مبادرة "مدنية" في باريس.. لإيجاد حل لأزمة سوريا أم لإغلاق الطريق أمام تركيا؟

12

طباعة

مشاركة

فجأة وبحضور شخصيات سورية معارضة، انعقد مؤتمر "مدنية" برعاية رجل الأعمال السوري البريطاني، أيمن الأصفري، بالعاصمة الفرنسية باريس في 6 يونيو/ حزيران 2023.

وأطلقت مبادرة "مدنية" تحت عنوان "الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري" بمعهد العالم العربي في باريس، بحضور ممثلي 150 من منظمات المجتمع المدني السورية العاملة ضمن مناطق الداخل المختلفة والبلدان المجاورة والمهجر في مجالات إغاثية وتنموية وحقوقية وثقافية.

وعرفت المبادرة عن نفسها، التي يرأس مجلس إدارتها، الأصفري، بأنها "مبادرة سورية مستقلة عن أي نفوذ سياسي أو أجنبي، تهدف إلى حماية الفضاء المدني السوري، وتعزيز فاعليته في منصات صنع القرار"، وفق بيان نشرته.

ولفت البيان إلى أن "المطالبة بالأحقية السياسية للفضاء المدني السوري تحت مظلة مدنية لا تعني ضمنا أية رغبة في الحلول محل الأجسام السورية المنخرطة في العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254 (ممهد للحل السياسي) بل تأتي ضمن محاولات رفد جهودها".

وحضر إطلاق "مدنية" كل من "هيئة التفاوض السورية" المعارضة ممثلة برئيسها، بدر جاموس، ومسؤولون على رأسهم نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي والمبعوث الخاص إلى سوريا، إيثان غولدريتش، والمبعوثة الفرنسية إلى سوريا، بريجيت كورمي، ورئيس القسم السوري في الاتحاد الأوروبي، أليسيو كبيلاني، حيث كان لهم كلمات بالمناسبة.

وجاء اجتماع "مدنية" حضوريا في باريس بعد عامين من التنسيق وفق ما قال القائمون عليها في تصريحات إعلامية، وفي ظل إعادة النظام السوري للجامعة العربية وحضور رأس النظام بشار الأسد القمة العربية بمدية جدة في 19 مايو/ أيار 2023.

عودة الأصفري

شكلت عودة أيمن الأصفري الداعم للمعارضة السورية، في هذا التوقيت الحساس مع إعادة الأسد للحضن العربي، مفاجأة جديدة، بعد غيابه لسنوات عن الشأن السياسي السوري.

وولد أيمن أديب الأصفري عام 1958 في إدلب السورية، وتلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأميركية، وحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة فيلانوفا، كما حصل على ماجستير في الهندسة المدنية من جامعة بنسلفانيا.

وكان والده أديب دبلوماسيا ومن مؤسسي حزب "البعث العربي الاشتراكي" في أربعينيات القرن العشرين، وعين سفيرا لسوريا في عدد من الدول.

وللأصفري استثمارات ضخمة بقطاع النفط، ولديه مجموعة "بتروفاك" المحدودة، وهي شركة بريطانية رائدة في مجال خدمات حقول ومصانع كل من النفط والغاز الدولية وقد دخل سوق الأسهم البريطانية عام 2005.

وصنف أصفري مرارا ضمن قوائم "فوربس" للأثرياء، وتقدر ثروته بأكثر من 1.2 مليار دولار.

عقب اندلاع الثورة السورية كان الأصفري من المساندين لها بشكل علني، عبر دعم المعارضة السياسية، رغم علاقته القوية برأس النظام والذي كان يلتقيه بحكم استثماراته الضخمة في سوريا.

دعم الأصفري إقامة مركز دراسات في دبي للترويج للثورة في بداياتها، خاصة أن للرجل استثمارات في الإمارات ليست بالضخمة وهي ما تجعله دائم التردد عليها سنويا إلى الآن.

ويصف الأصفري نفسه بأنه "معارض معتدل" وتقوم رؤيته السياسية على مبدأ المواطنة والفصل بين الدين والدولة، كما يرى أنه لا يمكن إقصاء أي جهة سياسية في سوريا.

ويعد الأصفري أن رجال الأعمال هم جزء من المجتمع المدني، التي يجب أن تكون مؤسساته موجودة في كل الأنظمة.

