إغلاق "آخر منبر إعلامي حر".. هل يضيق صدر نظام تبون بالرأي المعارض؟
تعالت أصوات الانتقادات داخليا وخارجيا تجاه السلطات السياسية والقضائية في الجزائر، عقب اعتقال الصحفي إحسان القاضي، ومداهمة مكاتب مؤسسته الإعلامية وإغلاقها.
واتهم ناشطون النظام الجزائري برئاسة عبد المجيد تبون بخنق الرأي المخالف، وسط ضغوط المطالبة بالإفراج عن القاضي، بعد حملة اعتقالات سابقة تعرض لها صحفيون من مؤسسته.
والقاضي هو أحد أقدم الصحفيين في الجزائر، أظهر في السنوات الأخيرة معارضته للنظام السياسي في البلاد من خلال نشاطه المهني عبر مؤسسته التي تضم إذاعة "راديو إم" وموقع "مغرب إيمارجون".
نهاية مروعة
وأمر قاضي التحقيق لدى محكمة "سيدي امحمد" وسط العاصمة الجزائرية، في 29 ديسمبر/كانون الأول 2022، بحبس الصحفي القاضي، الموقوف منذ 23 من ذات الشهر بتهمة "المساس بالأمن"، حسب موقع "مغرب إيمارجون".
ووفق الموقع ذاته، فإن التهم الموجهة إلى الصحفي تتعلق خصوصا بـ"المادة 95 مكرر" من قانون العقوبات، الخاصة بتلقي أموال من الخارج.
وتنص المادة على عقوبة السجن بين 5 و7 سنوات بحق "كل من يتلقى أموالا أو هبة، بأي وسيلة كانت، من دولة أو مؤسسة، أو أي هيئة عمومية أو خاصة، داخل الوطن أو خارجه، قصد تنفيذ أفعال من شأنها المساس بأمن الدولة، أو باستقرار مؤسساتها، أو بالوحدة الوطنية، أو بالمصالح الأساسية للجزائر".
وأوضح أن مديره "جرى عرضه على وكيل الجمهورية دون حضور محاميه، الذي لم يُخطر بموعد عرضه على القضاء".
وغداة توقيف القاضي داهمت قوات الأمن مقر "إنترفاس ميديا" الناشرة لـ"راديو إم" وموقع "مغرب إيمارجون"، في حضوره مكبل اليدين، وشمّعت المقر وحجزت كل الأجهزة الموجودة فيه.
وأثار توقيف الصحفي وغلق مؤسستيه، موجة تضامن واسعة من الصحفيين وناشطي حقوق الإنسان في الجزائر وخارجها.
وفي يونيو/حزيران 2022، حكم على الصحفي القاضي بالسجن 6 أشهر مع النفاذ، وبغرامة مالية قدرها 50 ألف دينار (300 دولار).
وهو الحكم الذي أكدته محكمة الاستئناف، لكن من دون أمر بحبسه حتى صدور قرار المحكمة العليا في الطعن الذي تقدم به.
وتتعلق القضية بشكوى رفعتها وزارة الاتصال ضد القاضي، بعد نشره مقالا في مارس/آذار 2021 على موقع إذاعة "راديو إم" التي تبث عبر الإنترنت، دافع فيه عن حق حركة "رشاد" بالمشاركة في الحراك الشعبي للمطالبة بالديمقراطية.
وحركة "رشاد" منظمة إسلامية تنشط من خارج الجزائر، وصنفتها السلطات منظمة إرهابية في مايو/أيار 2021.
وفي هذا الصدد، قالت صحيفة "لوموند" الفرنسية في 3 يناير/ كانون الثاني، إنه "باعتقال الصحفي القاضي، ومداهمة مكاتب مؤسسته وإغلاقها، لم تستطع السلطات في الجزائر العاصمة تجاهل الصدمة التي قد تسببها هذه المداهمة في الداخل كما في الخارج، لا يبدو أن النظام الجزائري يكترث كثيرا بالأثر الكارثي على صورته".
وأضافت الصحيفة أن "القاضي شخصية رمزية للصحافة الجزائرية المستقلة، برز خلال الحراك الشعبي عام 2019، ولم يخفه تشديد الخناق القمعي لصالح إجراءات التقييد الصحي لمكافحة كوفيد في عام 2020".
ولفتت إلى أن "الإعجاب الذي ألهم مشهد حشود الحراك المسالمة والمبهجة والتي جددت بشكل جذري النظرة التي حملتها الجزائر، لم يعد أكثر من ذكرى مكسورة، فباتت هناك حالة من الاندهاش حيال الاندفاع القمعي المتهور لنظام ينتقم بالكامل بعد خوفه على بقائه".
