استخبارات الفاتيكان.. سلاح فرانسيس لتعزيز نفوذ دولة الكرادلة حول العالم
يميل تاريخ دولة "الفاتيكان" الدبلوماسي المعقد وخصائصها الباطنية المتخيلة إلى تعميق "نظريات المؤامرة" وتعززها "الأسرار الخفية" وراء أسوارها المحصنة.
وفي 23 ديسمبر/ كانون الأول 2022، نشرت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات، تقريرها عن كيفية إدارة بابا الفاتيكان فرانسيس لعملياته الاستخباراتية من المبنى الشهير.
وكشفت المجلة أن "العمليات يديرها عبر خبراء استخبارات غير رسميين يصوغون السياسة الخارجية للفاتيكان ويهندسون ممارسات دبلوماسية موازية سرية، تحت أعين أجهزة المخابرات العالمية".
وذكرت أن "فرانسيس يسعى للعب دور دبلوماسي في الاتجاهات كافة"، متسائلة: "هل يجعله ذلك خبير استخبارات أيضا كما كان البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني في عصره؟".
شبكات معقدة
ولفتت المجلة الفرنسية إلى أن "فرانسيس يستغل شبكات المخابرات الرسمية وغير الرسمية المعقدة التي ورثها عن سلفه، لتعزيز نشاطه الدبلوماسي، حيث عمل منذ تنصيبه عام 2013 على تطوير هذه القنوات وتوظيف علاقات غير تقليدية في هذا الإطار".
وأوردت أنه "منذ الحرب العالمية الثانية، كان الفاتيكان هدفا دائما لعمليات التجسس من جميع أنحاء العالم، ولكن أجهزة المخابرات الأجنبية في الوقت الحالي تجد صعوبة أكبر في اختراق خطط البابا فرانسيس".
وبحسب المجلة "لا يقتصر عمل استخبارات الفاتيكان على القنوات الرسمية، حيث تعتمد في عملياتها الروتينية على شبكات من المؤمنين في جميع أنحاء العالم تتراوح أدوارهم بين حشد كهنة الرعية، وتعزيز ردود الفعل الصادرة عن التجمعات والكيانات المرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية".
وأوضحت أن "الكنيسة تتمتع برصيد كبير حول العالم، ولها أدواتها في الأجزاء النائية من إفريقيا والشرق الأوسط، حيث لا يجرؤ ضباط المخابرات من الدول الأكثر قوة على العمل خاصة عندما تحتدم الصراعات".
وذكرت "إنتيليجنس أونلاين" أن "المعلومات تمرر من خلال الأساقفة وأوامرهم المختلفة، ثم تصل إلى الكرادلة في الفاتيكان الذين يقود كل منهم شبكة اتصالاته الخاصة".
وتابعت: "تسهم شبكات الاستخبارات غير الرسمية هذه في التحليل الذي يجرى على أعلى مستوى في الفاتيكان، إلا أن الافتقار للهيكل الرسمي يؤكد خطورة تسريب المعلومات كونها لا تقيم أبدا بطريقة منهجية".
علاقات قوية
وفي السياق، قالت صحيفة "إندبندنت" البريطانية، إن "فرانسيس يستخدم شبكات الجواسيس أكثر من أسلافه، ويعود ذلك لحذره من الهياكل الاستخباراتية الرسمية بعد تجربته الشخصية في الأرجنتين خلال العقد الأول من القرن الـ21 عندما كان رئيسا للأساقفة هناك".
وذكرت في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2022 أنه "خضع لمراقبة وكالة المخابرات الفيدرالية الأرجنتينية، واستمرت المراقبة لبعض اتصالاته حتى بعد أن أصبح البابا".
وقالت الصحفية إنه "تبعا لجذوره اليسوعية، يفضل فرانسيس تنظيم شبكة مجمعة بدقة من الأفراد الموثوق بهم والمفوضين بشكل غير رسمي بدلا من الاعتماد على هيكلية إدارية منظمة".
واستطردت: "كان لتفضيل البابا فرانسيس المميز للقيام بعمل استخباراتي على طريقته الخاصة، تأثير على القنوات غير الرسمية الراسخة في الفاتيكان، مثل مؤسسة (حبرية الصليب المقدس) التي كانت قوية جدا في عهد يوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر، لكنها اصطدمت تاريخيا مع حركة اليسوعيين التي ينتمي إليها فرانسيس".
وتعمل جميع شبكات الفاتيكان بجد لجمع المعلومات والحملات لممارسة أنشطتها حول العالم، فالكرادلة (أعلى هيئة استشارية) مسؤولون عن تنسيق جميع المعلومات التي تقدم في بلدانهم من رؤساء الجامعات الكاثوليكية ووسائل الإعلام والجمعيات الخيرية.
