أزمة الخبز في تونس.. كيف كشفت فشل قيس سعيد وخوفه من انتفاضة شعبية؟ 

12

طباعة

مشاركة

عادت منتصف مايو/ أيار 2023 أزمة الخبز والدقيق مجددا في تونس، لتشهد المخابر في جل المدن والأرياف طوابير طويلة للحصول على المادة الأكثر استهلاكا على موائد التونسيين.

وخلّف هذا الوضع حالة قلق لدى التونسيين بعد تواتر الأنباء على أن الأزمة هذه المرة قد تطول لأسابيع، في ظل تصريحات غريبة من حكومة الرئيس قيس سعيد التي رأت أن الأزمة قد انتهت داعية المواطنين إلى عدم اللهفة والتقليل من استهلاك الخبز.

وكعادته رأى سعيّد أن أزمة الخبز تعود إلى سعي البعض إلى تأجيج الأوضاع الاجتماعية والعمل على افتعال الأزمات، وهو ما عدته منظمات متخصصة في الحوكمة ومكافحة الفساد تضليلا للرأي العام وتعتيمًا على الممارسات الحقيقية المتسببة في هذه الأوضاع.

وتستورد تونس أكثر من نصف حاجياتها من الحبوب، إلا أنها تعاني صعوبات أخيرا في عمليات التوريد بالنظر لتأزم وضعها المالي، وتراجع تصنيفها الائتماني وتراجع مخزون البلاد من العملة الصعبة، ما جعلها في عديد الأحيان عاجزة عن خلاص مزوّديها الأجانب.

وتكشف مغالطة المسؤولين في الدولة عن تخوف حقيقي من نتائج الأزمات الاقتصادية، خاصة في علاقة بتوفير المواد الأساسية مثل الخبز، الذي قد يحدث غيابه أو مراجعة أسعاره احتقانا اجتماعيا في وقت تعيش فيه البلاد أزمة سياسية متفاقمة

مغالطات مفضوحة

مساء يوم 22 مايو 2023، نشرت رئاسة الجمهورية التونسية عبر فيسبوك خلاصة لقاء بين قيس سعيّد ووزيرة التجارة كلثوم بن رجب.

وذكرت أن مسألة ندرة الخبز في بعض الولايات تعود إلى "سعي البعض إلى تأجيج الأوضاع الاجتماعية والعمل على افتعال الأزمات حيث إنه من غير المقبول ألا يتوفر الخبز في ولاية في حين يتوفر في ولايات أخرى مجاورة".

وخلال زيارته لوزارة الفلاحة اتهم سعيد "لوبيات وأطرافا" دون أن يسميها بافتعال أزمة الخبز، وذكر خلال نفس الزيارة أنه على الدولة أن "تتصدى للمحتكرين والعابثين بقوت التونسيين".

وقال إن "الهدف من هذه الأزمات المتعاقبة هو تأجيج المجتمع لغايات سياسية واضحة".

واتهم سعيد ما وصفها بـ "جهات أخرى وأحزاب لا تظهر في الصورة، تقف وراء كل هذا، يقوم مسؤولون في الإدارات التونسية بخدمتهم"، زاعما أنه يعرفهم بالأسماء وأنه لن يسكت على تجويع الشعب التونسي".

هذه التصريحات دفعت منظمة " ألارت" (تحذير باللغة الفرنسية) التي تُعنى بمحاربة ظاهرة الاقتصاد الريعي ومكافحة الفساد في تونس إلى إصدار بيان يوم 21 مايو.

رأت فيه أن حقيقة أزمة الخبز تعود إلى "أزمة هيكلية شاملة يشكو منها قطاع الحبوب في تونس"، ونبهت الجمعية من خطورتها منذ ثلاث سنوات.

وقد ازدادت هذه الأزمة حدة وفق المنظمة "جرّاء تدهور إمكانيات الدولة وعجزها على تمويل استيراد الحبوب، وبات فقدان الخبز ظاهرة تمس ولايات الجمهورية كافة بنسب متفاوتة، والسبب هو انخفاض حاد في كميات القمح الصلب الموزعة من طرف ديوان الحبوب".

