هبوط قياسي لليرة اللبنانية.. ما تأثيره على الاقتصاد المتأزم والمواطن الغاضب؟

طارق الشال | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

مازالت العملة اللبنانية تسير نحو الهاوية متجاوزة عتبة الـ51 ألف ليرة مقابل الدولار، ما فاقم من أسعار السلع والخدمات، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من أزمات غير متناهية.

 ومع هذا السقوط، فإن أكبر ورقة متداولة، وهي فئة 100 ألف ليرة التي كانت تساوي 67 دولارا عام 2019، أصبحت تساوي الآن دولارين فقط، ما يعكس مدى الانهيار الذي تعيشه العملة اللبنانية منذ خمس سنوات على التوالي.

ونتج عن هذا التراجع ارتفاعا جديدا في أسعار المحروقات، مسجلة أرقاما غير مسبوقة من شأنها أن تفاقم معاناة اللبنانيين الذين باتوا عاجزين عن تأمين أبسط الاحتياجات المعيشية والأساسية للصمود.

ويعود عدم استقرار العملة إلى زيادة الكتلة النقدية في البلاد رغم شح العملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار، في دولة مستوردة من الدرجة الأولى، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي، وغياب إرادة حقيقية للخوض في إصلاحات اقتصادية حتمية. 

أزمة الانهيار

وبحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، فإن استمرار انهيار الليرة اللبنانية يعني تواصل ارتفاع نسب الفقر في لبنان نظرا لتآكل القدرة الشرائية للشعب اللبناني الذي يتقاضى مدخوله بالليرة اللبنانية.

وأضاف مارديني، لـ"الاستقلال"، أن انهيار سعر الصرف يقود إلى تفاقم معدلات التضخم، في وقت يعيش فيه لبنان حالة من التسعير المدولر.

وأشار إلى أن المنتجات يجرى تسعيرها بالليرة في الأسواق، إلا أنه فعليا إذا انخفضت الليرة 10 بالمئة يصاحبها في اللحظة ذاتها زيادة في الأسعار بنفس النسبة.

وتضاعف معدل الفقر في لبنان من 42 بالمئة في عام 2019 إلى 82 بالمئة من إجمالي السكان في عام 2021، مع وجود ما يقرب من 4 ملايين شخص يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.

وهؤلاء يمثلون نحو مليون أسرة، بينها 77 بالمئة، أو ما يقرب من 745 ألف أسرة لبنانية، بحسب تقييم أجرته إسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا).

وأوضح مارديني، أن انهيار سعر صرف الليرة يؤدي أيضا إلى تراجع الثقة في العملة المحلية وهروب المستثمرين.

وأشار إلى أنه في ظل اضطرابات العملة يصبح المستثمر لا يعلم على أي سعر صرف سيضخ أمواله داخل السوق.

وأيضا لا يعرف على أي سعر صرف سيتلقى أرباحه، وبالتالي يعيق هذا الأمر النمو وإعادة العجلة الاقتصادية.

وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن تدفقات الاستثمار الأجنبي في لبنان تراجعت من 2.86 مليار دولار في عام 2019 بواقع 9 بالمئة من الناتج المحلي، مقابل نحو 273 مليون دولار فقط في عام 2021 مسجلا 1.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعكس محدودية ثقة المستثمرين في الاقتصاد اللبناني.

بدوره، يرى نسيب غبريل كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك "بيبلوس" في لبنان، أن تراجع الليرة إلى مستوى ما فوق الـ50 ألف ليرة ليس بالمستوى القياسي، وفق وصفه.

وأشار في حديث لـ"الاستقلال"، إلى أن الثمانينيات شهدت تراجعا لليرة إلى مستويات أدنى بكثير وبوتيرة أسرع فضلا عن أن البلاد حينها كانت تعيش أوضاعا سياسية أسوأ من الوقت الحالي. 

وحول تداعيات تراجع سعر الصرف على الاقتصاد قال غبريل، إن هذا الانخفاض في العملة يؤدي إلى زيادة ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات.

ولفت إلى أن هذا التضخم انعكس على بيانات أسعار المستهلك للـ 11 شهرا الأولى من عام 2022 بزيادة بلغت نحو 180 بالمئة على أساس سنوي.

 وبين أنه ضمن مكونات هذا المؤشر جاءت ارتفاعات حادة في النفط والكهرباء والوقود والماء بنسبة بلغت  350 بالمئة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 على أساس سنوي، بينما زادت أسعار المأكولات والمشروبات غير الروحية والصحة والمستشفيات بنحو 270 بالمئة بنفس الفترة.

