"القتل الطبي".. سياسة إجرامية تعتمدها إسرائيل في التخلص من أسرى فلسطين

12

طباعة

مشاركة

لم تكن جريمة إعدام الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ناصر أبو حميد هي الأولى ضمن سياسة "القتل الطبي" كما يسميها مراقبون، بل أضيف إلى 73 معتقلا قضوا جراء هذا النوع من القتل.

ولفظ أبو حميد أنفاسه الأخيرة، في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بعد 17 شهرا من ظهور أعراض إصابته بمرض السرطان في الرئتين، وتعنت الاحتلال في إجراء الفحوصات وتقديم العلاج له، أو الإفراج عنه ليعيش أيامه الأخيرة بين أهله. 

وبعد رحيل أبو حميد، وصل عدد شهداء الحركة الأسيرة لـ233 شهيدا، منذ عام 1967، من بينهم من قتل بالرصاص والتعذيب.

ناصر أبو حميد

ووجد الاحتلال الذي فشل في اغتيال الأسير ناصر خلال الانتفاضة الثانية، فرصة ذهبية لقتله بعد إصابته بالسرطان بشكل أكثر ألما وإجراما.

ويعد الشهيد ناصر أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى في الضفة الغربية، الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، الذي حلّته السلطة الفلسطينية قبل سنوات.

وتوجه له سلطات الاحتلال تهمة تشكيل مجموعات مسلحة والتخطيط لعمليات استشهادية أدت لقتل مستوطنين.

ويعد ناصر أبو حميد أول مطلوب فلسطيني يتعرض لمحاولة اغتيال بتفجير مركبة كان من المقرر أن يستقلها عام 2001.

وقضى ناصر (50 عاما) الجزء الأكبر من حياته في سجون الاحتلال حيث سجن 34 عاما، موزعة على خمس محكوميات.

اعتقل أبو حميد لخمس مرات أولها بعمر 11 عاما، والثانية مع اشتعال الانتفاضة الثانية عام 1987 والثالثة كانت ذات المحكومية الأكبر، عندما حكم عليه الاحتلال بالسجن المؤبد 9 مؤبدات.

قضى من حكمه 4 أعوام، ومع تطبيق اتفاقية أوسلو عام 1995 أفرج عنه ضمن الإفراجات التي تضمنتها الاتفاقية، وبعد أقل من عام أعيد اعتقاله وحكم عليه بالسجن 3 سنوات.

وانخرط أبو حميد في الانتفاضة الثانية عام 2000، بعد عام من الإفراج عنه، وقاد عمليات لكتائب شهداء الأقصى.

عام 2002، اعتقل بعد محاصرة منزله في كفر عقب شمال مدينة القدس المحتلة، وحكم عليه بالسجن المؤبد 7 مرات و50 عاما، حسب رواية عائلته، وتوثيق نادي الأسير الفلسطيني.

وخلال فترات سجنه، تعرض الأسير لتعذيب قاسٍ أثناء التحقيق معه في كل مرة يجرى اعتقاله فيها، مع عزله لمرات عديدة في زنازين انفرادية.

تدهور وضعه الصحي، وظهرت عليه أعراض مرض السرطان في صدره، ورغم تشخيص حالته منذ البداية على أنها ورم برئتيه، فإن مصلحة السجون الإسرائيلية ماطلت في إجراء الفحوص اللازمة له لمعرفة نوع الورم وخطورته.

وتتهم عائلة الأسير مصلحة السجون بالتضليل على حالة الأسير لمواصلة مفاقمتها، إذ صدر الإعلان الأول بإصابته بورم حميد، قبل أن تسوء حالته أكثر.

وبعد إجراء فحوصات إضافية تبين حقيقة مرضه بالسرطان في مراحل متقدمة، ولم تجد جرعات العلاج الكيماوي، إلى أن ارتقى شهيدا.

ورفض وزير الجيش الإسرائيلي السابق، بيني غانتس تسليم جثمان الأسير لذويه، وهو ما يشير إلى أن هناك ما يخفيه الاحتلال في قضية استشهاده، ما يرفع عدد الجثامين المحتجزة للأسرى الشهداء بسياسة القتل الطبي إلى 11.

وبدوره، قال الأسير المحرر حسين الزريعي، إنه عاش لسنوات مع أبو حميد في سجن عسقلان وهو الذي أمضى في سجون الاحتلال أكثر من 30 عاما.