بحسب بطاقة تعريفية للأصفري نشرها موقع "السورية نت"، فإنه يؤيد وجود الأسد في فترة الحكم الانتقالي، لأن حسب قوله "ليس المطلوب الدخول في مساومات وإنما المطلوب إنقاذ سوريا".

وفي مقابلة للأصفري مع "تلفزيون سوريا" المعارض في 12 يونيو/حزيران 2023، أكد "أنه لم يبتعد عن المشهد أبدا، في البداية كنت أؤيد وأدعم المعارضة، لقد كان دعمي دائما قائما على القيم؛ كنت أدعم معارضة ديمقراطية، سلمية، معتدلة. اضطررت إلى الابتعاد عن هذا المشهد، بسبب عدم وجود أي عملية سياسية".

وأضاف: "برأيي أي انتقال سياسي يجب أن يتبع نهجا تصاعديا محددا يبدأ من الشعب والمدنيين انتقالا إلى السياسة، لذلك أي انتقال سياسي مستدام لابد أن يكون مبنيا على التنظيمات المجتمعية، ولكن مثل كل الأنظمة الشمولية نظام الأسد لم يدع مكانا لهذه التنظيمات".

ولفت الأصفري في حديثه قائلا: "أيضا واصلت دعم المجتمع المدني من خلال مبادرات مختلفة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، فقد دعمت مؤسسة الأصفري أكثر من 60 منظمة مجتمع مدني، وينطبق الشيء نفسه على معهد الأصفري بالمواطنة والمجتمع المدني في الجامعة الأميركية في بيروت".

وتابع: "على المستوى الشخصي بقيت مناصرا وما زلت أستمر بالمناصرة للقضية السورية، واستخدمت علاقاتي للدفاع عن مستقبل سوريا والوصول إلى حل سياسي".

وحول مبادرته، قال الأصفري: "بدأنا مدنية لتكون مبادرة بتمويل وقيادة سورية، مستقلة عن النفوذ السياسي أو التدخلات الخارجية، بهدف تعزيز الفاعلية السياسية للفضاء المدني السوري، مهمتنا هي حماية الفضاء المدني لدينا ودعم الدور الرائد للمجتمع المدني في بناء مستقبل سوريا".

انتقادات لـ"مدنية"

فور انعقاد مبادرة "مدنية"، بدأت تتعالى الأصوات المنتقدة لها بداية من نظامها الداخلي، ومحاولة اختزال المشهد المدني السوري بشخصيات وكيانات محددة، مرورا بـ"الدور السياسي الغامض" الذي تريد أن تلعبه لاحقا في المشهد، أو من ناحية محاولة الأصفري ابتلاع كل منصات المجتمع المدني وجعلها تحت رايته، وفق مراقبين.

وهناك نحو ألف منظمة مدنية سورية نشأت عقب الثورة السورية، ولها موارد مستقلة من أطراف مختلفة سواء العربية أو الأوروبية أو من الولايات المتحدة والتي تمارس أدوارا متعددة لما يقارب نحو 13 مليون شخص خارج سلطة نظام الأسد.

ومن هنا كانت النظرة إلى "مدنية" بعين حمراء من بعض المهتمين في الشأن السوري، ولا سيما أن محاولة "احتكار تكتل ما" لقرار المنظمات المدنية السورية أمر ليس بالسهل نظرا للثقل الذي تمتلكه باقي تلك المنظمات التي لم تشارك في "مبادرة الأصفري" الجديدة، والتي تحظى بتمثيل وازن للسوريين وتعبّر عنهم وتناصر قضاياهم.

اللافت أن "مدنية" قد وضعت شروطا للانضمام إليها، وأبرزها أنت تكون المنظمة الراغبة فاعلة وموافقة على المبادئ الأساسية لـ"مدنية"، وفق ما يردد القائمون عليها.

وهذه النقطة عدها البعض أولى خطوات الفشل كونها ستنسجم "مع التنفيذ للأوامر والأجندات التي دأب الفضاء المدني على الالتزام بحذافيره"، كما يقول الكاتب محمد سلام في مقال له تحت عنوان "الأصفري.. فشل استعلائي" نشرته جريدة "نينار برس" الإلكترونية في 14 يونيو/حزيران 2023.

ومن أبرز المآخذ على مبادرة "مدنية" هي أن المنظمات التي تمت دعوتها هي 150، فيما عدد المنظمات الفاعلة منها لا يتجاوز 10.

