التجربة التايلاندية.. كيف انتقلت من الانقلابات العسكرية إلى ربيع الديمقراطية؟
عشية يوم الانتخابات التشريعية التايلاندية، أعلن "بيتا ليمجارونرات" زعيم حزب المعارضة التقدمي "إلى الأمام"، عن استعداده لأن يصبح رئيس الوزراء المقبل للبلاد.
وهو ما تحقق في 15 مايو/ أيار 2023، ليفوز حزبه في الانتخابات، وليمهد عصرا جديدا تستعد لتايلاند، بعد سنوات من الانقلابات العسكرية والحكم الاستبدادي.
وهو ما عبر عنه "ليمجارونرات" (42 عاما) نفسه في خطابه للجماهير المحتشدة في العاصمة بانكوك، عندما قال: "عانى الناس كثيرا.. سنغير كل شيء.. اليوم هو يوم جديد، وآمل بأن يجلب أشعة الشمس والأمل".
التايلانديون أنفسهم نزلوا إلى الانتخابات رافعين شعار المطالبة بإصلاحات جذرية، والحد من نفوذ الجيش والسطوة العسكرية.
ودأب البلد الواقع في جنوب شرق آسيا على الانقلابات العسكرية، فمنذ عام 1932، شهد 18 انقلابا عسكريا أو محاولة انقلاب، وذلك في ظل نظام حكم مقسم بين الملكية الدستورية والجيش، الذي يعد المؤسسة الأقوى بالدولة.
لذلك فإن الانتخابات الأخيرة كانت بمثابة ضربة قوية للحكم السلطوي المدعوم من الجيش والملك، لكن الطريق إليها لم يكن سهلا وكان مليئا بالصعوبات والصدمات.
ويضم الائتلاف الفائز بالانتخابات الأخيرة، إلى جانب حزب "إلى الأمام" (152 مقعدا من أصل 500)، حركة "بيو تاي" (141) المرتبطة برئيس الوزراء السابق المقيم في المنفى ثاكسين شيناواترا الذي أعلن انضمامه غداة الانتخابات.
لكن الحصول على غالبية برلمانية في تايلاند قد لا يكون كافياً لتأليف حكومة، بسبب مشاركة 250 من أعضاء مجلس الشيوخ يعيّنهم الجيش في التصويت لاختيار رئيس للوزراء المرتقب هذا الصيف.
انقلاب 2014
وبالتركيز على المسار الذي قطعه حزب "إلى الأمام" للفوز في الانتخابات، يجب العودة إلى نقطة الأزمة قبل سنوات، وتحديدا في 22 مايو 2014 عندما وقع الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال "برايوت تشان أوتشا" قائد القوات المسلحة الملكية التايلاندية.
كانت تايلاند آنذاك في ظل حكومة انتقالية برئاسة رئيسة الوزراء "ينغلاك شيناواترا"، ثم تدخل الجيش وأطاح بها.
وتدخلت المحكمة الدستورية لدعم انقلاب الجنرال "برايوت تشان أوتشا"، حيث ألغت نتائج الانتخابات التي كانت قد جرت في فبراير/ شباط 2014، وأطاحت بـ "ينغلاك" من منصبها.
أما الجيش فأعلن الأحكام العرفية، وأغلق وسائل الإعلام، وفرض حظر التجول، واعتقل بعض السياسيين المحسوبين على المعارضة، وفرض حظر السفر على كثير من السياسيين وأعضاء الحكومة المنقلب عليها.
ومع اندلاع المظاهرات العارمة الرافضة للانقلاب العسكري، في بانكوك ومختلف أنحاء تايلاند خرج قائد الانقلاب "برايوت تشان أوتشا" في خطاب غاضب قال فيه للجماهير: "لا تنتقدوا، ولا تثيروا المشاكل فلا فائدة من ذلك".
وتوعدهم قائلا: "إذا كنتم تريدون ذلك فسوف نضطر لاستخدام القوة وفرض القانون بشكل صارم".
ووجه حديثه للإعلام قائلا "اضبطوا رسالتكم، وإذا نشر أحد رسالة تحريض فإنني سأعد ذلك ضد السلام في البلاد".
