تغييرات نشطة في سياستها الخارجية.. مع أي محور تقف تركيا؟

12

طباعة

مشاركة

منذ تأسيس الجمهورية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، انخرطت تركيا، بين آن وآخر، في نقاشات متعلقة بسياسة المحاور في علاقاتها الخارجية.

تركيا التي تحاول مواصلة عملها بتناغم مع المحور الغربي، جُرت إلى الانخراط في هذه النقاشات مرة أخرى خلال السنوات الأخيرة.

فمع تولي "المللي غوروش" (حركة الرؤية الوطنية بزعامة الراحل نجم الدين أربكان) الحكم في البلاد، رُسمت سياسة تركيا الخارجية من منظور إسلامي، ومن ثم حاولت العودة مرة أخرى إلى المحور الغربي بعد الانقلاب العسكري في 28 فبراير/ شباط 1997.

جدير بالذكر أن ما يميز فكر "المللي غوروش" عن "الإرادة المؤسسة للجمهورية" هو إبراز العنصر الإسلامي في تعريفه الهوياتي لتركيا.

ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، رسمت سياسة خارجية متقاربة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كما أجريت تعديلات وإصلاحات في بعض الملفات لتتوافق مع قوانين منطقة اليورو.

وخلال مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي، شهدت تركيا عددا من التحولات، شملت تعديلات دستورية وإصلاحات في أوضاع حقوق الإنسان والحقوق المدنية.

وبدءا من عام 2020، دفعت الظروف العالمية والتطورات الإقليمية تركيا لاتخاذ مواقف تتوافق مع هذه التغيرات وتوازن بين المحورين الشرقي والغربي، حيث بدأت بتعزيز تواصلاتها مع الشرق، لكن دون انفصال عن الغرب. 

ترسيخ المكانة

لم تتح التطورات السلبية التي شهدتها المنطقة إبان أحداث "الربيع العربي" لتركيا البقاء في وضع المتفرج أو المراقب للأحداث.

إذ تدخلت بشكل مباشر في بعض الساحات المجاورة، كالساحتين السورية والليبية. وكذلك طورت ردود أفعال متباينة تجاه اهتمام الغرب وتدخلاته بالمنطقة.

ومن خلال نظرية "العمق الإستراتيجي" التي طرحها رئيس الوزراء التركي آنذاك أحمد داوود أوغلو، سعت تركيا لإيجاد موطئ قدم قوي في المنطقة من خلال مواردها الجغرافية والجيوسياسية.

ولا تزال أطروحة داوود أوغلو تعد الخط الرئيس لسياسة تركيا الخارجية، حيث تحاول ترسيخ نفسها في المنطقة عبر القوى الناعمة.

وفي هذا السياق، تمكنت تركيا من أن تتخذ لنفسها مكانا مقدرا في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية في المنطقة الأوروبية. 

كذلك شابت العلاقة بين تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) فترات من الهدوء والتوتر. وفي هذا الصدد، تحتل العلاقة بين أنقرة وأثينا مكانة مهمة.

إذ اكتسب النزاع بين الدولتين العضوين في الناتو حول حدودهما البحرية ومجالهما الجوي زخما جر "ضررا" على الحلف.

في 3 سبتمبر/أيلول 2022، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: "أيها اليوناني، انظر إلى التاريخ، إذا تماديتِ، فستدفعين ثمنا باهظا".

مثل هذه التصريحات تسبب أحيانا صراعا سياسيا بين عضوي الناتو. ويحذر الخبراء من أن ذلك من شأنه "أن يؤثر على عمل الحلف ووحدته في الوقت الذي تتصاعد فيه أهمية التركيز على توحده ضد روسيا".

وبينما تتوجه تركيا بأحد أوجهها لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فإن وجهها الآخر متوجه نحو منظمة التعاون الإسلامي ومجموعة الدول الثماني الإسلامي النامية (D-8). 

ومنظمة التعاون الإسلامي أسست في المغرب عام 1969، وهي ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة. وبالرغم من أنها تواصل عملها المعني بقضايا حقوق المسلمين، فإن شعبيتها السابقة قد تلاشت بشكل كبير.

أما بالنسبة لمجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية، فهي لا تحظى باهتمام كاف اليوم، كما تقرر أن تكون المجموعة منظمة عالمية مفتوحة أمام عضوية البلدان النامية الأخرى التي تؤمن بالأهداف والغايات والمبادئ والروابط المشتركة. وبالرغم من كل الجهود، لم تصل منصة D-8 إلى المستوى المأمول.

