توتر جديد بين الجزائر وفرنسا بسبب الصحراء.. إلى أين تتجه العلاقات؟
يقترح المغرب حكما ذاتيا موسعا في إقليم الصحراء تحت سيادته
صعدت الجزائر من لهجتها وخطابها تجاه فرنسا، إثر اعتراف الأخيرة بـ"مغربية الصحراء" الغربية، ودعمها لمقترح الرباط بشأن حل النزاع القائم حولها، المبني على حكم ذاتي موسع تحت السيادة المغربية.
وتتجه العلاقات بين الجزائر ومستعمرها القديم إلى مراحل جديدة من التوتر على فرض أن الأولى تدعم “حق” جبهة البوليساريو في تلك الصحراء على حساب خصمها وجارها المغربي.
وبدأت قضية إقليم الصحراء عام 1975، بعد إنهاء الاحتلال الإسباني وجوده في المنطقة، ليتحول النزاع بين المغرب وجبهة "البوليساريو" إلى نزاع مسلح استمر حتى 1991، وتوقف بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار.
ويقترح المغرب حكما ذاتيا موسعا في إقليم الصحراء تحت سيادته، بينما تدعو "البوليساريو" إلى استفتاء لتقرير المصير، وهو طرح تدعمه الجزائر التي تستضيف لاجئين من الإقليم.
كما تسعى الأمم المتحدة إلى تفاهمات بمشاركة المغرب والجزائر وموريتانيا وجبهة "البوليساريو" بحثا عن حل نهائي للنزاع بشأن الإقليم.
بداية الأزمة
وقال الديوان الملكي المغربي، 30 يوليو/تموز 2024، إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعث برسالة إلى الملك محمد السادس، يؤكد فيها رسميا أنه "يرى أن حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية".
وفي الرسالة ذاتها، والتي تتزامن مع تخليد "عيد العرش" أو الذكرى الـ 25 لتولي محمد السادس الحكم، أكد ماكرون "ثبات الموقف الفرنسي حول هذه القضية المرتبطة بالأمن القومي للمملكة"، وأن بلاده "تعتزم التحرك في انسجام مع هذا الموقف على المستويين الوطني والدولي".
وتحقيقا لهذه الغاية، شدد ماكرون على أنه "بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل القضية. وإن دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في 2007 واضح وثابت".
وأضاف أن هذا المخطط "يشكل، من الآن فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".
من جانبه، أشاد رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، جيرار لارشيه، في 30 يوليو، بقرار ماكرون، الداعم لمخطط الحكم الذاتي.
وفي بيان نشر على الموقع الإلكتروني للمجلس، قال لارشيه، إن الأمر يتعلق "بتطور دبلوماسي حاسم، طال انتظاره".
وبين أنه "حان الوقت لأخذ الحقائق في الحسبان والخروج من غموض عقيم"، مشيرا إلى أن "هذا التطور هو ثمرة نضج طويل".
وذكّر رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي بأنه "كان قد دعا، منذ شهر مارس/ آذار 2024 في رسالة وجهها إلى رئيس الجمهورية، إلى مبادرة دبلوماسية في هذا الاتجاه، والتي بدت له حتمية".
وأشار إلى أن قرار ماكرون يمثل "خطوة إضافية حاسمة نحو حل نزاع طال أمده، مما يقوض تكامل المغرب العربي ويعرقل ازدهاره".
بدوره، أكد وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، في نفس اليوم، أن ماكرون، بتأكيده أن "حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية، يكون قد حدد المسار"، مسجلا أن الأمر يتعلق بقناعة فرنسا أيضا.
وأكد سيجورني، متحدثا في حفل أقامته سفيرة المغرب بباريس سميرة سيطايل بمناسبة عيد العرش، أن ماكرون حدد الاتجاه الذي يود أن تسلكه العلاقات مع الرباط في جميع المجالات، كما حدد التوجه الخاص بقضية الصحراء.
وقال المتحدث ذاته، وفق وكالة الأنباء المغربية الرسمية، "إن حاضر الصحراء ومستقبلها يندرجان في إطار السيادة المغربية. إنه كلام رئيس الجمهورية وهو قناعة فرنسا".
وأبرز سيجورني أن "هذا المسار طبيعي بالنظر إلى وضوح وثبات موقف فرنسا، مشيرا إلى أن بلاده "وقفت دائما إلى جانب المغرب بشأن هذه القضية المتعلقة بالأمن القومي للمملكة".
وأضاف الوزير الفرنسي أن هذا التوجه طبيعي أيضا "لأن إجماعا دوليا قد تبلور منذ عدة سنوات حول هذه القضية"، و"لأننا عملنا معا وسنواصل القيام بذلك لتحقيق النجاح في هذا الاتجاه".