قبضة العسكر
بعد الانقلاب مباشرة قام الجيش وبدعم من الملك (آنذاك) بوميبول أدولياديج، بتشكيل المجلس الوطني للسلام والحفاظ على النظام، وترأسه قائد الانقلاب الجنرال "برايوت تشان أوتشا".
حكم المجلس البلاد بنظام قمعي صارم، حيث فرض رقابة على البث في تايلاند، وعلى الصحافة والحريات الإعلامية، وألغى الدستور، واعتقل أعضاء الحكومة التايلاندية السابقة.
بعدها مضى المجلس في إقرار إستراتيجية جديدة لحكم البلاد، وفي نفس العام (2014) قام بوضع دستور جديد ينص على أن تتشكل الحكومة من خلال البرلمان، والبرلمان يتشكل من غرفتين، الأولى هي غرفة مجلس شيوخ من 250 عضوا، يتم تعيينهم من لجنة يهيمن عليها قادة الجيش والمجلس الوطني.
والغرفة الأخرى مجلس نواب وتنتخب من 500 عضو، وذلك بهدف تحديد شكل ومهام أي حكومة يتم تعيينها، لأنها ستكون بحاجة إلى موافقة الأغلبية في المجلسين، أو الحصول على ثلثي مجلس النواب (376 مقعدا).
في تلك الفترة توسع النظام العسكري في استخدام قانون "منع إهانة الملك" وأدانوا به كل معارض وجه نقدا للحكومة ومؤسسات الدولة، وقاموا بسجنه.
النضال الشعبي
ورغم قسوة إجراءات الجيش، وشدة القبضة الأمنية، لكن بدأت المعارضة تلملم شتاتها، وفي عام 2018 تم تشكيل حزب "المستقبل إلى الأمام" المعارض، الذي دعا لديمقراطية كاملة في تايلاند دون أي تنازلات.
وطالب كذلك بإلغاء قانون إهانة الملك، وتعديل الدستور بما قد يؤدي للتحول إلى النظام الجمهوري.
وسرعان ما أصبح "المستقبل إلى الأمام" هو حزب المعارضة الأساسي في المدن الكبرى، مثل تاك وباثوم ثاني وسونغكلا وتشونبوري.
وتوسع حزب "إلى الأمام" بتحالفه مع حزب المعارضة الأساسي في الريف "من أجل تايلاند" أو "فيو تاي" التي تقوده "ينغلاك شيناواترا" ابنة رئيس الوزراء الشعبي "ثاكسين شيناواترا"، ورئيسة الحكومة المنقلب عليها عام 2014.
مع ذلك التحالف والتوسع والشعبية التي حصل عليها الحزب الجديد، قرر المجلس الوطني في عام 2020، حل حزب "إلى الأمام"، لتندلع انتفاضة شرسة ضد الحكم العسكري.
قادها بالأساس طلاب الجامعات تحت مظلة منظمة جامعية واسعة اسمها "الشباب الحر" ووجدت في سائر أنحاء تايلاند من المدن إلى الريف.
استمرت الانتفاضة لمدة 4 شهور من فبراير/ شباط 2020 إلى يوليو/ تموز 2020، ووسعت مطالبها لتشمل وقف القمع، وتعديل الدستور، وحل البرلمان.
لكن هدأت الأمور بسبب جائحة كوفيد 19 وتعطلت الدراسة، وشهدت تايلاند حظرا للتجول على خلفية الجائحة.
لكن في صيف العام التالي 2021 عادت الحركة الطلابية بقوة ووجهت سهام النقد والهجوم للنظام الملكي نفسه بعد ما كان خطا أحمرا لا يمكن الاقتراب منه.
حتى إن حزب "من أجل تايلاند" المعارض بقيادة شيناوترا، ورغم شعبيته ومعاناته من الانقلابات العسكرية ودعمها من قوى موالية للملك، إلا إنه كان لا يقترب من النظام الملكي أبدا.
ومع اشتداد المظاهرات الطلابية بدأ القمع العسكري والبوليسي، وسقط أول ضحية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 برصاص حي من قوات الشرطة.