وبينت أن "الهجوم على المقر الإعلامي للقاضي ليس سوى الحلقة الأخيرة من حملة تفكيك منهجية استهدفت لمدة عامين، مواقدَ الحراك المتبقية، وأجبر العديد من شخصياته على الخروج إلى المنفى فراراً من السجن، في ظل توجيه الاتهامات بالإرهاب والتخريب لكل من انتقد النظام الحاكم".
عام الانتهاكات
الكاتب الجزائري، محمد تريكم قال إن: "فرض القيود على الصحافة بدءا من التوقيف والسجن مرورا بإغلاق وتشميع المؤسسات الإعلامية هو انتهاك لحرية التعبير وحرية الإعلام، يخصم النقاط الدولية ويجعلنا نتراجع في مؤشر حرية الصحافة العالمي، ويضعنا في حرج أمام المجتمع الدولي".
وأضاف تريكم لـ"الاستقلال"، أن "المطالب حاليا تتمثل بإطلاق صوت المواطن، الصحفي إحسان القاضي، وهو شخصية لها مكانتها في خانة أصحاب الرأي، وبعدها التمكين للجميع بحق حرية التعبير التي تكفلها المواثيق الدولية".
وطالب بـ"تعزيز الحرية الصحفية وإنهاء اعتقال وتوقيف الصحفيين وإغلاق مؤسساتهم بقضايا عليها اختلاف في وجهات النظر".
ولفت إلى أن "المشهد العام بحاجة إلى إصلاح سياسي وديمقراطي، خاصة أن نكوص ما قبل الحراك الشعبي في 2019 عادت بوادره وبدأ الجو العام في المجتمع الجزائري".
وشدد تريكم على أنه "أمام صعوبة الحياة الاجتماعية في البلاد نلاحظ تضييقا على أصحاب الرأي من صحفيين وكتاب، وخلق رقابة وتضييق على وسائل الإعلام المستقلة على قلة عددها، وهذا يدفع إلى خنق مناخ الرأي الآخر".
في السياق، طالبت منظمة "مراسلون بلا حدود" الدولية، السلطات الجزائرية بالإفراج عن الصحفي القاضي.
ونشر ممثل المنظمة على مستوى منطقة شمال إفريقيا، خالد درارني، تغريدة جاء فيها "صحفيون في السجن، آخرون مهددون، إعلام مغلق، نهاية عام 2022 مروعة لحرية الصحافة".
صحفيون في السجن، صحفيون مهددون، إعلام مغلق، نهاية عام 2022 مروعة لحرية الصحافة.
— Khaled Drareni (@khaleddrareni) December 31, 2022
المغرب العربي القمعي موجود.
أتمنى أن تكون 2023 سنة الإفراج على #إحسان_القاضي #عمر_الراضي #سليمان_الريسوني وكل المظلومين. pic.twitter.com/94iDWLFA78
وأضاف في 31 ديسمبر، "المغرب العربي القمعي موجود، أتمنى أن تكون 2023 سنة الإفراج عن إحسان القاضي وكل المظلومين".
بدورها، قالت منظمة "صحفيات بلاقيود" الدولية إن "إمعان السلطات الجزائرية في التضييق على الصحافيين في البلاد يجب أن يتوقف، وأن يسمح للصحفيين بمناقشة الوضع العام دون قيود".
وطالب المنظمة في الثاني من يناير، السلطات الجزائرية بإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين والكف عن الملاحقات القضائية المتواصلة لهم، وحملات المضايقات والحجب ضد وسائل الإعلام الرقمية".
وتحتل الجزائر المرتبة الـ134 من بين 180 دولة في ترتيب منظمة "مراسلون بلا حدود" الخاص بحرية الصحافة لعام 2022.
وموقع "مغرب إيمارجون" أُنشئ في مارس 2010، أما إذاعة"راديو إم" ، فقد أُطلقت عام 2014، في إطار برنامج "مقهى الحوار السياسي" الذي كان يناقش مخطط الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة للترشح لولاية رابعة.
وتعرضت إذاعة "راديو إم" لمضايقات الأجهزة القضائية الجزائرية، ولا سيما منذ بداية الحراك الشعبي، الذي اندلعت أولى شراراته في 22 فبراير/شباط 2019 احتجاجاً على ترشح بوتفليقة، مما أدى إلى استقالة رئيس الجمهورية من منصبه في نهاية المطاف.
واعتُقل العديد من صحفيي هذا المنبر الإعلامي وواجهوا الكثير من المحن والعراقيل، بينهم المذيع خالد درارني، الذي اعتُقل عدة مرات بين عامي 2019 و2020، وحُكم عليه في أغسطس/آب 2020 بالحبس ثلاث سنوات بتهمة "المساس بالوحدة الوطنية"، ليُطلَق سراحه بعدما أمضى عاماً خلف القضبان.