وفي 12 فبراير/ شباط 2022، ذكر موقع "بي ب إس نيوز آور" الأميركي، أن "الكرسي الرسولي لا يمتلك الكثير من الجواسيس المحترفين، فرجال الدين الذين يعملون في مجال الاستخبارات لم يدربوا للقيام بذلك".
وأوضح أن "الرجال الذين يرتدون العباءات يعدّون من ذوي الخبرة الكافية في نشر المعلومات الدقيقة بتكتم ولا يحتاجون لتدريب محدد".
وذكر أن "أجهزة الأمن في الفاتيكان تعتمد بشكل كبير على أجهزة الأمن الغربية التي لديها تاريخ طويل في تبادل المعلومات الاستخباراتية معها".
وأقامت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) علاقة قوية جدا مع يوحنا بولس الثاني، لا سيما لدعمهما المشترك للحركات المعادية للشيوعية والكاثوليكية في دول حلف "وارسو"، بينما عززت المخابرات السوفيتية في ذلك الوقت من محاولاتها للتسلل إلى الكرسي الرسولي.
جواسيس الفاتيكان
وورد في تحقيق بعنوان "جواسيس الفاتيكان" صدر في أبريل/ نيسان 2021 عن مؤسسة "إصدارات العالم الجديد" الفرنسية المتخصصة في توثيق تاريخ الكنيسة، عن معلومة شائعة لدى أجهزة مكافحة التجسس الإيطالية.
وجاء فيه أن "جناح اليمين للكرادلة قدم المعلومات لوكالة المخابرات المركزية (الأميركية)، فيما يخدم المركز المخابرات الفرنسية، أما اليسار فيعطي المعلومات للجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفييتي (كي جي بي)، لكن لا أحد منهم يعطي المعلومات للأجهزة الأمنية الإيطالية".
وذكر التحقيق أن "بنديكتوس السادس عشر قدم استثناء لهذه القاعدة، حيث ظل على اتصال مع دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، تماما كما فعل عندما كان لا يزال اسمه الكاردينال جوزيف راتزينجر، قبل انتخابه بابا للفاتيكان".
وأضاف "لطالما كان لدى المخابرات الفرنسية ضابط ارتباط مخصص مع العديد من القساوسة الفرنسيين المهتمين بالدبلوماسية، مثل جان ماري بنجامين الذي شارك بنشاط في العلاقة بين الفاتيكان والعراق، كما اعتمدت باريس لسنوات عديدة على الكاردينال المؤثر للغاية، جان لوي توران، لبناء علاقات مع الفاتيكان".
وتبرز اليوم العديد من الشخصيات المفوضة بالعمل الاستخباراتي من قبل البابا فرانسيس، فالحرس السويسري وفيلق الدرك في الفاتيكان برئاسة دومينيكو جياني كلاهما مسؤول عن الأمن داخل الفاتيكان، ومكلفان بمهام مكافحة التجسس والإرهاب رغم مواردهما المحدودة.
وبالنسبة للاستخبارات الأجنبية، يدير رئيس الأساقفة الدبلوماسي، بول ريتشارد غالاغر، قسم العلاقات مع الدول إلى جانب ميروسلاف واتشوفسكي بصفته وكيل الوزارة لشؤون العلاقات الثنائية مع الدول، بحسب تحقيق مؤسسة "إصدارات العالم الجديد" الفرنسية.
بدورها، تنقل شبكة "السفراء الرسوليين" أو سفراء الفاتيكان، المعلومات المستقاة من المسؤولين الأجانب إلى الفاتيكان كسائر السفارات في الدول الأخرى.
وتعتمد دولة الفاتيكان على خبراء الاستخبارات غير الرسميين (الأساقفة) الذين يتعاملون مع أكثر القضايا حساسية والتي يتدخل فيها البابا بشكل مباشر.
ومع ذلك، يمكن أن يحدث هؤلاء إشكالية حين يتعاظم تأثيرهم كما حصل مع الكاردينال أنجيلو بيكيو، المستشار المقرب للبابا سابقا والذي عزل من منصبه في سبتمبر/ أيلول 2020 للاشتباه في تورطه بعمليات اختلاس ولعلاقته مع الباحثة الإيطالية، سيسيليا ماروغنا، التي ادعت تشغيلها لشبكة استخبارات تتبع للفاتيكان.
وتُتهم ماروغنا بإهدار 575 ألف يورو تلقتها من الكاردينال على غرف الفنادق والسلع الفاخرة.
أدوار سرية
وكشفت فضيحة "ماروغنا" أساليب العمل المعقدة للفاتيكان، والتي تشمل العمل مع عملاء مدنيين ومتعاقدين استخباراتيين من القطاع الخاص.
وكانت ماروغنا آنذاك محللة سياسية شابة في شؤون إفريقيا والشرق الأوسط إلى أن اتصل بها الفاتيكان عام 2017 ليبدأ التعاون بينهما، فطلب تأسيس شركة اسمها (Logsic d.o.o) في سلوفينيا لإخفاء عمليات تحويل الأموال التي تتلقاها من الفاتيكان.