وكان ناصر متحدثا باسم الأسرى في عام 2010، يناصر المرضى ويمثلهم وينظم الإضرابات لأجلهم، قبل مرضه.

وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "كان ناصر من ضمن 5 أخوة محكومين بالمؤبد وله أيضا أخ شهيد، وهو سليل عائلة مناضلة مهجرة من بلدة السوافير في الداخل المحتل".

"كما نعلم أن لدى الاحتلال قدرات طبية عالية ومن السهل على مشافيه اكتشاف مرض السرطان وعلاجه في مراحل متقدمة، ولكن ما يحصل هو إعطاء الأسير المسكنات بوصفة من طبيب السجن، ولعل هذا الطبيب هو الأداة الأساسية في سياسة القتل الطبي"، كما قال.

وأوضح الزريعي أنه عندما تظهر أعراض المرض بشكل واضح يماطل الطبيب ولا يحرك ساكنا، باستثناء وصف المسكن (الأكمول).

وينتظر الطبيب حتى يتأكد من أن الأسير وصل لمرحلة خطيرة، ثم يبدأ بالفحوصات وتتم الإجراءات العلاجية ببطء شديد، حتى يضمن أن الأسير في طريقه للموت، وهذه هي السياسة المتبعة مع الأسرى المرضى كافة.

وكشف الأسير المحرر أن العيادة الملحقة بالسجن لا يوجد بها أي إمكانيات طبية، وعند قضائه جزاء من محكوميته في سجن نفحة وفي داخله 450 أسيرا، عاين العيادة التي كانت خالية من أي معدات، سوى من سرير حديدي وعلبة إسعافات أولية.

وتابع "لا يوجد بالسجن ممرضون، بل هم من شرطة الاحتلال وقد عقدت لهم دورة طبية، ينتقلون بعدها لمتابعة الأسرى طبيا، وفي الحقيقة هم هنا لتطبيق سياسة مصلحة السجون في قتل وتعذيب الأسرى، وحتى الطبيب في السجن هو ضابط برتبة عسكرية.

وشدد الأسير المحرر أنه حاليا هناك أكثر من 600 مريض داخل السجون يعانون ما عاناه الأسير ناصر، وإن لم يتحرك الشعب الفلسطيني فهناك 23 أسيرا على الأقل من مرضى السرطان مرشحون للرحيل. 

واستدرك قائلا "تعمد الاحتلال إقامة سجونه المخصصة للمقاومين الفلسطينيين في المناطق المحيطة بمفاعل ديمونا، كسجن (نفحة وريمون والنقب)، حيث يتعرض الأسرى للإشعاعات المسببة لمرض السرطان، وفي هذه السجون يتركز العدد الأكبر من الأسرى المصابين بالمرض الخبيث". 

"وهناك أمور أخرى مسلطة للإضرار بصحة الأسرى كقلة التهوية ودخول الشمس، وزيادة الرطوبة، سوء الغذاء"، وفق ما قال.

حقل تجارب

لم يكتف الاحتلال بسياسة الإهمال الطبي، بل ابتكر طريقة قتل أكثر سرعة من خلال تحويل أجساد الأسرى الفلسطينيين لحقل تجارب لأدوية الشركات الإسرائيلية.

وكان الظهور العلني لهذه الجريمة عام 1985، حين أعلنت وزارة الصحة الإسرائيلية عن السماح للجهات الأمنية بزيادة نسبة التجارب الطبية على الأسرى الفلسطينيين، مشيرة إلى أن الوزارة حصلت على إذن من المحكمة الإسرائيلية العليا.

ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت، فبراير/شباط 2019،  تصريحات لرئيس لجنة العلوم البرلمانية عام 1997، أدلى بها أمام الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، ومفادها أن وزارة الصحة الإسرائيلية أقرت بمنحها شركات الأدوية الخاصة تصاريح لعمل تجارب على الأسرى، وأجرت حتى تاريخه 5 آلاف تجربة.

وأكدت عضو الكنيست داليا إيتسك إجراء السلطات الإسرائيلية المختصة ألف تجربة لأدوية خطرة على أجساد الأسرى الفلسطينيين والعرب.

وأضافت في حينه أن بين يديها ألف تصريح منفصل من وزارة الصحة لشركات أدوية إسرائيلية لإجراء تلك التجارب، حسب الصحيفة.