وجاء لبنان في المرتبة الأولى عالميا على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء الصادر في أغسطس/آب 2022، ليتخطى زيمبابوي التي جاءت في المرتبة الثانية، وفنزويلا في المركز الثالث.

وهو الأمر الذي يشير إلى حجم التحديات المقبلة على لبنان الذي يعاني من أزمة حادة في أمنه الغذائي.

وأشار غبريل، إلى أنه لا يوجد رقابة لتسعير المنتجات ما يخلق حالة من الانتهاز من خلال استغلال تراجع سعر صرف العملة لزيادة الأسعار لمستويات مبالغ فيها.

وهو ما يزيد من تدهور القدرة الشرائية للمواطن خاصة مع وجود بعض المحلات التي لا تقبل التعامل إلا بالدولار، "ليصبح التضخم يسبق ارتفاع الأجور، كما قال.  

"النقد" منقذا

وفي ظل استمرار شح الموارد الدولارية وانعدام السيولة اللازمة للاستيراد من العملات الصعبة وزيادة الكتلة النقدية من الليرة في الأسواق دون غطاء نقدي، خاصة وسط محدودية الاحتياطي الأجنبي في مصرف لبنان، يبقى قرض صندوق النقد الدولي هو السبيل الوحيد لإحداث الانفراجة اللازمة. 

وشدد رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، نجيب ميقاتي، على أن "لا مخرج للأزمة الاقتصادية النقدية الراهنة التي تعاني منها البلاد من دون إقرار الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي". 

وأشار ميقاتي إلى أن الاتفاق مع الصندوق يؤمن تدفق مداخيل بالعملات الأجنبية إلى لبنان، سواء كان من خلال الصندوق مباشرةً، أم عبر الدول المانحة فيما بعد، التي لن تمدّ يد المساعدة إذا لم يكن هنالك مراقب دولي للإصلاحات، ألا وهو صندوق النقد.

كذلك فإن إبرام الاتفاق سيمكن من وضع البلاد على سكة النمو الاقتصادي الإيجابي، ويحد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها الأسر اللبنانية عموماً، بحسب ميقاتي.

وكان صندوق النقد الدولي، أعلن في 7 أبريل/نيسان 2022، توصله إلى اتفاق مبدئي مع السلطات اللبنانية لتمويل بقيمة 3 مليارات دولار يصرف على مدى أربع سنوات.  

ويرى مارديني، أنه لكي يصل لبنان إلى اتفاق نهائي مع الصندوق ليحصل على القرض، عليه تنفيذ جميع الشروط المسبقة التي أملاها عليه الأخير ضمن إصلاحات اقتصادية عاجلة.

وبين أن بيروت نفذت بالفعل جزءا من تلك الشروط من خلال إقرار عام للموازنة ورفع السرية المصرفية وغيرها.

إلا أنه يوجد جزء من الشروط لم ينفذه لبنان وأهمها القيود على كل تحويلات رأس المال وإقرار خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

وأكد البنك الدولي، في 24 نوفمبر 2022، أنه آن الأوان لإعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني.

 ولفت إلى أنه مع تجاوز الخسائر المالية 72 مليار دولار، تعادل أكثر من 3 أضعاف إجمالي الناتج المحلي لعام 2021، فإن تعويم القطاع المالي بات أمرا غير قابل للتطبيق، نظرا لعدم توافر الأموال العامة الكافية لذلك، ولا سيما أن أصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من هذه الخسائر.  

وأوضح مارديني، أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي عليه كثير من الإشكاليات نظرا لأن هذه الخطوة تعني إفلاس بعض المصارف وإغلاقها، بجانب خسارة بعض المودعين جزءا من أموالهم، وبالتالي يوجد صعوبة في إقرار خطة صندوق النقد بشكل كامل.

واستدرك: "الصندوق ليس الخيار الأفضل ولكن هو الحل الوحيد المتبقي لذا فإن التأخير في التوصل لاتفاق يعني عدم إجراء لبنان الإصلاحات". 

وعدم إجراء البلاد الإصلاحات اللازمة يعني مزيدا من الانهيار في سعر الصرف وتصاعد الركود الاقتصادي في وقت سجلت فيه البلاد خمس سنوات متتالية من النمو السلبي، بحسب قوله.

وقد قضى الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الذي شهده لبنان منذ عام 2018 والبالغ 37.3 بالمئة (من أسوأ المعدلات في العالم)، على ما تحقق من نمو اقتصادي على مدار 15 عاما، بل ويقوض قدرة الاقتصاد على التعافي.

من جهته، أوضح غبريل، أن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية يضر بمصالح السياسيين، مشيرا إلى أن الاتفاق الأولي مع الصندوق يتضمن تسع شروط مسبقة على لبنان لم يطبق سوى إجرائين أو ثلاث منهما منذ 9 أشهر.

