اليسار الأميركي منزعج.. ماذا تفعل "بلاك روك" صاحبة الأصول السامة بالسعودية؟
إذا كانت السعودية من أهم إمبراطوريات النفط والمال في العالم، فإن شركة "بلاك روك" الأميركية العملاقة المتخصصة في إدارة المخاطر والاستثمارات المالية، هي إمبراطورية في حد ذاتها، وتوصف بأنها من "أكبر وأخطر شركات العالم".
قبل سنوات وتحديدا في يونيو/ حزيران 2018، استضاف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في قصره الصيفي "السلام" في مدينة جدة، اجتماعا رفقة "لاري فينك" مؤسس ومدير "بلاك روك"، اليهودي الذي أطلق عليه لقب "ملك وول ستريت".
وحضر الاجتماع ما يقرب من 150 من مسؤولين دوليين ورؤساء شركات مالية كبرى.
كان يبدو حينها أن ابن سلمان سيعتمد على فينك وشركته في إقرار نموذجه الاقتصادي الشامل، وسيستخدمهم في الترويج له عالميا، في إطار خطته لجعل المملكة قطبا إقليميا للشركات الكبرى والمستثمرين البارزين.
وبعد أشهر وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أمر ابن سلمان بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وهنا جاءت ضربة قاصمة في علاقة الأمير بكثير من شركائه البارزين، وعلى رأسهم لاري فينك.
حيث رفض فينك، مثله مثل معظم الرؤساء التنفيذيين ورؤساء الدول الآخرين، حضور مؤتمر الاستثمار العالمي الذي عقد بعد أسبوع من اغتيال خاشقجي.
وبينما وصف فينك مقتل خاشقجي بـ "المرعب"، لكنه قال إنه لن "يهرب" من التعامل مع السعودية ولا ابن سلمان.
وحاليا بعد أن تجاوز ولي عهد البلاد أزمة خاشقجي، وفي خضم السعي الحميم لجعل الرياض قبلة اقتصادية ورياضية وفنية على غرار دبي، عادت "بلاك روك" بقوة، وقد فتحت المملكة أبوابها لفينك وشركته.
تعيين أمين الناصر
وفي 2 أغسطس/ آب 2023، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تقريرا عن تقرب لاري فينك من ابن سلمان من جديد.
وقالت إن فينك يراهن بقوة على أموال النفط السعودي، الذي أثبت أنه أمر مربح للمساهمين، وذلك على الرغم من الانتقادات العنيفة التي تعرض لها فينك، من اليسار الأميركي وجماعات المناخ، لكنه لا يعبأ بكل هذه الأشياء.
وتناولت "نيويورك تايمز" قرار "بلاك روك" بتعيين أمين الناصر، رئيس شركة "أرامكو" السعودية، أكبر شركة نفط في العالم، في مجلس إدارتها، في يوليو/ تموز 2023.
وأوضحت أن "قرار (بلاك روك) كان عرابه لاري فينك، الذي أشبع غرائز أقطاب الرأسمالية في اليمين، لكنه أشعل غضب اليسار، بسبب احتضان شركات الوقود الأحفوري ذات التأثير السلبي على المناخ".
وأتبعت: "فينك لا يهتم بتلك الانتقادات، قياسا إلى الأرباح الهائلة التي يجنيها المستثمرون في (بلاك روك) بسبب الاستثمارات السعودية في أسهم الشركة الأميركية".
وعقبت: "التودد إلى أموال النفط من الشرق الأوسط ليس بالأمر الجديد على فينك، لكن تعيين الناصر هو أحدث وأهم جهد لتعميق تلك العلاقات، بالنظر إلى تدفق السيولة الذي تتوق السعودية إلى إنفاقه".
وقد تسبب قرار تعيين الناصر، في غضب براد لاندر، مراقب صناديق التقاعد في مدينة نيويورك، والتي تعد من أبرز المستثمرين في "بلاك روك"، وتدير ما يقرب من 250 مليار دولار.
حيث قال لاندير في بيان: "في الوقت الذي تحتاج فيه المؤسسات المالية إلى اتباع نهج جماعي لمعالجة المخاطر المالية الناجمة عن تغير المناخ، يتوقع مساهمو بلاك روك مديرين أكفاء مناخيا لا متضاربين مع المناخ".
الشركة والمملكة
وفي الشهور الأخيرة شهدت الرياض و"بلاك روك" بصورة لافتة شراكات متعددة في مجالات مختلفة.
حيث وقع صندوق الثروة السيادية السعودي، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، مذكرة تفاهم مع "بلاك روك" لاستكشاف فرص الاستثمار في مشروعات البنية التحتية بالشرق الأوسط.
وقال صندوق الاستثمارات العامة، الذي يدير أصولا بأكثر من 600 مليار دولار، إن مذكرة التفاهم غير الملزمة "ستكون أساسا لترسيخ إستراتيجية البنية التحتية لشركة بلاك روك في الشرق الأوسط".
وأضاف في بيان، أنه "يعتزم تشكيل فريق متخصص في استثمارات البنية التحتية في الرياض، وستشمل القطاعات المستهدفة الطاقة والمرافق والنقل والاتصالات".
وفي 3 مارس/ آذار 2023، أعلنت "بلاك روك" عن استثمارها 6.22 مليارات دولار في الأسهم السعودية، من خلال 114 شركة وصندوقا متداولا.