غضب جزائري
استبقت الجزائر الإعلان الرسمي عن الموقف الفرنسي، حيث أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية بيانا في 25 يوليو 2024، أعربت فيه عن "استنكارها الشديد لموقف الحكومة الفرنسية التي أبلغتها إياه في الأيام الأخيرة، القاضي بدعم خطة الحكم الذاتي".
وجاء في البيان "أخذت الحكومة الجزائرية علما، بأسف كبير واستنكار شديد، بالقرار غير المنتظر وغير الموفق وغير المجدي الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بتقديم دعم صريح لا يشوبه أي لبس لمخطط الحكم الذاتي لإقليم الصحراء الغربية في إطار السيادة المغربية المزعومة".
وأوضح المصدر ذاته، أن "هذا القرار الفرنسي لا يساعد على توفير الظروف الكفيلة بتسوية سلمية لقضية الصحراء الغربية".
بل "أكثر من ذلك فإنه يساهم بصفة مباشرة في تفاقم حالة الانسداد والجمود التي تسببت في خلقها على وجه التحديد خطة الحكم الذاتي المغربية لأكثر من سبعة عشر عاما".
ورأت الخارجية الجزائرية أن "ما حدث هو تفاهم القوى الاستعمارية القديمة والحديثة التي تعرف كيف تتماهى مع بعضها البعض وكيف تمد يد العون لبعضها البعض"
وأكدت وزارة الخارجية أن الحكومة الجزائرية “ستستخلص النتائج والعواقب كافة التي تنجر عن هذا القرار الفرنسي وتُحمِّل الحكومة الفرنسية وحدها المسؤولية الكاملة والتامة عن ذلك”
وبعد الإعلان الرسمي عن الموقف الفرنسي، أصدرت الخارجية الجزائرية بيانا ثانيا، قررت على إثره سحب سفيرها لدى فرنسا بأثر فوري.
وقالت الخارجية الجزائرية، إن "الحكومة الفرنسية أقدمت على إعلان تأييدها القطعي والصريح للواقع الاستعماري المفروض فرضا في إقليم الصحراء الغربية"، وفق تعبيرها.
ورأى البيان أن "هذه الخطوة التي لم تقدم عليها أي حكومة فرنسية سابقة، قد تمت من قبل الحكومة الحالية باستخفاف واستهتار كبيرين، دون أي تقييم متبصر للعواقب التي تنجر عنها".
وشدد المصدر ذاته، أنه "باعترافها بالمخطط المغربي للحكم الذاتي كأساس وحيد لحل نزاع الصحراء الغربية في إطار السيادة المغربية المزعومة، فإن الحكومة الفرنسية تنتهك الشرعية الدولية".
كما أنها "تتنكر لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره وتناقض كل الجهود الحثيثة والدؤوبة التي تبذلها الأمم المتحدة بهدف استكمال مسار تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية".
غير أن المعارض الجزائري وليد كبير رأى أن "بيان خارجية بلاده تضمن مغالطات وأكاذيب كثيرة بشأن قضية الصحراء".
وأضاف كبير لـ "الاستقلال"، أن "الأمم المتحدة لا تعد المغرب قوة استعمارية، وبالتالي فإن بيان الخارجية يقدم مغالطة فيها تنافٍ مع القانون الدولي".
وتابع، "ثانيا، دعم مقترح الحكم الذاتي ليس انتهاكا للشرعية الدولية، لأن قرارات مجلس الأمن تدعو إلى ايجاد حل سياسي، والمقترح المغربي هو الحل الوحيد الذي جرى تقديمه ويحظى بدعم أكثر من 107 دول".
والأمر الثالث، وفق الناشط الحقوقي والإعلامي، أن "عصابة العسكر (في الجزائر) تمثل الطرف الرئيس الذي لم يقدم أي مقترح حل سياسي لهذا الصراع، لأنها أصلا لا تمتلك النية الصادقة لحله"، بحسب تعبيره.
واسترسل أن البعد الرابع، هو أن "العسكر هم الطرف الذي ينتهك القانون الدولي ولا يمتثل له، برفضه ما يصدر عن مجلس الأمن الذي دعا الجزائر في قراراته الأخير إلى الموائد المستديرة".
وذكر المتحدث ذاته أن النظام لا يستطيع ولا يتجرأ على طرد السفير الفرنسي، وسحب سفير الجزائر، مشيرا إلى أن بلاغ الخارجية "موجه فقط للاستهلاك الداخلي، خاصة وأنه بعيد كل البعد عن اللغة الدبلوماسية".
ودعا كبير النظام الحاكم في بلاده، "بالتوقف الفوري عن المتاجرة بهذا الملف، والعمل على حفظ ماء وجه الجزائر، وصولا إلى الاعتراف بمغربية الصحراء، لأن هذا هو نهاية هذا المسار التاريخي".
