤامرة ضد أمن الدولة"، و"المشاركة في تأسيس منظمة إرهابية بهدف زعزعة الأمن الداخلي والخارجي لتونس"، وأعمال "إرهابية"، و"التحريض على الحرب الأهلية"، و"إثارة الاضطرابات".
ورغم أن سعيد انتخب رئيسا للبلاد على أساس وعود بالتغيير وغد أفضل، ورغم أنه كان أكاديميا متخصصا في القانون الدستوري، فقد انتهك القانون بشكل منهجي منذ انتخابه الأول ليمنح نفسه سلطات كاملة في البلاد.
واستغل سعيد وضعا سياسيا معقدا مرتبطا بجائحة كوفيد-19، فحل البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء وعدل الدستور، الذي ضمن منذ عام 2014 الإدارة البرلمانية للحياة العامة، وحرص على تركيز السلطة في يده، قبل أن يعاد انتخابه في أكتوبر/تشرين الأول 2024 بنسبة مشكوك فيها، حسب الصحيفة، بلغت 90 بالمئة من الأصوات.
بدوره، أشار تقرير نشرته صحيفة إلباييس الإسبانية، في مايو 2025، إلى محاكمات جماعية وأحكام بالسجن نالت معارضين سياسيين في عهد الرئيس قيس سعيد.
وقال التقرير: إن حملة الاعتقالات بدأت منذ إغلاق الرئيس سعيّد البرلمان في 2021، وأسفرت عن إدانة رئيس وزراء سابق، وسط صمت أوروبي لافت تجاه تدهور الحريات في البلاد.
وذكر أن أكثر من 100 معارض حُكم عليهم بالسجن خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، مما يعيد تونس إلى مشهد القمع الذي عاشته زمن نظام بن علي قبل 2011.
وأضاف أن الحكم على رئيس الوزراء السابق علي العريض بالسجن 34 عاما يعكس ذروة هذا التضييق، في وقت تشهد فيه المعارضة هجومًا منسقًا من السلطة القضائية.
وأوضح التقرير أن سياسيين إسلاميين وعلمانيين، وصحفيين ومثقفين، تم اعتقالهم أو دفعهم إلى المنفى، وفق ما أكده بسام خواجة من منظمة هيومن رايتس ووتش.
وذكرت هيومن رايتس ووتش أن قمع المعارضة تصاعد منذ أن ألغى سعيد المجلس الأعلى للقضاء في 2022، وبدأ إقالة القضاة وتوظيف القضاء لملاحقة خصومه السياسيين.

كما أفادت منظمة العفو الدولية بأن السلطات استخدمت القضاء لقمع حرية التعبير والمعارضة، ووصفت ما يحدث بأنه "حملة مطاردة" ضد كل صوت ناقد للنظام.
وأشار التقرير إلى أن محاكمة علي العريض و7 من قادة النهضة جرت خلف أبواب مغلقة، ضمن ما يعرف بقضية "الشبكات الجهادية"، رغم غياب الأدلة حسب الدفاع.
وأكد أن حركة النهضة، التي تصدرت انتخابات 2019 أصبحت محظورة، وحُكم على زعيمها راشد الغنوشي بالسجن 22 عاما، إلى جانب أحكام سابقة عليه.
كما نقل التقرير صدور حكم جماعي ضد 40 معارضا بتهمة "التآمر على أمن الدولة"، في محكمة مكافحة الإرهاب، مع أحكام وصلت إلى 66 سنة سجنا، وسط غياب ضمانات المحاكمة العادلة.
وأضاف أن المحامية سونيا الدهماني سُجنت 18 شهرا بسبب تصريح ساخر.
وأشار إلى مقترح المفوضية الأوروبية عد تونس بلدا "آمنا"، مما قد يمنع التونسيين من طلب اللجوء قانونيا، رغم الانتقادات الأوروبية المتحفظة لما يجري.
وذكر أن المفوضية الأوروبية تواصل دعم الاتفاقات مع تونس لوقف الهجرة مقابل تمويلات، متجاهلة الانتهاكات المتزايدة لحقوق الإنسان والمعارضة السياسية في البلاد.
وتحدث التقرير عن اعتماد النيابة على "شهادات سرية" لتبرير القمع، وسط تأكيد منظمات دولية أن التهم ملفقة وأن النظام يستخدم "أمن الدولة" ذريعة للاستبداد.
وشدد على أن هذه الأحكام تمثل نهاية لمسار الانتقال الديمقراطي في تونس، البلد الذي كان يُنظر إليه كأمل للربيع العربي، وانتهى إلى خيبة مريرة.