وبالعودة إلى علاقات تركيا بالغرب، فبوسعنا أن نستشهد بقمة فيلينيوس لحلف شمال الأطلسي في يوليو/تموز 2023.

ففي بيان القمة، أشير إلى أن تركيا والسويد، اللتين كانتا على خلاف، توصلتا إلى اتفاق بشأن انضمام ستوكهولم إلى حلف الناتو.

كذلك نص على أن "لكل دولة الحق في اختيار ترتيباتها الأمنية الخاصة"، ومن خلال ذلك يمكن استنتاج أن منظمة حلف شمال الأطلسي تحتفظ بمنظورها التوسعي.

وفي حين حافظت تركيا على العلاقات الآسيوية والإفريقية، فقد عارضت في بعض الأحيان عملية توسيع حلف شمال الأطلسي.

واستقبل الرئيس أردوغان وزير الخارجية الصيني وانغ يي في أواخر يوليو 2023. ووفقا للبيان الصادر، نوقشت خلال الاجتماع آليات تطوير التجارة الثنائية بين تركيا والصين وجعلها أكثر توازنا واستدامة، وفرص زيادة الاستثمارات المتبادلة.

وأعرب أردوغان عن رغبته في أن يكون بين البلدين، اللذين يلعبان أدوارا مهمة في الشؤون العالمية والإقليمية، تعاون بشكل أكبر.

ووفقا لوسائل الإعلام الصينية، خلال اجتماع يي مع الرئيس أردوغان، لم تدعم تركيا توجه الناتو بالتركيز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وكانت على استعداد لمواصلة التنسيق بشأن القضايا الدولية والإقليمية، مثل الأزمة الأوكرانية.

فراغ مستمر 

في حديثه مع صحيفة الاستقلال، قيّم إلياس تونغوتش المحاضر في جامعة حاجي بيرم ولي، النقاش حول سياسة المحاور على النحو التالي.

إذ قال: "لم يستطع العالم ملء الفراغ الذي ظهر مع انسحاب الإمبراطورية العثمانية من مسرح التاريخ في الحرب العالمية الأولى، ولم تتمكن الدول الإمبريالية من الاتفاق على التقسيم".

كما أودي بحياة ملايين البشر في الحرب العالمية الثانية، وأنشئ عالم ثنائي القطب، وأسست مؤسسات كانت جزءا من نظام الاستغلال، الذي لم يستطع أن يحل السلام والعدالة، أو يمنع الاستغلال في العالم.

وأشار تونغوتش إلى أن "حرب التنافس هذه لا تزال مستمرة، وأن العالم يتجه بسرعة نحو حرب عالمية ثالثة".

وصرح: "لقد بلغت احتياجات البشر إلى الغذاء والأمن أوجها، وهو ما مكن الدول الإمبريالية التي تسيطر على صناعة الأسلحة من توفير موارد جديدة عبر هذه الطريقة، واليوم باتت العلاقة بين البلدان أكثر توترا من أي وقت مضى".

وأتبع: "فشلت الأمم المتحدة في إيجاد حل للحروب والاحتلال والظلم والوحشية التي شهدناها".

وأردف أنه "عند هذه النقطة، ينبغي على تركيا العمل بجهد كبير لإقامة نظام عالمي جديد قائم على العدالة والحقوق، ومستند إلى إرث الدولة العثمانية، بدلا من النظام الذي أنشأته بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا على أساس استغلالي في مؤتمر يالطا الأول بعد الحرب العالمية الثانية".

وهذا المؤتمر يوصف بأنه الأكثر أهمية منذ عام 1945، عندما اجتمع كل من رئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشرتشل، والزعيم السوفييتي، جوزيف ستالين، والرئيس الأميركي آنذاك، فرانكلين روزفلت، في "يالطا" بشبه جزيرة القرم، للاتفاق على وضع أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع وصول قوات الدول الثلاث إلى أبواب برلين.

وواصل المحاضر التركي بالقول :إنه "وجب على تركيا التحرك لمنع الفساد في هذا العالم عبر عقد مؤتمر يالطا ثانٍ".

