البدون في السودان.. فئة مهمشة عالقة منذ سنوات بين الشمال والجنوب
فئة عالقة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يعيشون بين دولتين شاسعتين ولا يستطيعون الحصول على هوية أي منهما، إنهم البدون في السودان.
وفي ظروف صعبة وغير إنسانية، ولدت فئة البدون في السودان من رحم تقسيم الوطن الأم إلى شمال وجنوب.
فلا الخرطوم اعترفت بهم في ذلك الوقت ولا جوبا، عاصمة جنوب السودان أقرت بوجودهم. لذلك أطلقت عليهم هذه التسمية، على غرار "البدون" المنتشرين في أنحاء الوطن العربي سواء في الكويت أو مصر أو غيرها من الدول.
حالة الانفصال هذه بعد سنوات من الحروب والصراعات، أعقبتها فترة تجاذب وتشفي سياسي بين النظامين في الشمال والجنوب.
تسبب ذلك بإنتاج آلاف الضحايا مِمن فقدوا وثائقهم الثبوتية، بسبب تداخل جذورهم بين البلدين، وصاروا ضائعين بلا هوية ولا وثيقة.
وهو ما ترتب عليه أوضاع غاية في الصعوبة؛ منها فقدان فرص العمل والتعليم والعلاج والسفر، وحتى الزواج الرسمي، فكلها أمور تحتاج إلى مستند ثبوتي.
وأصبح البدون فئة موجودة في الواقع لكنها ملغاة على الورق، لا حق لهم، وإن ماتوا يدفنون وكأنهم لم يكونوا.
عقاب بلا ذنب
في 23 ديسمبر/كانون الأول 2022، أعلنت منظمة العائدين من دولة جنوب السودان، وهي منظمة حقوقية مقرها الخرطوم، أن 31 ألف أسرة سودانية (قرابة 155 ألف شخص) عائدة من جوبا، لم يستطع أفرادها الحصول على الهوية السودانية.
يعيش هؤلاء في ظروف قاسية في المناطق الطرفية وبعض الولايات السودانية، ولم تجد قضيتهم أدنى اهتمام من السلطات الرسمية سواء في الشمال أو الجنوب.
وكشف رئيس المنظمة "مدني مهدي موسى" أن آلاف الأسر عادت من الجنوب إلى السودان الشمالي عقب الانفصال ولم يحصلوا على أوراق ثبوتية حتى الآن، وهم يعيشون حاليا في مناطق حدودية في ثلاث ولايات: النيل الأبيض (14 ألفا) والنيل الأزرق (10 آلاف)، وسنار (7 آلاف).
أما الجريرة الوحيدة التي ارتكبها هؤلاء في نظر الحكومتين فهي جذورهم الممتدة سواء إلى هنا أو هناك.
فعقب الانفصال عام 2011، مارست حكومة رئيس النظام السوداني السابق عمر البشير، تضييقا واسعا على ذوي الجذور الجنوبية وأمرتهم بالمغادرة إلى الدولة الوليدة.
وعدلت الحكومة المادة 10 من قانون الجنسية السوداني، إذ جرى إدخال فقرة جديد تقر بإسقاطها عن كل شخص اكتسب جنسية دولة جنوب السودان حكما أو قانونا.
بينما فعلت جنوب السودان، الشيء نفسه وطردت السودانيين الشماليين لديها، وذلك في ظل توتر كبير في العلاقات الثنائية آنذاك، قبل أن تتحسن في وقت لاحق، لكن ظل وضع "البدون" على حاله، بل ازداد سوءا.
وضعية البدون تفجرت خلال الأعوام السابقة أكثر من مرة، وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، انطلقت حملة "أنا سوداني" المناصرة لشريحة عديمي الجنسية التي خلفها الانفصال.
وقتها طالبت رئيس الحملة "إحسان عبد العزيز" بإعادة الجنسية والهوية للمواطنين، وقالت إنه جرى تدشينها "لمناصرة الأمهات السودانيات بالميلاد والمتزوجات من جنوب السودان، بعد أن وقفت السلطات ضد منح أطفالهن الجنسية السودانية".
وهدفت الحملة إلى إعطاء أي شخص من أم سودانية بالميلاد وأب جنوب سوداني الجنسية بالميلاد دون قيد أو شرط وفقا للقانون.
وكذلك استرجاع الجنسية السودانية لمن جرى نزعها عنه بعد الانفصال من أبناء الأمهات السودانيات بالميلاد.
فضلا عن إنهاء حالة "البدون" بالسودان واستعادة حق المواطنة الكاملة للمواطنين بما يتماشى مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
جذور عريقة
مع ذكر كلمة "البدون" يظن البعض أنهم مجرد فئات مهمشة عاشت على الحدود، أو تواجدت بلا تأثير داخل المجتمع السوداني.
لكن كثيرا منهم مواطنون سودانيون طبيعيون، حصلوا على قدر من التعليم، وشغلوا الوظائف العامة، وتواجدوا في الحياة العامة.
لكن فيهم حالات شديدة الخصوصية؛ لما امتلكته من جذور تاريخية لعائلات عريقة، ومن أبرزهم إبراهيم الماظ، ذلك الرجل الذي أسقطت جنسيته السودانية بدعوى عودة جذوره إلى جنوب السودان.
