من أهم لاعب عربي إلى الهامش.. هكذا أضاع السيسي ثقل مصر بالقضية الفلسطينية
تاريخيا، كانت مصر أهم لاعب عربي في القضية الفلسطينية، بفعل قربها الجغرافي وإسهاماتها السياسية الطويلة، لكن هذا الدور تراجع بصورة لافتة في عهد نظام عبدالفتاح السيسي.
وأسهم زعماء الأنظمة المصرية السابقة في صياغة مصير الفلسطينيين بشكل ملحوظ، من جمال عبد الناصر الذي ناصر القضية بدافع القيادة القومية العربية والحصول على مزيد من التعظيم الشخصي.
إلى أنور السادات الذي كان أول زعيم عربي يوقع اتفاقية "سلام" مع إسرائيل، وليس انتهاء بحسني مبارك الذي وافق ضمنيا، على العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 وضيّق على أهالي القطاع المحاصر طيلة سنوات.
لذلك، عندما هز الربيع العربي الشرق الأوسط قبل عقد من الزمن، ربما لم ينظر أحد عن قرب في اندلاع الثورة المصرية أكثر من الفلسطينيين، على أمل أن يتجدد الزخم والدعم لقضيتهم.
وهو ما حدث لمدة عام واحد فقط بعد وصول الراحل محمد مرسي إلى الحكم كأول رئيس مدني منتخب في مصر، قبل أن ينقلب عليه قائد الجيش وقتها ورئيس النظام الحالي، السيسي، عام 2013.
الوضع الحالي
في عهد السيسي، وصل دعم النظام المصري وارتباطه بالقضية الفلسطينية إلى مستويات منحدرة فاقت كل فترات الأنظمة السابقة وحطمت جميع التوقعات.
وأشرفت مصر خلال السنوات الماضية على عقد اجتماعات متعددة لتحقيق المصالحة الوطنية بين حركتي المقاومة الإسلامية "حماس" والتحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، لكن هذا الدور توقف منذ شهور عديدة.
ويمكن ملاحظة التراجع أيضا في تقلص البيانات الرسمية البروتوكولية التي عهدت الأنظمة المصرية السابقة على إصدارها في إدانة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي.
وكان هذا التراجع ملحوظا في الفترة الحالية، بعد أن شكل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل في 22 ديسمبر/كانون الأول 2022.
وغابت مصر بشكل لافت وغير مسبوق عن إدانة سياسات هذه الحكومة ووزرائها المتطرفين، كوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتيرتش اللذين يصعدان الانتهاكات بالضفة الغربية، واكتفت باستنكار أحداث بعينها.
وتنفذ قوات جيش الاحتلال عمليات اغتيال يومية بحق الشبان، خاصة في شمال الضفة الغربية الذي ينشط في المقاومة، كما تتخذ الحكومة الإسرائيلية إجراءات متقدمة على صعيد الاستيطان في مقدمة لضم تلك المنطقة.
ويأتي تراجع اللهجة المصرية قبل فترة قصيرة على بدء شهر رمضان الذي يكثف فيه المستوطنون اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، إذ يتزامن مع فترات الأعياد اليهودية، خاصة عيد الفصح، مما يصعد التوتر في كل عام.
وفي 13 فبراير/شباط 2023، أدانت الخارجية المصرية قرار الحكومة الإسرائيلية "شرعنة" بؤر استيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وترى ذلك "استفزازا وتأجيجا للوضع المحتقن وله تداعيات وخيمة".
وجاء هذا البيان غداة موافقة المجلس الأمني الوزاري المصغر في إسرائيل (الكابينت)، على "شرعنة" 9 بؤر استيطانية غير قانونية في الضفة الغربية.
وأكدت الخارجية المصرية أن هذا القرار "يمثل مخالفة صارخة للقرارات الدولية، والتي تؤكد على عدم قانونية أو شرعية النشاط الاستيطاني بأشكاله وصوره كافة".
وطالبت تل أبيب بـ"بالتوقف بشكل فوري عن الإجراءات الأحادية كافة، بما في ذلك هدم المنازل والاعتقالات والمداهمات التي تستهدف أبناء الشعب الفلسطيني وممتلكاته".