وكان عنوان الشركة عبارة عن مكتب مغلق بدون اسم وصندوق بريد مشترك مع مستخدمين آخرين.
لكن افتقار الكاردينال بيكيو وماروغنا لحسن التقدير كان سبب سقوطهما، ففي المحادثات الخاصة المنشورة تسجيلاتها في محاكمة بيكيو، تبين أن ماروغنا قدمت نفسها لمعارفها بصفة "رئيسة المخابرات السرية" في الفاتيكان.
واختيرت ماروغنا من قبل بيكيو لتكون مسؤولة الاتصال مع أجهزة المخابرات الإيطالية التي حافظ الفاتيكان دائما على اتصالاته معها.
ولطالما كان الفاتيكان هدفا للتجسس خاصة خلال الخلافة البابوية، فضلا عن كونه فاعلا في هذا المجال.
وتراقب مبادرات البابا الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم، وبشكل خاص من قبل واشنطن، التي تأخذ تأثير الكنيسة الكاثوليكية على محمل الجد.
وتجدد هذا الاهتمام مع انتخاب الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، حيث يتنافس مع فرانسيس على اللقب غير الرسمي لـ"أقوى كاثوليكي في العالم".
وفيما تحتدم الحرب الروسية على أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022، يركز الفاتيكان بشدة على العالم الروسي، وهو الدور الذي اعتاد عليه.
وخلال الحرب الباردة (1947-1991)، انحاز يوحنا بولس الثاني إلى حد كبير للمصالح الأميركية عبر شبكة قوية من المخبرين في الاتحاد السوفيتي وقدم دعمه لحركة "التضامن" البولندية، بينما اتخذ خليفته بنديكتوس السادس عشر موقفا أكثر اعتدالا.
وكان البابا الألماني بنديكتوس، من أشد المؤمنين بـ"أسرار فاطيما" التي ظهرت عام 1917، وتكشف أن "روسيا ستنجو من التهديد البلشفي وستلعب في النهاية دورا رائدا في انتصار المسيحية في العالم".
فرانسيس الواقعي
يتخذ فرانسيس مقاربة أكثر واقعية تجاه روسيا خاصة منذ غزوها لأوكرانيا، فتواصل مع الكنيسة الأرثوذكسية التي ترتبط ارتباطا مباشرا بالكرملين ومع حركة "المؤمنين القدامى".
ويهدف فرانسيس من خلال هذا النهج للحد من نفوذ أجهزة المخابرات الغربية التي تتطلع للبقاء على اطلاع على أنشطة الفاتيكان السرية كافة.
كما يحرص فرانسيس على لعب دور في الصراع الروسي الأوكراني رغم تراجع هذا الدور، لكن لا يزال يركز على الصين التي تعد أولوية رئيسية بالنسبة له.
ومنذ تنصيبه عام 2013، تعهد البابا فرانسيس بإعادة العلاقات مع بكين التي ظلت مجمدة منذ الحرب الباردة، دون تجاهل القضية التايوانية.
ويعمل وسيط الفاتيكان في الصين أكثر من أي وقت مضى مع بعض النتائج الملحوظة، ففي عام 2014 سمح الرئيس الصيني شي جين بينغ للبابا فرانسيس بالتحليق في المجال الجوي الصيني.
ونهاية عام 2016، وافق على ترسيم الأساقفة الصينيين، ويسعى البابا للتفاوض على توقيع اتفاقية لتطبيع العلاقات بين البلدين، رغم أن تفاصيل مثل هذه الاتفاقية لا تزال سرية.
لكنه قد لا يتمكن من الاستفادة من نجاح هذه الصفقة، فبالنسبة للفاتيكان تقاس الدبلوماسية بالقرون لا السنوات.
ومنذ فترة طويلة، كان الفاتيكان مرتعا للجواسيس، لكنه فقد بعض نفوذه بين وكالات الاستخبارات العالمية منذ إعادة تشكيل "معهد الأعمال الدينية" (IOR).
وتورط المعهد (وهو المؤسسة المالية شديدة السرية) في العديد من الفضائح التي جعلت من الفاتيكان "ملاذا ضريبيا" حتى عام 2014، ولذا كان المعهد الهدف الأول لفرانسيس حين تولى منصبه.
وقبل الإصلاحات التي أطلقها البابا، عرض "معهد الأعمال الدينية" على العملاء إمكانية فتح حسابات مجهولة تسهل لهم ولجميع الجواسيس من جميع أنحاء العالم "ملاذا آمنا" لاختلاس الأموال.
لكن إصلاحات فرانسيس جاءت في إطار تعزيز الشفافية والتوافق بشكل أفضل مع المعايير الدولية الناشئة، كما أنها أضعفت مؤسسة "حبرية الصليب المقدس" التي سيطرت من قبل على الفاتيكان حتى تنصيب فرانسيس.