وهذا يعود إلى أن باقي الشروط لا تتماشى مع أهواء ومصالح السياسيين، في حين أنه تاريخيا عادة ما تستغرق الدولة التي يجرى فرض شروط عليها من قبل الصندوق نحو شهرين لتطبيقها، كما قال. 

ووفق المعطيات السياسة والاقتصادية، يرى غبريل، أنه مازال الاقتصاد غير قادر على الاستفادة من الصندوق.

وأشار إلى أنه في حال حصول البلاد على قرض الصندوق ستتمكن الدولة من الحصول على تمويلات من مصادرة مختلفة أخرى مثل المؤسسات المتعددة الأطراف وصناديق التنمية والمؤسسات المالية الأخرى وهذا ما يحتاج إليه لبنان الذي يعاني من شح السيولة الأجنبية.

لذا فإن عدم حصول لبنان على قرض الصندوق يعني استمرار السوق الموازية لسعر صرف الدولار، التي ظهرت في 2019، وسط مزيد من شح الدولار في البلاد ومواصلة سعر صرف الليرة السقوط نحو الهاوية، وفق تعبير غبريل. 

صعوبات متفاقمة 

في خضم تلك الاضطرابات الاقتصادية واستمرار التخبطات السياسية وتأجيل انتخاب رئيس جديد للبلاد عدة مرات، ما زال المشهد الاقتصادي اللبناني ضبابيا. 

ويتوقع مارديني، أن يشهد لبنان خلال عام 2023 مزيدا من الانهيار في سعر صرف الليرة واستمرار تفاقم الصعوبات الاقتصادية وزيادة معدل التضخم.

وبين أنه في حال وضع لبنان نفسه على طريق الإصلاح فإن التعافي لن يأتي في فترة قصيرة بل يحتاج إلى مسار طويل.

ويحتاج لبنان إلى ضرورة توحيد سعر صرف الدولار نظراً إلى وجود 3 أسعار، وتنفيذ إصلاحات هيكلية أساسية لتعزيز النمو الاقتصادي، ولجم تدهور قيمة العملة المحلية، وتعزيز إيراداته. 

ومن المقرر أن يعدل لبنان في فبراير/شباط 2023 لأول مرة منذ 30 عاماً سعر الصرف الرسمي للدولار، من خلال رفعه من 1500 إلى 15 ألف ليرة لبنانية.

من جانبه، قال غبريل، إنه على الرغم من تراجع أسعار النفط فإنها ما زالت مرتفعة نظرا لاستيراد البلاد جميع المشتقات النفطية بجانب أسعار القمح وغيره من السلع الغذائية.

وهو ما انعكس بشكل جلى في فاتورة الواردات لعام 2022 التي بلغت إجمالا 19.2 مليار دولار، مقابل ناتج محلي إجمالي يبلغ 22 مليار دولار، أي أن الواردات تقارب حجم الاقتصاد اللبناني.

وبالتالي يرى غبريل، أن استمرار التداعيات الخارجية على الاقتصاد اللبناني فيما يتعلق بارتفاع أسعار السلع والمواد التي يستوردها، سيؤثر على سعر صرف الليرة سلبا.

وهذا لأن  التجار يريدون تأمين عملات أجنبية من السوق حتى يستطيعوا الاستيراد، "ما شكل ضغطا على سعر الليرة بالسوق الموازي خلال 2022، وسيظل الأمر كذلك في العام 2023".

وتتوقع الحكومة أن يحقق الاقتصاد اللبناني نمواً إيجابياً يتراوح بين 4 إلى 5 بالمئة عام 2023، وسط إشارة من قبل ميقاتي في عام 2023 بقوله: "إن لبنان على مفترق طرق خلاصته؛ إما النهوض المنتظر أو التدهور القاتم". 

وأكد غبريل، أن الإصلاحات اللازمة للاقتصاد ليست فقط تقنية، مشيرا إلى أنها يجب أن تطبق فيما يتعلق بالممارسات السياسية والمساءلة والمحاسبة.

ومن ذلك الفصل بين السلطات واحترام استقلالية القضاء ودعم قدراته وعدم تدخل الأحزاب في المؤسسات العامة ذات الطابع التجاري.

وتابع: "كما يجب إنشاء هيئات ناظمة مستقلة للقطاعات التي تملكها الدولة وتديرها، وإدخال القطاع الخاص للمؤسسات القطاع العام ذات الطابع التجاري".

وأيضا محاربة التهرب الضريبي والجمركي وتهريب السلع على الحدود، بينما التركيز فقط على الحلول التقنية لن يجدي وحده لاستعادة الثقة وعودة رؤوس الأموال، وفق رأيه.