كما جرى استبعاد المنظمات السورية الفاعلة التي تربطها علاقات جيدة بالتيار السوري المحافظ.

كما أنه لا يوجد آليات لاتخاذ القرار في "مدنية" حيث إن مجلس إدارتها يتكون من 35 شخصا، والأصفري هو صاحب القرار الأول والأخير فيها.

إضافة إلى النقطة اللافتة المتمثلة بدعوة بعض المنظمات العاملة في شرق الفرات والتي تعدها تركيا منطقة حاضنة لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا.

وكثيرا ما ندد "الائتلاف الوطني السوري" المعارض بعلاقة فرنسا بـ"الإدارة الذاتية" الكردية التي تتبع لها "قسد"، الذي يعده كيانا يسعى لسلخ أراضي سوريا وتحقيق حلم كيان انفصالي، ولا سيما بعد تهجير الكثير من السكان العرب من قراهم ومدنهم بقوة السلاح.

وحينما استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 20 يوليو/تموز 2021، وفدا ضم ممثلين عن "الإدارة الذاتية" الكردية المظلة السياسية لقوات "ي ب ج" شمال شرق سوريا، استنكر الائتلاف في بيان له هذا اللقاء.

وقال الائتلاف إن "هذه المليشيات ارتكبت بحق الشعب السوري جرائم تهجير وتغيير ديموغرافي وانتهاكات جسيمة، وسيطرت على موارد سوريا وجيرتها لتحقيق أجندات دخيلة غير وطنية".

وأوضح أن "سياسات وخطط هذه المليشيات الإرهابية منسجمة ومستقاة من نظام الأسد، وهي في مجملها ضد مطالب الشعب السوري وتتناقض مع حقوقه وتطلعاته".

غايات سياسية

وبحسب مصادر "الاستقلال" فإن أحد الأهداف من "مدنية" هو محاولة من الأصفري لدخول اللجنة الدستورية السورية المكلفة بصياغة دستور لسوريا برعاية أممية، من باب المجتمع المدني.  

وباتت العملية السياسية السورية مختزلة باللجنة الدستورية والتي انطلقت برعاية أممية أواخر عام 2019، ولم تنجز مادة دستورية واحدة، خاصة أنها لم تجتمع منذ آخر جلسة لها في 3 يونيو/حزيران 2022، بسبب رغبة روسيا في نقلها من جنيف السويسرية إلى دولة ثانية.

كما قرأ البعض أن "مبادرة الأصفري" هي محاولة لإغلاق الطريق أمام الحلول الأحادية من قبل تركيا للملف السوري.

وفي وقت مولت فيه مبادرة "مدنية" تكاليف الطيران والإقامة للحضور في باريس، حيث حضرت شخصيات من الداخل السوري، طرحت علامات استفهام كبيرة حول تسهيل فرنسا تأشيرات الدخول للحضور للمشاركة في المبادرة.

اللافت كذلك أن مبادرة "مدنية" جاءت بالتزامن مع طرح العميد المنشق عن قوات النظام السوري، مناف طلاس "مرحلة انتقالية في سوريا تشمل جمع السلاح والمحافظة على السلم الأهلي بهدف الوصول إلى حل سياسي"، وفق ما قال في حوار مع صحيفة "القدس العربي" نشر في 9 يونيو/حزيران 2023.

ولفت طلاس المقيم في فرنسا منذ انشقاقه عن نظام الأسد عام 2012، إلى "وجود دعم سياسي خارجي للمجلس العسكري" الذي يكرر منذ سنوات طلاس العزم على تشكيله.

وأضاف طلاس أن "الدعم الداخلي والخارجي موجود دائما، خاصة من ناحية تقبل المشروع والحاجة إليه، وكونه مشروعا لا بد منه في مسار المرحلة الانتقالية"، مشيرا إلى أن المجلس العسكري "جزء من الحراك السوري العام بكل تجمعاته" ويعمل مع التجمعات المدنية والسياسية والاقتصادية السورية.

وحول موقفه من "مدنية"، قال طلاس: "نحن جزء من التوجه المدني والديمقراطي، ودور المؤسسة العسكرية الوطنية هو توفير البيئة المناسبة للديمقراطية (ضبط السلاح المنفلت وحماية السلم الأهلي وتوحيد البندقية، وإخراج المليشيات الأجنبية) وبدون تحقيق هذه الأهداف سيبقى الحديث عن أي مشروع مجرد شعارات غير قابلة للتنفيذ".