كما كان الاعتقال مصير صحفية "راديو إم"، كنزة خطو، التي جرى توقيفها في مايو 2021 أثناء تغطيتها لمظاهرة في الجزائر العاصمة، ليصدر في حقها حُكم بالسجن لمدة ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ بعد ثلاثة أيام قيد الاحتجاز، قبل تبرئتها في ديسمبر من العام نفسه.
وتتواصل المحنة أمام القضاء مع مدير المحطة الإذاعية، القاضي، الذي دفع ثمن المقال التحليلي حول ضلوع الحركة الإسلامية في الحراك الشعبي.
وفي هذا الصدد، قال الأمين العام لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، كريستوف ديلوار: "القضاء الجزائري غالباً ما يختار الاستلهام من الخيال، ولا يسعنا إلا أن نعرب عن أسفنا وقلقنا حيال ذلك".
وفي تعليق نشره الموقع مطلع يناير 2022، أضاف ديلوار "الأمر بيد السلطات لكي تدرك الصورة الكارثية التي ترسمها عن نفسها كنظام يدوس على المبادئ الديمقراطية".
صورة بشعة
بالموازاة، أطلق ناشطون في الجزائر عريضة بألفي توقيع تطالب بإطلاق سراح القاضي ورفع إجراءات التشميع عن مقر مؤسسته الإعلامية بالعاصمة.
وقال أصحاب العريضة: "اعتقال الصحفي القاضي يعد حدثا صادما، وقرارا فاضحا وتعسفيا وغير مسموح به قانونيا". وأضافوا "نعرب هنا عن قلقنا العميق إزاء هذا القمع التعسفي الذي يعرض المكاسب المتبقية للخطر".
من جانبه، عدّ الكاتب الجزائري، ناصر جابي،” اعتقال إحسان وتشميع مقر المؤسسة الإعلامية التي يسيرها تأكيد أن السيناريو الأكثر تشاؤما هو الذي يسود الساحة السياسية هذه الأيام، التي لم تعد تقبل بالحد الأدنى من الحريات الإعلامية والسياسية على شاكلة ما كان متوفرا خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة".
وأضاف في مقال نشره مطلع يناير 2023 "نحن أمام نوع من الإصرار على تقديم صورة بشعة عن الجزائر للعالم الخارجي، في الوقت الذي يجري فيه الكلام رسميا عن عودة إلى الساحة الدولية العربية والإفريقية، أكيد أنها لن تحتل فيها مكانتها بمثل هذا الممارسات التي عادت بقوة مع هذا الغلق السياسي والإعلامي المواكب لها".
ولفت إلى أن "أسئلة كثيرة يطرحها الجزائريون حاليا بمناسبة عودة هذه الممارسات التي ظنوا أنها قد ولت من دون رجعة، كان من بينها العودة القوية الملاحظة للذباب الإلكتروني الذي تعودنا في الجزائر، فعودته عادة ما تكون للتغطية على أفعال قمعية يفشل الإعلام الرسمي في الترويج لها".
واستطرد: "قضية القاضي لقيت تغطية إعلامية دولية كبيرة، ستزيد حتما في تشويه صورة الجزائر على المستوى الدولي، وهي تبرز الوجه القبيح الذي أراد لها البعض أن تظهر به والعالم يودع سنة ويستقبل أخرى".
حزب "الاتحاد من أجل التغيير والرقي" أدان بدوره ظروف حبس القاضي وتشميع مقر مؤسستيه. وجدد الحزب، في بيان 3 يناير، دعوته لـ"إطلاق سراح السجناء السياسيين وسجناء، الرأي، ورفع القيود على النشاط السياسي والجمعوي، وفتح المجال الإعلامي للنقاش الحر".
وقال: "نتمسك بإجراءات التهدئة لتقوية الجبهة الداخلية من خلال إطلاق سراح كل السجناء السياسيين والرأي مع رفع كل القيود عن النشاط السياسي والجمعوي، وفتح المجال الإعلامي للنقاش الحر والتشاور الذي أصبح ضرورة ملحة بالنظر إلى طموحات الجزائر وتأثيرات السياق الدولي على بلادنا".
وأشار "الاتحاد من أجل التغيير والرقي" الذي تترأسه زبيدة عسول، أن "هناك مناخا يتميز بتصعيد قمعي بالنظر إلى ظروف اعتقال الصحفي القاضي وإيداعه الحبس المؤقت".
ودعا السلطات العمومية إلى "ضرورة احترام الأحكام الدستورية ولا سيما المادة 54 منه والتي تمنع أي عقوبة سالبة للحرية ضد الصحفيين في جرائم الصحافة، بل تخضع كل توقيف أو غلق للصحافة بما فيها الإلكترونية لقرار قضائي".