تفاقم الأزمة

ولا يبدو أن الأزمة تتجه للانفراج، في ظل وضع مالي يزداد صعوبة في البلاد مع غياب أي أفق لإجراء اتفاق مع صندوق النقد الدولي يسمح بحصول تونس على قرض ب 1.9 مليار دولار ويتيح لها فرصة الذهاب إلى جهات مقرضة أخرى.

ويعود سبب توفر مادة الدقيق خلال الفترة الماضية لاستيراد القمح اللين بتمويل من طرف البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الإفريقي للتنمية، إلا أن الدولة التونسية عاجزة عن توفير حاجياتها من القمح الصلب.

وحسب التقرير السنوي للبنك الوطني الفلاحي، تصل ديون ديوان الحبوب إلى حدود 31 ديسمبر/ كانون الأول 2022، ل4.7 مليارات دينار تونسي (1.5 مليار دولار ) .

وعرفت هذه الديون ارتفاعا بنسبة 27 بالمئة خلال سنة واحدة، وخلال أبريل/نيسان 2023، تم التخفيض في كمية القمح الصلب الموزع من طرف ديوان الحبوب بـ30 بالمئة.

وإلى حدود يوم 20 مايو 2023 تم توزيع حوالي 15 بالمئة فقط من الاستهلاك الشهري.

وتعاني عدد من المخابز في تونس من عدم صرف إعانات الدعم لمدة تجاوزت 14 شهرا حسب ما أكّده بيان لأصحاب المخابز في مدينة صفاقس، ما جعل عددا منها تعلن الإفلاس والتوقف التام عن العمل ابتداءً من يونيو/ حزيران 2023 مع ما يتبع ذلك من تسريح ما يقارب من خمسة آلاف عامل.

كما أعلنت اتحادات أخرى للمخابز عن إضرابات خلال الأسابيع المقبلة والتوقف عن تزويد المؤسسات العمومية بالخبز ما قد يخلق أزمة كبيرة في المدارس والسجون والمستشفيات ودور الإيواء.

حالة إنكار 

وتعليقا على المشهد، قال الباحث التونسي في العلاقات الدولية جلال الورغي أن " قيس سعيد دأب على تحميل كل الأزمات التي تعصف بالبلاد، وكل الإخفاقات التي تواجهها تونس، إما لما يسميها هو تعسفا "العشرية السوداء" أو للقوى السياسية المختلفة التي تعارضه انقلابه على المسار الديمقراطي ومؤسساته الدستورية، أو للوبيات نافذة في مفاصل الدولة والاقتصاد".

وأضاف لـ"الاستقلال": "سعيد إذ يفعل ذلك لا يختلف عن الأنظمة غير الديمقراطية التي عادة لا تملك أي شجاعة في الوقوف والإعلان عن تحمل المسؤولية في سوء تدبير الشأن العام، أو في الاعتراف بالتقصير، أو التراجع عن سياسات خاطئة، والحقيقة أن ذلك لا يتوقع منه، وهو الذي يقدم نفسه المنقذ والمخلص، الذي يحمل مشروع الخلاص والإنقاذ".

ومضى يقول: "فالنظام المصري مثلا بقيادة عبد الفتاح السيسي يصر على تحميل الثورة كل ما تعيشه مصر من أزمات إلى اليوم، رغم مرور أكثر من عقد على قيامها".

وتابع: "ولا يتوقع من قيس سعيد الذي كرس نظام حكم فردي مطلق، يديره بالمراسيم والقوانين والسياسات التي يرسمها وحده، أن يتحمل المسؤولية ويعترف بتقصير أو فشل، لأنه إن يفعل ذلك سيكون مطالبا إما لعرض نفسه على الثقة مجددا أو إعلان التنحي، وهي خيارات ليست مطروحة ولا واردة لدى سعيد".