وفي يوليو/تموز، 1997 أدلت رئيس شعبة الأدوية في وزارة الصحة الإسرائيلية، إيمي لفنات، بتصريحات، أكدت فيها أمام الكنيست على ما أدلت به داليا إيتسك.

وأضافت لفنات على ما قالته إيتسك بأن هناك زيادة سنوية قدرها 15 بالمئة في حجم التصريحات التي تمنحها وزارتها لإجراء المزيد من تجارب الأدوية الخطيرة على الفلسطينيين والعرب في المعتقلات الإسرائيلية كل عام.  وهذا يرفع عدد التجارب ليصبح إجمالي التجارب 6000 سنويا، على حد قولها.

وأجرت صحيفة برافدا الروسية عام 2013، تحقيقا موسعا حول تنفيذ حكومة إسرائيل تجارب طبية على الأسرى الفلسطينيين، بما في ذلك حقنهم بفيروسات خطيرة، وخاصة الأسرى الذين يقترب موعد إطلاق سراحهم. 

وبينت أن العديد من الأسرى الفلسطينيين يعانون بعد خروجهم من معتقلات الاحتلال الإسرائيلي من أمراض عضال، أْو إعاقات مستدامة، نتيجة الممارسات الإسرائيلية إزاءهم، كما قالت الصحيفة. 

ويستخدم الاحتلال الأطباء في عيادات السجون وفي المشافي الإسرائيلية كأدوات لتعذيب الأسرى.

وكشفت "جمعية أطباء من أجل حقوق الإنسان" الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول، 2019، عن ضلوع الأطباء الإسرائيليين في تعذيب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

وأكدت أن العاملين منهم في مصلحة السجون يلعبون دورا أساسيا في "صناعة التعذيب" ضد الأسرى الفلسطينيين.

ولفتت الجمعية إلى أن الأطباء العاملين في المستشفيات الإسرائيلية التي تعالج الأسرى الفلسطينيين يسهمون أيضا في تسهيل عمليات التعذيب والتغطية عليها، خصوصا الأطباء العاملين في أقسام الطوارئ.

وبينت أن عمليات التعذيب ضد الأسرى الفلسطينيين تشمل الضرب المبرح، والمنع من النوم، ووضع الأسير في جو حار جدا أو بارد جدا.

ولفتت إلى أن الأطباء العاملين في أقسام الطوارئ في المستشفيات الإسرائيلية يكتبون تقارير كاذبة حول أوضاع الأسرى الفلسطينيين الذين يجرى نقلهم بعد تعرضهم لعمليات تعذيب وحشية، مشيرة إلى أن هؤلاء الأطباء يكتبون بالضبط ما يريده محققو "الشاباك" (جهاز الأمن العام).

وأوضحت أن الأطباء يشرفون على عمليات التعذيب ويحرصون على معالجة آثار التعذيب، بحيث لا تشكل دليلا يسمح بإدانة محققي "الشاباك".

ولا تعد مشاركة الأطباء في تعذيب الأسرى أمرا مستجدا، بل إن منظمة أصدقاء الإنسان الدولية (مقرها في النمسا)، كشفت خلال تقرير حقوقي عام 2005، استخدام سلطات الاحتلال الأطباء كأداة لخدمة لتعذيب المعتقلين الفلسطينيين.

ومن ضمن العديد من الجرائم التي ذكرها التقرير، إجراء طبيب إسرائيلي في مستشفى سوركا ببئر السبع عام 2005، عملية جراحية لاستئصال الزائدة الدودية من جسد الأسير أنس شحادة المعتقل في سجن النقب دون تخديره.

وبين أن نداءات الممرضات للطبيب بالرحمة لم تُجْدِ وأن الطبيب كان يرد بالعبرية بين الحين والآخر واصفا إياه بأنه "مخرب فلسطيني".

قتل بطيء

ومن جانبه، قال الأسير المحرر عليان العمور إنه عايش عن كثب مراحل القتل الطبي البطيء الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال. 

وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "منذ اعتقالي عام 2006، أردت مساعدة الأسرى الذين يعانون من مشاكل صحية وكل ما كنت قادرا على فعله هو التواصل معهم وتقديم بعض الدعم المعنوي".

وأردف: "وفي عام 2019، قدمت طلبا بأن أنضم إلى مجموعة من السجناء الذين يعملون في عيادة سجن الرملة وقبل طلبي".