وشددت وزارة الخارجية على أن "السبيل الوحيد لتهدئة الأوضاع هو التوقف عن تلك الممارسات المخالفة للقوانين الدولية، وتهيئة المناخ للعودة إلى مائدة المفاوضات (متوقفة منذ 2014)".
في المقابل، نشط النظام المصري خلال العام الأخير على إدانة عمليات إطلاق النار الفلسطينية التي تأتي ردا على انتهاكات الاحتلال والاغتيالات المتواصلة للشبان الفلسطينيين.
وكان آخر ذلك، إدانة مصر في 28 يناير/كانون الثاني 2023، عملية إطلاق نار وقعت في مدينة القدس قبلها بيوم، وأسفرت عن مقتل 7 مستوطنين إضافة إلى منفذ العملية، وإصابة 6 آخرين.
وقالت الخارجية المصرية، في بيان، إن القاهرة "تعرب عن الرفض التام والاستنكار الشديد للهجوم الذي شهدته القدس الشرقية، وتؤكد إدانتها للعمليات كافة التي تستهدف المدنيين".
كما أدانت القاهرة عملية وقعت في منطقة بني براك في تل أبيب أسفرت عن مقتل 5 مستوطنين بينهم شرطي إسرائيلي، نهاية مارس/آذار 2022.
وأعرب المتحدث وقتها باسم وزارة الخارجية المصرية، أحمد حافظ، عن "بالغ الإدانة لأعمال العنف والإرهاب كافة التي تستهدف المدنيين، بما لا يؤدي إلا إلى المزيد من تدهور الأوضاع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي".
وكان من اللافت أن تحدثت مصر عن وساطات جارية لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة في أغسطس/آب 2022، دون أن تستنكر ما جرى من اغتيالات وقصف لقيادات ومواقع حركة الجهاد الإسلامي.
وجاء هذا الموقف الباهت رغم تنفيذ إسرائيل "عملية اغتيال غادرة" ومباغتة أثناء إجراء اتصالات مصرية مع الطرفين، بحسب ما صرح وقتها المسؤول الإعلامي في حركة الجهاد الإسلامي، داود شهاب.
ولوحظ أخيرا تصاعد خطاب القلق وممارسة الضغط الأميركي من قبل إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن على إسرائيل بشكل فاق الاهتمام المصري.
ومن ذلك، حث إدارة بايدن حكومة نتنياهو على تجنب تنفيذ عملية عسكرية كبيرة بشمال الضفة الغربية، والتحذير المستمر من "الإجراءات الأحادية الجانب" التي من شأنها تصعيد الأحداث.
كما وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، مطلع مارس 2023، تعليقات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، التي دعا فيها إلى "محو" قرية حوارة الفلسطينية بأنها "مقيتة ومقززة وغير مسؤولة".
وقال برايس في مؤتمر صحفي: "بالضبط كما ندين الاتجاه إلى العنف لدى الفلسطينيين فنحن ندين بنفس القوة هذه التصريحات المستفزة التي تؤجج أيضا العنف"، داعيا نتنياهو، وغيره من كبار المسؤولين إلى استنكار تصريحات الوزير علنا.
وقبلها بساعات، قال برايس إن واشنطن "تتوقع أن تحاكم إسرائيل المسؤولين عن أعمال العنف في بلدة حوارة" بمدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية.
وفي 26 فبراير، شهدت بلدة حوارة وعدد من القرى في محيط نابلس، هجمات غير مسبوقة من قبل مستوطنين، أسفرت عن استشهاد فلسطيني وإصابة العشرات وإحراق وتدمير عشرات المنازل والسيارات الفلسطينية، وذلك بعد مقتل مستوطنين اثنين في إطلاق نار على سيارة كانا يستقلانها قرب البلدة.
ولم تعلن السلطات الإسرائيلية اعتقال المستوطنين المسؤولين عن الهجمات في البلدات الفلسطينية أو ملاحقتهم.