وشدّد المحلل السياسي التونسي على أن "سعيد يقع في خطأ جسيم إذ يمارس هذه السياسة المرتكزة على الإنكار، لأنه إذ يحمّل جهات وأطراف مجهولة أو معلومة لا يفصح عنها، هو يبعث برسالة فشل للرأي العام".

لأن من يحكم ليس مطلوبا منه الإشارة للجهات المجهولة أو المعلومة التي لا يمكن الإفصاح عنها، وفق الورغي، إنما الإعلان عن اعتقالها محاسبتها أمام الرأي العام وهو أمر لم يقم به سعيد، ولن يقوم به.

وأوضح أن "كشف هوية هذه الجهات والأطراف المجهولة، يعني أنه سيفقد الورقة التي كان يعلق عليها الفشل، والإفلاس الذي تواجهه البلاد على مختلف الأصعدة".

وأردف الورغي: "كلما استمر سعيد في عدم الاعتراف بفشل حكومته، وسوء اختياراته وخياراته، وتحلى بشجاعة المراجعة والتراجع، ستتآكل شرعيته ومشروعيته بشكل متسارع، وهو ما يحصل اليوم".

وتابع: "وسيجد سعيد نفسه وجها لوجه أمام استحقاقات شعبية لن يكون قادر على الإيفاء بها، ما قد يضعه أمام تململ شعبي متزايد ومتفاقم، قد يكون عاصفا في ظل غياب قوى وسيطة بين الدولة والحكم، في ظل تفكيك سعيد لها، ضمن مساره الذي أطلقه في 25 يوليو/ تموز 2021 واستهدف بموجة تهميش وتقزيم الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني".

رهاب الثورة

هذه الأزمة التي لا يبدو أن لها حلا قريبا سوى بسد العجز الحاصل في موازنة الدولة عبر استكمال بقية الشروط للحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وأهم هذه الشروط رفع الدعم عن المواد الأساسية في تونس ومن بينها الدقيق ومشتقاته.

هذا الشرط الذي مازال قيس سعيد يعده خطا أحمر، لما يمثله من خطر حقيقي على توازن نفقات العائلة التونسية وسببا محتملا في إحداث توترات اجتماعية غير مسبوقة.

حيث يعود آخر تعديل في سعر الخبز في تونس إلى 13 يناير/ كانون الثاني 2011، في آخر خطاب للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي قبل مغادرته البلاد، ومنذ ذلك اليوم لم تجرؤ أي حكومة من الحكومات المتعاقبة على السلطة في تونس على زيادة أسعار الخبز رغم الزيادات الحاصلة في عدد من المواد الأخرى.

ويرى متابعون أن ذاكرة التونسيين مازالت تحتفظ بمشاهد "انتفاضة الخبز" التي شهدتها تونس في ديسمبر/ كانون الأول 1983، وكادت حينها أن تطيح بنظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي التجأ لقمعها بالقوة مخلفا أكثر من 500 قتيل ومئات الجرحى والمعتقلين.

ولا يخفي قيس سعيّد تخوفه من توتر شعبي مشابه يهدد سلطته التي يحاول فرضها على الجميع في تونس.

حيث كشفت وزير الخارجية البلجيكية الحاجة الحبيب في حوار مع قناة rtbf البلجيكية عن فحوى لقائها مع قيس سعيد أثناء زيارتها لتونس يوم 10 مايو 2023 الذي تناول دوافع قيس سعيد لرفض توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والتي تعد ضرورية للاستقرار الاقتصادي للبلاد.

حيث قالت الوزيرة " ذكرنا الرئيس بتاريخ تونس، وأعمال الشغب عام 1984 ، وذكرنا بعواقب الإصلاح الذي اشترطه صندوق النقد الدولي والذي أدى إلى أعمال شغب، حيث كان الأمر يتعلق برفع الدعم عن القمح، وأدى ذلك إلى مئات من حالات الوفاة". 

وأضافت في نفس الحديث "حدثنا عن هذا الماضي الذي يبرر رفضه تنفيذ الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي اليوم، فبالنسبة له، السلم الاجتماعي لا يقدر بثمن".