خلاف الدبيبة والردع.. هل يفتح الباب لتفكك جديد في غرب ليبيا؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في المساء، حين تبدأ أضواء السيارات في التوهج على طرقات العاصمة طرابلس المزدحمة، يبدو المشهد أقرب إلى فوضى منسقة. 

سيارات تتدافع في شوارع مكتظة، ووجوه متعبة تحاول شق طريقها إلى المنازل، وعند مدخل حي سوق الجمعة، أحد أكثر أحياء العاصمة كثافة سكانية، يقف أربعة شبان يرتدون بزات عسكرية جديدة، يحملون بنادق كلاشينكوف حديثة، ويتولون مهمة تنظيم المرور وسط الزحام. 

للوهلة الأولى، قد يخيل للمارة أنهم أفراد شرطة، لكنهم في الحقيقة عناصر من جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، المعروف في ليبيا باسم "الردع"، وهو أحد أقوى وأشد الفصائل نفوذا في طرابلس.

وفي 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، نقل موقع "ميدل إيست آي" البريطاني تصريحات لأحد المسلحين، الذي قال: "نحن هنا لحماية الناس ومنع أي احتكاكات". 

وينقل الموقع البريطاني أن الرجل المسلح التفت بعينيه الحذرتين نحو نقطة التفتيش القريبة حيث يقف شرطي واحد يبدو أقل تجهيزا منهم بكثير. 

هذه المفارقة البصرية بين الشرعي والموازي، بين الدولة واللادولة، تختصر حال طرابلس اليوم، مدينة يحكمها أكثر من مركز قوة، وتتقاطع فيها خطوط الولاء بين الحكومة والمليشيات والقبائل وحتى العواصم الأجنبية.

مشاهد الانقسام

منذ عام 2014 عندما قام حفتر بانقلابه على الحكومة الرسمية لم تعرف ليبيا استقرارا حقيقيا، لا سياسيا ولا أمنيا. 

ورغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 برعاية أممية، والذي أنهى القتال بين قوات الغرب المعترف بها رسميا وتلك التابعة للجنرال خليفة حفتر في الشرق، ظل الانقسام قائما. 

فالعاصمة تدار من قبل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، المعترف بها دوليا، بينما تسيطر في الشرق حكومة موازية مقرها بنغازي بقيادة أسامة حماد وتحظى بدعم حفتر وقواته المسماة "الجيش الوطني الليبي". 

وبين هاتين السلطتين تقف البلاد في حالة تجمد سياسي مزمن، تتقاسمه المليشيات المسلحة التي فرضت نفسها كحكم فعلي فوق الدولة.

في طرابلس، تشتبك هذه القوى على النفوذ والأموال أكثر من اشتباكها على الأيديولوجيا. 

فالمليشيات التي كانت تقاتل تحت شعارات الثورة، باتت اليوم تتناحر على السيطرة على مؤسسات اقتصادية ضخمة كقطاع النفط، أو شركات الاتصالات، أو حتى الموانئ والمطارات التي تحولت إلى مصادر دخل توازي ميزانية الدولة.

ومع تصاعد قوة الدبيبة السياسية خلال السنوات الثلاث الماضية، حاول الرجل أن يعيد رسم خريطة الولاءات في العاصمة. 

أطلق حملة لتفكيك المجموعات المسلحة المنافسة له، وأدخل بعضها تحت مظلة وزارته عبر التعيينات أو عبر دمج شكلي في الأجهزة الأمنية الرسمية. 

لكن بقي جهاز الردع شوكة صلبة في حلقه، رافضا الخضوع الكامل أو المشاركة في توزيع الغنائم السياسية، ولذا، أصبحت المواجهة معه مسألة وقت لا أكثر.

اتفاق هش

في مايو/ أيار 2025 أعطى الدبيبة أوامره بشن عملية عسكرية مفاجئة ضد جهاز الردع وجهاز دعم الاستقرار بقيادة عبد الغني الككلي، المعروف بلقب "غنيوة"، أحد أبرز خصومه في العاصمة. 

كان الصراع حينها على السيطرة على موارد شركة البريد والاتصالات وتقنية المعلومات القابضة (LPTIC)، وهي مؤسسة حكومية تعد بمثابة بنك تمويل سري للفصائل المسلحة التي تتنافس على أرباحها الباهظة. 

أسفرت الاشتباكات عن مقتل ما لا يقل عن ثمانية أشخاص بينهم مدنيون، وكانت الأعنف منذ أغسطس/ آب 2023 عندما سقط أكثر من 50 قتيلا في مواجهات مماثلة.