وهو حفيد البطل السوداني الضابط الراحل عبد الفضيل الماظ الذي شكل برفقة آخرين "جمعية اللواء الأبيض"، واحدة من أكبر جبهات مقاومة الاستعمار البريطاني في عشرينيات القرن الماضي.
ويعيش حفيد "الماظ" في العاصمة الخرطوم، لكنه لا يستطيع السفر ولا العمل ويمر بأوضاع إنسانية معقدة، بعد أن رفضت السلطات إعادة هويته بالرغم من كسبه طعنا دستوريا يقر بانتمائه إلى هذا الوطن الذي ولد ونشأ فيه.
وبالرغم من التغيير الكبير الذي حدث في السودان، وسقوط نظام البشير، وصعود المجلس السيادي وقوى مختلفة من المجتمع المدني، فإن حال "الماظ" ومعه سائر البدون لم يتغير وبقي الوضع على ما هو عليه.
وفي منتصف العام 2022 أعلنت حكومة جنوب السودان، أنها مستعدة لمعالجة أمر مواطنيها ممن فقدوا هويتهم في الخرطوم، وأصبحوا فقط في انتظار صدور قرار سياسي يعيد لهم جنسيتهم.
لكن حكومة السودان متحفظة حتى الآن في الاستجابة للوضع المأساوي القائم، ولم تعلن عن قرار موازٍ بالتنسيق مع الجارة الجنوبية، لانتشال آلاف البدون مما هم فيه.
لا سيما وأن أول من افتعل هذه المشكلة هي القيادة السياسية في الخرطوم التي شرعت عن قصد بإسقاط هوية الجنوب سودانيين دون غيرهم من الجنسيات الأخرى التي يتمتع أبناؤها بالجنسية لكونهم من أمهات سودانيات.
وقانون الجنسية السوداني الصادر عام 1994 وفقا للمادة (4) ينص على أنه: "يكون الشخص المولود من أم سودانية بالميلاد مستحقا للجنسية متى ما تقدم بطلب لذلك".
وهو ما يستند إليه "البدون" في مرافعاتهم أمام المحاكم السودانية، وأمام مكاتب الهوية والتسجيل التي أنشئت خصيصا للنظر في طلبات الأشخاص المشكوك في انتمائهم لهذا البلد.
وفي قلب الخرطوم يتكدس المئات ممن يبحثون عن الجنسية السودانية في مشاهد تعكس حجم تفاقم هذه القضية، من بينهم أطفال ونساء وكبار في السن، وهم يجسدون معاناة "البدون" المتصاعدة.
ثمن الانفصال
السياسي السوداني إبراهيم عبد العاطي، يعلق على هذه الأزمة بالقول: "إن السودان كله دفع ثمن الانفصال وثمن سياسات الأنظمة السابقة وليس (البدون) وحدهم، فهناك شعب بالملايين دفع ثمن الحرب الأهلية والحكومات العسكرية، وأصبح مهددا بالانفصال في كل شبر من أرضه غير الجنوب".
ففي دارفور والشرق والوسط هناك دعاوى انفصالية، وإذا كنا أمام فئة (بدون) واحدة، فاحتمالية أن نشهد عشرات الطوائف من البدون قائمة ومحتملة مع هشاشة الدولة السودانية، وفق ما قال لـ "الاستقلال".
وأضاف: "النظام السياسي اتخذ منذ اللحظات الأولى للانفصال إجراءات انتقامية بحق عشرات الآلاف من المواطنين، وهم لا ذنب لهم، وكأنما صب جام غضبه وحمل نتيجة فشله لهؤلاء الأشخاص وفيهم الأطفال والنساء والشيوخ".
وأوضح: "أصبح من تمتد جذورهم للجنوب عرضة للتنكيل، وصدر بحقهم قانون مجحف يقر بإسقاط الهوية السودانية، وهو واحد من أسوأ القوانين وأكثرها قسوة في تاريخ السودان، لمن اختاروا أن يكون وطنا لهم وعاشوا على أرضه هم وأجدادهم".
واستطرد: "لكننا هنا لا نتحدث عن الماضي أو الحاضر لأولئك السودانيين المحرومين من هويتهم، بل عن مستقبل مظلم بكل معانيه".
فهناك آلاف الأطفال جرى إنجابهم عقب الانفصال، لم يحصلوا على وثائق نتيجة القانون، واختلاط جذورهم بين الجنوب والشمال، وترتب على ذلك ضياع مستقبلهم بعد منعهم من أبسط حقوقهم في الصحة والتعليم وغيرها من الخدمات".
واختتم: "إذا أراد السودان أن ينتشل نفسه من الخطر والسقوط، عليه أن يتجاوز أزمة التمييز والتعسف، ولا يخلق الأعداء وراء ظهره".
وتابع: "يجب حل مشكلة البدون ومنحهم حقوقهم وتعويضهم عن سنوات الحرمان، وحل مشكلة قبائل البجا في الشرق، والاقتتال الأهلي في دارفور".
وأردف: "على المكونات (السياسية) أن تتصالح وتقيم وطنا على العدل والحرية والمساواة؛ لأن السودان أمة تستحق أن تكون رائدة عربيا وإفريقيا، ولا تستحق هذه المكانة في ذيل المنطقة".