ويمكن القول إن تونغوتش يرى أن تجاوز هذه الإشكالات يكمن في قدرة تركيا على التعامل مع هذه التحديات من خلال تعزيز التعاون بين مؤسسات العالم الإسلامي. إذ بين أن "الغرب أظهر حتى الآن بأفعاله أنه لن يتمكن من تحقيق هذا النوع من السلام".

وأضاف: "لقد أصبح واضحا الآن أن السلام لن يأتي للعالم من خلال العقلية الغربية. وهنا، بات من الواضح أن الخروج من مشكلات العالم الحالية يعتمد على قيادتنا كبلد، وتمثيلنا لرؤية المرحوم نجم الدين أربكان رئيس الوزراء الراحل".

وبمبادرة من أربكان أُسست، في 15 يونيو/ حزيران 1997، منظمة D-8، التي تهدف إلى بناء عالم جديد. ويبدو أن المبادئ التي أقرت في تلك الاجتماعات هي السبيل الوحيد للتخلص من مشاكل العالم اليوم، وفق المحاضر.

وأوضح تونغوتش أن هذه المبادئ: السلام بدلا من الحرب، الحوار بدلا من الصراع، العدالة بدلا من المعايير المزدوجة، المشاركة بدلا من الاستغلال، المساواة بدلا من التعالي، حقوق الإنسان بدلا من القمع والهيمنة.

وبناء على هذا الأساس، يشير تونغوتش إلى أنه يجب على تركيا مواصلة جهودها في هذا الصدد، لافتا إلى أن دور أنقرة هو تعزيز الوحدة والتضامن والتعاون بين دول العالم الإسلامي.

واختتم تونغوتش تصريحاته بالقول: "إن الجهود التي بدأت عام 1969 مع تأسيس منظمة التعاون الإسلامي، والتي استمرت مع منظمة D-8، ستتجسد بفضل دور تركيا التاريخي وخبراتها وتجاربها، وستؤدي إلى تحقيق تنمية شاملة للدول الإسلامية ماديا وروحيا وتحريرها من الاستغلال".

وهنا سيكون من الممكن إقامة عالم جديد قائم على العدالة والحقوق، حيث ستتوقف الحروب وتجف الدموع، وستتمكن كل الشعوب المظلومة من النجاة، بحسب تقديره.

تغييرات سياسية

بدوره، تحدث عضو هيئة التدريس بجامعة بيلجي في إسطنبول، البروفيسور إلتر توران، لـ "الاستقلال"، حول علاقة تركيا بالناتو والاتحاد الأوروبي.

ويعتقد أن "تركيا بدأت في الفترة الأخيرة إجراء بعض التغييرات في سياستها الخارجية. ويعود السبب في ذلك إلى فشل التغييرات التي بدأت في عام 2010".

إذ بدأت تركيا منذ ذلك الحين تغيير مسار سياستها الخارجية نحو دول العالم الإسلامي السنية في الشرق الأوسط.

وبعد أن باءت هذه السياسة بالفشل، بدأت تركيا في اتخاذ خطوات في اتجاه ما يمكن تسميته بـ "البيع بالتجزئة".

وقال توران إن تركيا "تسعى لتعزيز صداقتها مع الدول العربية التي عارضت الربيع العربي من جهة، في الوقت الذي تحاول فيه تعزيز علاقاتها المتراجعة مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة أخرى".

وأوضح أن تركيا تسعى كذلك إلى فتح آفاق وبناء علاقات جديدة في كل من شرق آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وقال: "كل هذه الأمور تجزئة، وأتساءل عما إذا كان من الممكن أن يكون ذلك مفيدا لأنقرة على المدى القصير".

وواصل توران حديثه بالقول: "التغيير في الفلسفة العامة للسياسة الخارجية لا يعني بالضرورة الدخول في محور جديد. وعند النظر إلى الأمر بهذه الكيفية، يمكن القول إن السياسة الخارجية قد تكون دخلت في عملية الانفكاك عن المحور. هل يعد ذلك مفيدا أم ضارا؟"

وتابع: "لقد بدأ النظام الذي تأسس في العالم بعد الحرب العالمية الثانية بالفعل في التفكك مع نهاية الحرب الباردة. وهذا التفكك لا يزال مستمرا، كما أن نوع النظام الذي سيحل محله ليس واضحا بعد".

ومن هذا المنطلق، فإن اتباع سياسة "التجزئة" وعدم التشبث أو الالتزام بمحور محدد، يمنح السياسة الخارجية التركية مرونة تمكنها من الاستعداد للمستقبل، وفق تقديره.