انتهت العملية بمقتل الككلي وتراجع جهاز الردع إلى معقله الرئيس في سوق الجمعة ومطار معيتيقة شرق المدينة، بعد أن خسر بعض مواقعه في وسط العاصمة لصالح كتائب موالية لحكومة الوحدة، أبرزها اللواء 444 واللواء 111 وجهاز الأمن العام. غير أن تلك السيطرة لم تترجم إلى استقرار، بل إلى موازين خوف جديدة. 

فطرابلس باتت تنام على توتر مزمن؛ إذ تخشى كل الأطراف عودة القتال في أي لحظة.

في أواخر أغسطس/آب 2025، كاد ذلك التوجس يتحقق حين أصدر الدبيبة إنذارا نهائيا للردع لإخلاء مطار معيتيقة، المرفق الدولي الوحيد العامل في العاصمة، والذي يمثل في الوقت نفسه موقعا إستراتيجيا حساسا لقربه من مقر الجهاز. 

حشدت قوات موالية للدبيبة دبابات ومدافع في ضواحي المدينة، ووصلت تعزيزات من مدينة مصراتة، المعقل التقليدي لأنصاره، استعدادا لمواجهة محتملة. 

لكن تدخلا تركيا عاجلا حال دون انزلاق الأمور إلى حرب شاملة، ففي 13 سبتمبر/ أيلول 2025 توصلت أنقرة إلى اتفاق بين الطرفين، يقضي بانسحاب رمزي لعناصر الردع من المطار دون المساس بمقرهم العسكري الرئيس. 

إلا أن الاتفاق كان أقرب إلى هدنة شكلية منه إلى حل جذري، كما قال الباحث في معهد RUSI البريطاني جلال حرشاوي، الذي وصفه بأنه "تجميد مؤقت لصراع قابل للاشتعال في أي لحظة".

على الأرض، لم ينسحب أحد، فلا تزال دبابات مصراتة في مواقعها، ولا تزال قوات الردع تجري تدريباتها على بعد مئتي متر من مدرج المطار. 

أما في سماء طرابلس، فصوت الطائرات التركية المسيرة لا ينقطع، فأنقرة التي تدخلت عسكريا عام 2020 لإنقاذ حكومة طرابلس من انقلاب حفتر المدعوم إماراتيا، تحتفظ بوجود عسكري واستخباري متواصل في المدينة لحمايته. 

ويقول حرشاوي: إن "تركيا لا تثق بالدبيبة وتتعامل معه بحذر، لكنها في الوقت ذاته لا تسمح بحرب في طرابلس تقع تحت إشرافها المباشر". 

وهو ما يسميه بعض الباحثين العقيدة التركية الجديدة، الحفاظ على النفوذ عبر ضبط الميزان. 

خسائر الدبيبة

في المقابل، خسر الدبيبة جزءا كبيرا من رصيده الشعبي الذي كان يستند إليه بوصفه رجل المرحلة الانتقالية الذي وعد بإجراء انتخابات لم تتحقق.

فبعد أحداث مايو/أيار 2025، خرجت تظاهرات غير مسبوقة في طرابلس ومدن الغرب الليبي، تطالب برحيله ومحاسبته على ما تعده فسادا واسعا واستئثارا بالسلطة. 

وكان اللافت أن بعض هذه الاحتجاجات جرت بدعم غير مباشر من جهاز الردع نفسه الذي وفر تغطية اتصالية للمتظاهرين عبر أجهزة "ستارلينك" المحمولة في الأحياء الشعبية، ما جعلها أشبه بانتفاضة صامتة ضد حكومة الوحدة.

تحت ضغط الشارع، استقال سبعة وزراء من حكومة الدبيبة، فيما بدأ مجلس الأمن الدولي بإعادة النظر في شرعية حكومته. 

وفي 21 أغسطس/آب 2025، أصدر المجلس قرارا يدعو إلى إنشاء حكومة موحدة جديدة خلال 18 شهرا، تتولى الإشراف على الانتخابات وتوحيد المؤسسات. 

وهو ما عُدّ ضربة قوية لمكانة الدبيبة الدولية التي لطالما كانت ورقته الأقوى في مواجهة خصومه المحليين. 

القرار الأممي أشعل موجة فرح في سوق الجمعة، معقل الردع الشعبي؛ حيث أطلق السكان الألعاب النارية أمام المجلس الاجتماعي للحي احتفالا بما عدوه "نهاية مرحلة واستعادة للتوازن".