تداعيات متعددة
من جانبها، وفي تحليل بمناسبة بيان الخارجية الأول، قالت صحيفة "لوموند" الفرنسية، 26 يوليو 2024، إنه من غير الواضح إذا كانت أزمة ثنائية جديدة تلوح في الأفق عند قراءة البيان الجزائري، مشيرة إلى أن علاقات البلدين ستدخل "مرحلة من التوتر".
وذكرت الصحيفة أن البيان "استخدم تهديدا مبطنا لباريس"، من خلال تأكيد الحكومة الجزائرية أنها "ستستخلص جميع النتائج المترتبة على هذا القرار الذي تتحمل الحكومة الفرنسية وحدها مسؤوليته الكاملة".
ومن خلال إصدار تحذيرها الأخير، تضيف الصحيفة، "تسعى وزارة الخارجية الجزائرية إلى استباق التحول المرتقب في موقف باريس، هادفة إلى محاولة ردع هذا التغيير أو على الأقل تقليص مداه".
وبدورها، أعربت "جبهة البوليساريو" عن استنكارها ما وصفته بدعم فرنسا "احتلال" الصحراء الغربية.
وفي بيان نشرته "وكالة الأنباء الصحراوية"، قال وزير خارجية الجبهة محمد سيداتي، إن الحكومة الفرنسية لم تعد تخفي موقفها بإعلانها رسميا "دعم" مخطط الحكم الذاتي.
وكانت إسبانيا، القوة الاستعمارية السابقة في الصحراء الغربية، قد أعلنت عام 2022 أنها تدعم خطة الحكم الذاتي المغربية، شأنها شأن الولايات ودول عربية وإفريقية، فتحت 28 منها قنصليات هناك.
فيما قال أستاذ العلاقات الدولية بالمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية بالجزائر، حسام حمزة، إن المستجدات الأخيرة تكشف أننا باتجاه "أزمة عميقة بين الجزائر وباريس".
وأضاف حمزة في تصريح لموقع "الحرة" الأميركي، أن الجزائر سترد على الموقف بطريقة "غير ودية" أو بـ"محاولة جعل فرنسا تحسّ بمدى الضرر الذي ألحقته بها وبقضية الصحراء الغربية".
ويرى الأستاذ الجامعي أن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون التي كانت مقررة إلى فرنسا أصبحت الآن في حكم الملغاة.
كما أن "مجموعة من مشاريع الاستثمارات المرتبطة بصناعة السيارات والقطاع البنكي التي أطلقت خلال زيارة ماكرون الأخيرة ستضرر، وستبقى فرنسا من أضعف المستثمرين المتواجدين في السوق الجزائرية".
ويوضح المتحدث ذاته أن هذا الأمر "سيعيد العلاقات بين البلدين إلى المربع الأول الذي كانت عليه قبل زيارة ماكرون".
أما الباحث المغربي في الدراسات الأمنية والإستراتيجية محمد الطيار، فرأى أن "قرار فرنسا هو نتيجة تغير في التوازنات والمعادلات الدولية ورغبة المجتمع الدولي في طي هذا الملف بعد التأكد من عدالة القضية المغربية".
ولفت الطيار في تصريح لـ "الاستقلال"، إلى أن "تشنج الجزائر من الموقف الفرنسي يوحي بأنها بدأت تدرك أن التوازنات الإقليمية حولها قد تغيرت، وحتى الاتحاد الإفريقي وضع حدا لحضور بوليساريو في الملتقيات الاقتصادية للاتحاد مع الدول الكبرى".
ورأى أن "وضع الجزائر حاليا لا يسمح لها البتّة باتخاذ أي موقف معاكس لما تسعى إليه فرنسا لأن ملف الصحراء قد حسم".
وبين أن "هذا الأمر يدخل في إطار سلسلة من الانتكاسات التي تعرفها الجزائر"، وفق تعبيره.
من جانبه، قال رشيد لزرق، الأستاذ الجامعي ورئيس مركز شمال إفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، إن اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء ودعمها الصريح لمخطط الحكم الذاتي، يمثل تحولا مهما في الموقف الدولي بعد الاعتراف الأميركي والإسباني.
واعتبر لزرق في تصريحات محلية، أن "هذا الموقف من الدول الفاعلة، من شأنه أن يخلق بيئة دولية أكثر ضغطا على الجزائر، خاصة إذا تم إبلاغها رسميا بهذا القرار".
وأشار إلى أن "مثل هذه الخطوة من قبل دولة مؤثرة كفرنسا والولايات المتحدة قد تدفع دولا أخرى فاعلة للانضمام إلى هذا الموقف، مما يزيد من العزلة الدبلوماسية للجزائر ويضعها تحت ضغط متزايد لتغيير موقفها من قضية الصحراء والانخراط بشكل أكثر إيجابية في عملية التسوية السلمية".