وطلاس على علاقة قوية مع الأصفري، وبحسب مصادر "الاستقلال" فقد كان هناك تنسيق بينهما حول مبادرة "مدنية" مع عدد من الضباط المنشقين.

وضمن هذه الجزئية، يؤكد مراقبون أن فرنسا تريد إثبات أن المعارضة السورية غير محتكرة من قبل الفصائل الموجودة على الأرض والأجسام السياسية المقربة من تركيا وقطر وأن باريس تملك أيضا قوى مدنية وعسكرية فاعلة.

وضمن هذا السياق، تساءل الكاتب سلام في مقاله: "أليس الأصفري نفسه الذي جمع هؤلاء في باريس هو نفسه الذي جمع الكتلة الديمقراطية لتوسعة الائتلاف، ثم تفاعلت مع أمثالها وأحضرت إلى (جنيف2) وانتقلوا مذ ذاك من خطوة كارثية لأخرى أكثر كارثية، ما الجديد، وما المراجعة، وما الخطوات التي تتيح لمدنية أن تتجاوز هذا الإرث الفاشل؟".

وتابع: "إصرار الأصفري وزمرته – ومثله مناف طلاس ومجلسه – على هذه السلوكية الاستسلامية من جهة والاستعلائية بآن معا، فيها إهانة للشعب ولقراره، واستهتار بالتضحيات العظيمة التي قدمناها وما زلنا، وفيها استزلام للكوادر التي تتعاطى معها، وعلى الشعب السوري حالا ولاحقا أن يتعامل مع هذه الخطوات لا بصفتها أخطاء".

مناكفة لتركيا

ويرى الباحث السوري، مدير موقع "اقتصادي"، يونس الكريم في حديث لـ"الاستقلال" حول مبادرة "مدنية"، أنها "رسالة من بريطانيا بأنها متمسكة بالملف السوري ولديها ثقل على الأرض خاصة في الجانب المدني، وفي هذا مناكفة علنية من بريطانيا لروسيا حليفة الأسد بعد حرب أوكرانيا، وكذلك لامتصاص الصدمة حتى للولايات المتحدة بخصوص إيران".

وأضاف الكريم قائلا: "الأصفري يريد أن يقدم نفسه كلاعب سياسي بشكل غير مباشر وأنه قائد للمجتمع المدني السوري المعارض، وهناك من يدعمه دوليا في هذه الفكرة كونه مانحا في هذا المجال".

واستدرك قائلا: "الآن في ظل انحسار الدعم المالي وعدم وجود أموال مجانية لسوريا، أراد الأصفري القول إن أي دعم قادم يجب أن يكون عبر المؤسسات الأكثر حضورا، وبالتالي هو يحجز من الآن مقعدا له ولأنصاره".

وألمح الكريم إلى أن "فرنسا تريد الضغط على تركيا بموضوع انضمام السويد لحلف الناتو عبر ملف مناف طلاس والملف السوري برمته".

وهناك من يرى أن "الخطورة في أن تتحول (مدنية) إلى بديل سياسي يقوم بالفعل السياسي، وخاصة أن المجتمع المدني له دور آخر من خلال المراقبة والتوجيه"، كما قال الباحث في مركز عمران للدراسات، منير الفقير، الذي حضر المبادرة في باريس خلال لقاء تلفزيوني.

ومضى الفقير يقول: "لذلك المطلوب من منصة (مدنية) أن تكون صوتا للشارع السوري وتحدد ما يريده من مطالب سياسية وحقوقية ويطلب من الفاعلين السياسيين الوطنيين أو القوى الدولية عدم تجاوزها".

ولفت إلى أنه من "المبكر الثقة في مبادرة مدنية، لذلك هناك ترقب لمعرفة مدى التزام مدنية أولا بالحوكمة الداخلية من ناحية التداولية وإشراك جميع منظمات المجتمع المدني".

وثانيا "ألا تتجاوز مدنية حدودها وألا تصبح فاعلا سياسيا مباشرا، لأن هناك فراغا يجب أن تسده مدنية لا أن تذهب إلى غيره".

واستدرك الفقير قائلا: "في سوريا راهنا فراغان، الأول فراغ في العمل السياسي وفراغ بدور المجتمع المدني".