الأسباب والتوقعات
بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/أيار 2021 الذي عرف وقتها بمعركة "سيف القدس"، بدأ نظام السيسي بالسعي لاستغلال التوتر من أجل تبييض صورته دوليا وتعزيز نفوذه إقليميا وتحقيق مكاسب داخلية.
وقالت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" العبرية في 11 يونيو/حزيران من ذات العام، إن "السيسي سعى لاستغلال إعادة إعمار قطاع غزة لتعزيز نفوذه".
وأضافت في نسختها الإنجليزية، أن "مصر تعتمد على مشروع إعادة إعمار غزة بقيمة 500 مليون دولار لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، مستفيدة من النفوذ الذي اكتسبته من خلال التوسط في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس".
وأشارت إلى أن "السيسي تعهد بضخ الأموال لإعادة إعمار غزة بعد صراع استمر 11 يوما"، قصفت فيه حماس وفصائل غزة الأخرى جنوب ووسط الأراضي المحتلة بآلاف الصواريخ وردت تل أبيب بمئات الغارات الجوية.
وأفادت الصحيفة بأنه "تمت الإشادة بالسيسي على نطاق واسع لأنه لعب دورا محوريا في التفاوض على إنهاء الحرب المميتة، بما في ذلك من الرئيس الأميركي بايدن".
وجاءت حزمة المساعدات في شكل أعمال بناء بدأت بتنفيذها الشركات المصرية، وهي إستراتيجية استخدمها السيسي لإحداث تأثير كبير على الصعيد المحلي منذ توليه السلطة عبر انقلاب عسكري.
وبوعد التوسط لوقف إطلاق النار في مايو 2021، قدم السيسي نفسه كنقطة مرجعية للمفاوضات للتوصل إلى هدنة دائمة بين حماس وإسرائيل.
ويرى موقع "معهد تحليل العلاقات الدولية" أن "القاهرة أرادت استثمار هذه الاتصالات لصالحها بذكاء جيوسياسي، خاصة أنها تدرك الميزة الإستراتيجية والدبلوماسية التي ستفوز بها في لعب دور الوسيط في مثل هذه المنطقة الساخنة".
و"هذا يعني وجود قناة دبلوماسية مميزة أيضا لأي مفاوضات مستقبلية، يمكن أن تصل إلى واشنطن، الوجهة الحقيقية التي تسعى القاهرة إلى الوصول إليها"، على حد تعبير الموقع في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
ويقول مركز "كونراد أديناور ستيفتونغ" الألماني للدراسات السياسية، إن نظام السيسي حريص على عدم تضرر العلاقات مع إسرائيل لعدة أسباب، أبرزها اشتراك الجانبين في "حماية الحدود المشتركة" من "المتمردين في شبه جزيرة سيناء" الذين فجروا خلال السنوات الأخيرة خطوط الغاز المشتركة.
وبين المركز في دراسة نشرها في يناير 2022، أن العلاقات مع إسرائيل لها أهمية كبيرة بالنسبة لمصر، ولكن الأهم من ذلك "الفوائد الموسعة التي تتلقاها القاهرة من الولايات المتحدة" كمكافأة لها.
ومنذ توقيع معاهدة السلام مع تل أبيب عام 1979، تتلقى 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأميركية سنويا، مخصصة لمكافحة الإرهاب، وضبط الحدود الأمن، وبرامج عدم الانتشار ، مما يسهم أيضا في أمن إسرائيل، يقول المركز.
علاوة على ذلك، فإن هذه العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة تكسب القاهرة دعما دبلوماسيا وتفسح المجال لتحقيق مصالحها الوطنية، خاصة فيما يتعلق بعدد من الأزمات المحلية الكبيرة بما في ذلك التهديدات لأمنها المائي فيما يتعلق بالنزاعات مع إثيوبيا والسودان.
في المقابل، يقول منتقدو النظام المصري إن القاهرة تستغل القضية الفلسطينية كمجرد وسيلة لدفع قضاياها الخاصة وتحقيق أهدافها دوليا، بينما يظهر في الواقع القليل من الاهتمام غير المسبوق بالشعب الفلسطيني أو مصالحه السياسية، بحسب ما نقل المركز الألماني.