وفي نهاية 2021 قمعت الانتفاضة كليا من خلال حملة اعتقالات واسعة طالت أغلب النشطاء والسياسيين، وتمت محاكمتهم باستخدام قانون "منع إهانة الملك".
"إلى الأمام"
ذلك القمع للمظاهرات ووأد الحراك الطلابي، لم يثن التايلانديين عن عزيمتهم في المضي قدما نحو الديمقراطية، ونظام أكثر تعددية متجاوزا للنظام العسكري.
في عام 2022 قرر المعارضون عودة حزب "المستقبل إلى الأمام" مرة أخرى لكن باسم جديد هو "إلى الأمام".
وخاض الحزب الجديد غمار النضال الديمقراطي بمبادئ أساسية أولها استبعاد أي تحالف مع أحزاب على صلة بالانقلاب العسكري الذي جرى عام 2014.
واستفاد "إلى الأمام" من الرغبة العامة واسعة النطاق في التغيير السياسي، خاصة بين الناخبين الذين تقل أعمارهم عن 26 عاما.
هذه الجزئية تحديدا مثلت تحديا للحزب الناشئ، لأن الشباب ليسوا كتلة كبيرة في تايلاند المسنة، فهم يشكلون 14% فقط من إجمالي 52 مليونا من الناخبين.
لكن أعضاء حزب "إلى الأمام" بذلوا جهودا مضنية واستخدموا إستراتيجية دعائية متطورة لإقناع الناخبين الأكبر سنا بدعم الحزب من أجل مستقبل أفضل لبلادهم.
ودخل حزب "إلى الأمام" المعارض الانتخابات التشريعية، في 15 مايو 2023، بإرث من النضال الشعبي ضد الانقلاب الذي وقع عام 2014، ومن خلفه أصوات الشباب وكثير من المكلومين.
وتميزت الانتخابات بإقبال كبير غير مسبوق تجاوز 75 بالمئة، على خلفية تباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع الحريات الأساسية.
واستطاع حزب "إلى الأمام" تحقيق نصر حاسم، وتسبب في انتكاسة كبيرة للحكومة المنتهية ولايتها والمدعومة من الجيش والملك.
حيث حصل الحزب على 151 مقعدا في المجموع من أصل 500، بينما تخلف "حزب الأمة التايلاندية المتحدة" الذي يتزعمه رئيس الوزراء، وقائد الانقلاب، الجنرال "برايوت تشان أو تشا" عن الركب، مع 36 نائبا فقط.
وأعلن بيتا ليمجارونرات، زعيم حزب "إلى الأمام"، الذي يستعد لتشكيل الحكومة، أن المستقبل بالكامل سيتغير إلى الأفضل، وأن النظام السابق لن يعود لما كان عليه.
وثمة خشية العديد من التايلانديين من احتمال سعي الجيش وأنصاره، خلال المفاوضات السياسية، إلى منع الأحزاب الفائزة من تولي السلطة.
كذلك هناك مخاوف من إصدار حكم قضائي آخر بعدم أهلية حزب "إلى الأمام" لأسباب فنية، كما حدث لسلفه حزب "المستقبل إلى الأمام" عام 2020.
لكن في النهاية ستظل المسيرة التايلاندية، التي قطعت شوطا صعبا حتى الوصول لهذا المشهد المغاير، جديرة بأن تكون تاريخية وحاضرة في تاريخ الشعوب التي تسعى إلى التغيير وتجاوز الانقلابات العسكرية، والحكومات الاستبدادية.
المصادر
- الانتخابات التايلاندية 2023: الناخبون يوجهون ضربة قوية للحكم المدعوم من الجيش
- تايلاند: زعيم المعارضة يعلن فوزه في الانتخابات التشريعية واستعداده لمنصب رئيس الوزراء
- تاريخ الانقلابات في تايلاند
- حظر تجول ومحاصرة للإعلام بعد إعلان الانقلاب بتايلند
- تايلاند.. بلد "الانقلابات"
- Thai military declares coup, detains party leaders