وذكر أنه "مع ذلك، لا يوجد محور آخر واسع الانتشار في العالم حتى الآن. ولذلك حتى لو أرادت تركيا الابتعاد عن بعض الأطراف أو المحاور، فمن الواضح أن مثل هذه السياسات لن توفر الفائدة المتوقعة في الوقت الحالي، لأن الأطراف التي يمكن الاقتراب منها ليست مستعدة بما يكفي، أو أنها ليست مشكّلة بشكل كاف".

وبين توران أن الاتحاد الأوروبي يمثل إمكانات اقتصادية أكثر من كونه ضمانا أمنيا بالنسبة لتركيا.

ويعتقد أن "النظام السياسي والاقتصادي الذي يمثله الاتحاد الأوروبي، ممثلا بالديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، هو المسار الذي يجب على تركيا المضي قدما فيه".

واصل توران بالقول: "لا يبدو أن الاتحاد الأوروبي، في الوقت الحالي، يمكنه الحركة ككيان فاعل مستقل في مجال الأمن، حيث إنه مكون من مجموعة من الدول، لكل منها جدول أعمالها الخاص".

ولو نظرنا إلى الأمر من منظور الدفاع الأوروبي، فإن المملكة المتحدة وتركيا، اللتين تمتلكان أهم قوتين عسكريتين في أوروبا، ليستا عضوين في الاتحاد الأوروبي.

وبالمقابل، انبثق حلف الناتو عن اتفاقية دفاعية خلال فترة الحرب الباردة (1947-1991)، وكان الهدف الرئيس منع التمدد السوفيتي، وفق قوله.

وبنهاية الحرب الباردة، كان يعتقد أن الناتو سيفقد وظيفته تدريجيا، ولكن بعد تعافي روسيا وبدء بروز رغبتها في أن تحل محل الاتحاد السوفيتي وتصبح قوة عظمى تحاول التوسع والانتشار، عاد حلف شمال الأطلسي إلى الأضواء مرة أخرى.

وقد أفاد ذلك الولايات المتحدة أيضا، حيث آلت إليها قيادة أوروبا في مجال الأمن مرة أخرى.

ويقول توران: "مع ذلك، لا ينبغي علينا الثقة كثيرا في الولايات المتحدة، فقد كان ينوي الرئيس السابق دونالد ترامب سحب مهمة الدفاع عن أوروبا".

وتابع: "حين ننظر إلى الوضع من وجهة النظر التركية، فإن ارتباط بلدنا بحلف الناتو يشكل ثقلا موازنا لروسيا".

وبالرغم من أن العلاقات بين تركيا وروسيا قد تكون ودية حاليا، فإن موكسو قد تسعى -حال انفكاك أنقرة عن الناتو- لإظهار ميول توسعية تجاه أنقرة، وتحاول إنهاء أو إضعاف دورها في منطقة البحر الأسود، وكذلك إبعادها عن القوقاز، أو الضغط عليها في ملفات أخرى.

ولذا، فإن ارتباط أنقرة بحلف الناتو في الوقت الحالي يلعب دورا إيجابيا في موازنة علاقتها بروسيا. وبالتالي، فإن المنظمتين، الاتحاد الأوربي والناتو، مهمتان بالنسبة لتركيا، كما قال.

وتواصل تركيا ممارسة نشاطاتها بصفتها دولة صاحبة قرار في منطقتها، مع إدراكها للمسؤولية التي تفرضها مهمتها الجيوسياسية والتاريخية.

وفي وسط مشهد سياسي متشابك، تتطلع تركيا إلى إدارة علاقاتها مع المجتمع الدولي ودول الجوار وفقا للتحديات المختلفة.

فمن خلال وجود الناتو في الشرق الأوسط، وسياسات روسيا في المنطقة، إضافة إلى الجهود التوسعية للصين كقوة عالمية تنافس الولايات المتحدة، تتعامل تركيا بمسار محدد في التعاطي مع كل من هذه العوامل.

وبالرغم مما يشير إليه بعض الخبراء من أن تركيا "تشهد تحولا في محورها"، فإن حزب العدالة والتنمية يرفض الدخول في أي محور بشكل كامل.

كما أن تركيا تتخذ خطواتها السياسية استنادا إلى موقعها الجغرافي، مع امتلاكها رؤية مستقلة تنسجم مع مصالحها الوطنية ورؤيتها الإستراتيجية.