وفي هذا السياق، لفت موقع "واللا" العبري في فبراير 2021 إلى أن "نظام السيسي يحاول إرسال إشارة إيجابية إلى البيت الأبيض وتعميق العلاقة كشريك في نظر بايدن، و لا يهتم كثيرا بالقضية الفلسطينية".
وعن شكل العلاقة الحالية والقادمة، يقول ناشط سياسي فلسطيني من غزة لـ"الاستقلال" إن مصر في عهد السيسي استقرت عند رد الفعل على بعض ما ترتكبه قوات الاحتلال من جرائم دون إصدار مواقف قوية.
وبين الناشط الذي رفض الكشف عن اسمه -خوفا من تعرضه للمنع من السفر عبر معبر رفح- (الوحيد الذي يربط القطاع المحاصر بالعالم الخارجي)، أن "النظام المصري بات يتعامل مع القضية الفلسطينية وكأنه دولة بعيدة جغرافيا وسياسيا، فيكتفي بالإدانة والاستنكار كأي بلد آخر".
وأردف: "لمصر خصوصية عند الشعب الفلسطيني، فهو ينتظر منها مواقف متقدمة فيما يتعلق بالاستيطان والعدوان وعمليات القتل اليومية وحتى حصار غزة الذي يرى كثير من الفلسطينيين أن القاهرة تشترك فيه مع إسرائيل".
وعن ما يبدو أنه تناقض في المواقف بين الحرص على إعادة إعمار غزة والصمت على الانتهاكات بالضفة الغربية، يقول الناشط السياسي: "السيسي يبحث عن اللقطة، يريد أن يبدو وسيطا ملهما يؤدي أدوارا مهما ويحصل على إشادات من دول العالم، لكنه في الحقيقة لا يكترث، ومن هنا يمكن فهم هذا التخبط".
واستدل على تراجع مواقف مصر، بحرصها على الاشتراك في عقد القمم المتتالية مع قادة الاحتلال والمسؤولين في "دول التطبيع العربي" أخيرا ممثلة بالإمارات والبحرين والمغرب وغيرها، لأهداف عدة منها "مواجهة الخطر الإيراني" وتسوية الملف الفلسطيني.
وكان أبرز هذه القمم، قمة النقب التي عقدت في مارس 2022 جنوبي الأراضي المحتلة، وضمّت وزراء خارجية إسرائيل ومصر والمغرب والبحرين والإمارات والولايات المتحدة، وتم الاتفاق بين الدول الست على عقد القمة بشكل سنوي.
وفي خلفية خطوات القاهرة، ومن أسباب حرصها على الوجود في هذا المحور، تقف مصالح إستراتيجية كبيرة، وعلى رأسها رغبة النظام المصري في الحصول على مساعدة الولايات المتحدة ودول الخليج وإسرائيل في التعامل مع التحديات الاقتصادية المتفاقمة التي نشأت لديه بسبب الحرب في أوكرانيا.
ولذلك، لا يتوقع الناشط السياسي الذي تحدث لـ"الاستقلال" تطورا قريبا في موقف النظام المصري من القضية الفلسطينية، وسط أزمات داخلية لا تنتهي، ومع حرصه على الظهور في مظهر "المعتدل" و"الوسيط" دوليا للمساهمة في تحسين صورته المتدهورة بفعل انتهاكات حقوق الإنسان، وفق تقديره.
المصادر
- مصر والإمارات تدينان عملية إطلاق النار في القدس
- مصر تدين "شرعنة" حكومة نتنياهو لبؤر استيطانية في الضفة الغربية
- مصر تدين هجوم تل أبيب وتحذر من "مغبة التصعيد المتبادل"
- واشنطن: تصريح وزير مالية إسرائيل بمحو حوارة الفلسطينية "مقزز"
- واشنطن: نتوقع أن تحاكم إسرائيل المسؤولين عن العنف في نابلس
- I PROBLEMI DI GAZA AVVICINANO EGITTO E ISRAELE
- Egypt and the Palestinian Cause