لكن الصورة في طرابلس ليست سوداء بالكامل، فبينما يواجه الردع اتهامات متكررة بارتكاب انتهاكات جسيمة، مثل الخطف والتعذيب والقتل خارج القانون، يحاول قادته تلميع صورته كمؤسسة "منضبطة" تعمل ضمن القانون.

ويؤكد باحثون أن الردع كان أول فصيل في طرابلس يتبنى هيكلا إداريا واضحا ورتبا نظامية وتدريبات ميدانية منتظمة، ما أكسبه دعما من بعض السكان، خصوصا في الأحياء المحافظة التي ترى فيه "الشر الضروري" في مواجهة فوضى السلاح.

شرعية السلاح

لكن الصورة تختلف تماما عند منظمات حقوق الإنسان التي ترى في الردع مجرد فصيل آخر من فصائل السلطة المسلحة، يمارس الانتهاكات باسم القانون. 

منظمة العفو الدولية وثقت في تقريرها لعام 2021 حالات تعذيب واختفاء قسري داخل سجون الجهاز، ووصفتها بأنها "خارج نطاق القضاء". 

ومع ذلك، لم تسلم المجموعات الموالية للدبيبة من الاتهامات ذاتها؛ إذ نالت الانتقادات وزير داخليته عماد الطرابلسي، وقوات جهاز الأمن العام، وحتى كتائب مصراتة، لتتحول المدينة بأكملها إلى شبكة متشابكة من المظالم المتبادلة.

الباحث وولفرام لاشر، وهو خبير ألماني في الشؤون الليبية وشؤون الصراعات في شمال إفريقيا، ويعمل باحثا في "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية"، يرى أن "الردع ليس أنظف الفصائل، لكنه ليس الأكثر فسادا أيضا، ففي بلد تغيب فيه الدولة، ينظر إلى التنظيم والانضباط على أنهما شكل من أشكال الشرعية، حتى لو جاءا من فصيل مسلح". 

وبالفعل، تتلقى قوات الردع تمويلا رسميا من المجلس الرئاسي الليبي، وتدرج رواتب عناصرها ضمن الميزانية الوطنية، ما يمنحها غطاء قانونيا هشا لكنه كاف للاستمرار. 

كما تجني موارد إضافية من خلال السيطرة على مطار معيتيقة وبعض الأنشطة التجارية المحلية، وإن كان حجمها أقل مقارنة بعوائد المجموعات الأخرى الموالية للحكومة.

بلا دولة

في الجانب الآخر، يواصل الدبيبة الحديث عن توحيد السلاح تحت سلطة الدولة، لكنه في الواقع يستبدل الفصائل القديمة بأخرى أكثر ولاء له شخصيا. 

ويقول الصحفي الليبي عمر الحاسي في حديثه لـ"الاستقلال": إن "الدبيبة يريد أن يكرر تجربة حفتر في الشرق، السيطرة بالقوة تحت غطاء الدولة، لا تفكيكها فعلا". وتابع: "هذه المقاربة جعلته يخسر جزءا من الدعم الشعبي، خصوصا مع تزايد تقارير النهب والانتهاكات التي تتهم بها قواته في العاصمة، ما عمق الشعور العام بأن طرابلس لا تزال رهينة المليشيات، حتى لو تغيرت الرايات". 

وأضاف الحاسي: "بينما تبدو المعركة الحالية داخل العاصمة صراعا داخليا، فإن أصداءها تتجاوز حدود الغرب الليبي، حيث أعاد جهاز الردع في الأشهر الأخيرة فتح قنوات اتصال مع قوات حفتر في الشرق".

وأكمل: "ربما يعده البعض تنسيقا تقنيا لتبادل المعلومات، لكنني أراه خطوة سياسية لخلق توازن ضد حكومة الدبيبة".

ثم تابع: "ويجب أن نضع في الحسبان ما تم رصده من تحركات عسكرية جديدة لقوات حفتر بالقرب من سرت، يقابلها حشد من اللواء 444 الموالي لحكومة الوحدة، في مؤشر على أن الحرب الأوسع بين الشرق والغرب لا تزال ممكنة في أي وقت".

ويقول الصحفي الليبي: "في طرابلس، يعيش الناس بين خوفين، الخوف من عودة القتال، والخوف من استمرار السلم المسلح الذي ينهكهم يوميا، الكهرباء متقطعة، الاقتصاد راكد، والرواتب تتأخر".

ثم اختتم حديثه قائلا: "الساسة شرقا وغربا يواصلون حرب البيانات والمؤتمرات، بينما يشعر الناس أنهم بلا دولة حقيقية"