ووصف الأسير المحرر حماسه لحصوله على فرصة مساعدة الأسرى طبيا، ولكنه صدم بمجرد أن رأى القسوة التي يتعرض لها مرضى سجن الرملة.

وروى ما شاهده بالسجن بالقول: "كان مثل المسلخ، لن أنسى أبدا مشهد المرضى في أول يوم لي هناك، كانت أيديهم مقيدة إلى الأسرة، وبدت وجوههم حزينة ومرهقة، واستطعت أن أرى من أجسادهم النحيلة مدى شدة مرضهم".

ساعد عليان المرضى الذين يحتاجون إلى المساعدة لتناول الطعام والأدوية أو الذين يعانون من مشاكل في الحركة، ولم يستطع فعل أكثر من ذلك.

وتابع "كان عدد من المرضى الذين التقيت بهم في الرملة مصابين بالسرطان، ولم يكونوا يتلقون الخدمات طبية اللازمة لعلاجهم". 

"وعندما يجري الحراس في عيادة الرملة دوريات إحصاء للأسرى (عادة في الليل)، ينقل المرضى إلى ساحة لعدة ساعات، بغض النظر عن حالة الطقس، وهو ما يفاقم أوضاعهم".

وأوضح الأسير المحرر أن طلبات علاج الأسرى قد تستغرق قرابة 18 شهرا إلى أن يجرى النظر فيها، ومن غير المستغرب أن ترفض إدارة السجون هذه الطلبات، مهما كانت حالة الأسير صعبة.

وكشف العمور أنه لم يشهد أن أي أسير جرى نقله إلى مستشفى إسرائيلي لتلقي العلاج قد تعافى، بل إنهم لا يغادرون المستشفى إلا شهداء.

وخلال الفترة التي عمل فيه الأسير المحرر عليان العمور توفي ثلاثة من مرضى الرملة، من بينهم الأسير بسام السيح (46 عاما) من نابلس في الضفة الغربية، وكان مصابا بسرطان الدم وتوفي في سبتمبر/أيلول 2019.

وشهد عليان حالة استشهاد أخرى تعود لأحد أقربائه، وهو الأسير الشهيد سامي العمور.

ففي عام 2021، أوصى الأطباء بضرورة إجراء جراحة لسامي للشرايين المسدودة، لكن بدلا من نقله إلى المستشفى، احتجزوه في السجن بأمر من إدارة السجون.

قال عليان إن  إبقاء سامي في السجن يعادل عقوبة إعدام، ولكنهم لم يحركوا ساكنا رغم أنهم كانوا يعرفون مدى خطورة حالته.

استشهد سامي في السجن الإسرائيلي خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2021 ، حين كان عمره 39 عاما فقط وكانت خطيبته بانتظار الإفراج عنه.

ومع تشكل حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، من المتوقع أن يشهد ملف الجرائم تجاه الأسرى تطورات خطيرة، وهو ما يمكن أن يفجر الوضع برمته في الساحة الفلسطينية. 

وكشفت، صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية 14, نوفمبر 2022 اشتراط إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي وزعيم حزب "القوة اليهودية" تطبيق قانون "عقوبة الإعدام" بحق الأسرى الفلسطينيين، ضمن مفاوضات تشكيل حكومة الاحتلال الجديدة، بزعامة نتنياهو.  

وينص مقترح القانون على أن كل "فلسطيني أدين بقتل إسرائيلي بدافع قومي يتوجب الحكم عليه بالإعدام".

وكشفت القناة "13" العبرية، أن نتنياهو أعطى الموافقة لـ"بن غفير" للمضي في سَنّ قانون إعدام الأسرى منفذي العمليات، وعلى ذلك الأساس وافق الأخير على المشاركة في الحكومة.

ومن جانبه، قال الباحث السياسي زكريا السلاسلة إن قضية الأسرى وما يعانونه من ظلم في سجون الاحتلال قد تكون مطلقة الشرارة لمعركة كبير بين الاحتلال والشعب الفلسطيني، الذي يواكب قتل أسراه وأبطاله في المعتقلات الإسرائيلية.

وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "يستفرد الاحتلال حاليا بالأسرى الفلسطينيين، وينفذ إجراءات انتقامية منهم، ويعمل على تصفيتهم بشكل تدريجي من خلال الإهمال الطبي، وهو ما يهيئ الأجواء لانفجار كبير، عن طريق انتفاضة شعبية أو حتى حرب شاملة".