وأوردت في بيان لها أن هذه الاستثمارات تركزت في قطاع البنوك التي تبلغ القيمة السوقية لملكيتها فيه نحو 1.99 مليار دولار، تمثل نحو 32 بالمئة من إجمالي استثمارات الشركة في المملكة.
وذكرت أن تلك الاستثمارات توزعت على أسهم البتروكيماويات بنحو 1.03 مليار دولار، وأسهم الرعاية الصحية وكذلك الأسمنت بواقع 245.5 و105 ملايين دولار على الترتيب.
خطط فينك
ويعد لاري فينك هو المحرك الرئيس لإستراتيجية "بلاك روك" في المملكة، وقبل مقتل "خاشقجي" كان دائم التردد على ابن سلمان، وفي عام 2018 زار الأمير مرتين.
وبعد أزمة خاشقجي أحجم فينك عن الزيارة، لكنه قرر أنه لا يمكن أن يقطع علاقته بالأمير، ولا أن يحدد خطط وأهداف الشركة في المملكة.
ففي أبريل/ نيسان 2019، عندما استغلت "أرامكو" الأسواق الدولية للمرة الأولى بصفقة ديون (سندات) بقيمة 12 مليار دولار، كانت شركة "بلاك روك "من بين أكبر المشتركين.
حينها سعى فينك شخصيا إلى جذب الصناديق السيادية السعودية والصناديق الأخرى المملوكة للدولة في الشرق الأوسط لشراء أسهم في شركة "بلاك روك".
وقتها أعلنت شركة "بي إن سي" للخدمات المالية، وهي أكبر مساهم في "بلاك روك" بيع حصتها البالغة 22 بالمئة، في مطلع العام 2020.
عندها أخبر فينك الرئيس التنفيذي لشركة "بي إن سي"، ويليام ديمشاك، أنه يريد المساعدة في اختيار المساهمين الجدد.
وبالفعل اتصل فينك شخصيا برؤساء العديد من صناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط، بما في ذلك صندوق الاستثمارات العامة في السعودية، وسرعان ما جلبهم كمستثمرين في بيع أسهم بقيمة 13 مليار دولار تقربا.
وقد استعانت الرياض أيضا بشركة "بلاك روك" لتقديم المشورة للمملكة بشأن صندوقها الجديد الذي تبلغ قيمته 50 مليار دولار والمخصص للمشاريع التي تعمل على تحديث بنيتها التحتية المحلية.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2021، استثمرت شركة "بلاك روك كونسورتيوم" نحو 15.5 مليار دولار لشراء حصة 49 بالمئة في خط أنابيب أرامكو للغاز الطبيعي.
الأصول السامة
وتأسست "بلاك روك" عام 1988، من قبل "لاري فينك"، اليهودي الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي للشركة مقابل أجر وصل إلى 36 مليون دولار، وفق مجلة فايننشال تايمز الأميركية في 24 فبراير 2023.
وفي 6 مايو/ آيار 2022، ذكرت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، أن مجموع ما تشرف عليه وتديره شركة "بلاك روك"، من أصول يعادل 10 تريليونات دولار.
وأصبح فينك أسطورة في وول ستريت عام 1999 من خلال إطلاق ما يعرف بـ "توريق الديون"، أي تحويل أحد الأصول، وخاصة القروض، إلى أوراق مالية قابلة للتداول، وعادة ما تباع بعد ذلك لمستثمرين آخرين.
وأصبحت تلك إستراتيجية فينك الذي قرر الاستفادة من هذا النظام المالي للحصول على جميع القروض الممكنة، بدءا من قروض الرهن العقاري وصولا إلى قروض بطاقات الائتمان وبيعها إلى مستثمرين آخرين.
وسيظل اسم فينك مرتبطا بأنه كان سببا رئيسا في الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما ابتكر نظاما خلفيا للقروض أدى إلى انهيار الأسواق المالية.
وخلال عام الأزمة المالية قررت وزارة الخزانة الأميركية في عهد باراك أوباما توظيف فينك لإعادة ترتيب الفوضى التي سببها.
وقتها كانت "بلاك روك"، ومقرها نيويورك"، تعمل إلى جانب البيت الأبيض، في مهمة شراء ما يعرف بـ"الأصول السامة" التي لم يسمح قانونا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بشرائها، واشتراها فينك وشركته.
والأصول السامة هي الأصول المرهونة لمديونيات متعثرة يصعب سدادها، والتي تضمنتها ميزانيات البنوك والمؤسسات المالية، والتي فاقت قيمتها حسب تكلفتها كثيرا عن قيمتها الحقيقية.
وإطلاق وصف الأصول السامة دلالة على أن هذه الأصول لا تملك قيمة حقيقية في ذاتها ولكن مما تشتقه من غيرها من مخاطر يتم تداولها بين المستثمرين، وهذا جعلها تشبه السم الذي ما إن تشبع الاقتصاد به، حتى بدأت قطاعاته تتعطل الواحدة تلو الأخرى.
المصادر
- Larry Fink’s Bet on Saudi Oil Money Is Also His Latest E.S.G. Woe
- BlackRock Names Former Obama Aide to Run Sustainable Investing
- لصالح السعودية.. بلاك روك تستكشف مشروعات البنية التحتية بالشرق الأوسط
- Could Index Funds Be ‘Worse Than Marxism’?
- "بلاك روك".. كيف يمكن لشركة أن تشكّل حياتنا؟
- Investors weigh up Merrill’s deal with BlackRock
- لاري فينك ملك وول ستريت