عقلية الاستعمار لم تتغير.. هكذا اشترت فرنسا قيس سعيد وباعت التونسيين
مع مرور الأيام، يتأكد الشعب التونسي أن فرنسا صاحبة العقلية الاستعمارية الراسخة لم تكن قط صديقة لبلادهم حتى في أشد اللحظات التي تحتاج فيها دعما دوليا لحماية تجربتها الديمقراطية الفتية.
وفي أحدث صور تآمر فرنسا على ثورة التونسيين وآمالهم في التخلص من الديكتاتورية، كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علانية عن دعمه للرئيس الانقلابي قيس سعيد الذي يقاومه التونسيون لاستعادة ديمقراطيتهم.
وعلى هامش القمة الفرنكوفونية الأخيرة التي احتضنتها تونس، أعلن ماكرون دعمه للمسار الانقلابي الذي بدأه سعيد بحل المؤسسات المنتخبة في 25 يوليو/ تموز 2022، وتمرير دستور يرسخ ديكتاتوريته، لتتبقى الخطوة الأخيرة ممثلة في الانتخابات البرلمانية.
وشدد ماكرون في حوار أدلى به لقناة "تي في 5 موند" الفرنسية على "وجوب أن تنظم الانتخابات البرلمانية التونسية في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022" رغم معرفته أن غالبية القوى السياسية تقاطعها، زاعما أن "سعيّد أستاذ قانون كبير ومنتبه لذلك".
ويجري الإعداد للانتخابات التشريعية في تونس في ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة ودعت جلّ الأحزاب السياسية في البلاد إلى مقاطعتها، ما أثّر على عدد المترشحين الذين لم يتجاوزوا عشر عدد مرشحي آخر انتخابات تشريعية شهدتها البلاد عام 2019.
وتوالت بيانات ومواقف قوى المعارضة التونسية المنددة بتصريحات ماكرون، واتفقت على أنها "تدخل سافر في الشأن التونسي وتعادي طموحات التونسيين في نيل الحرية والديمقراطية".
دعم علني
وعقدت القمة الفرنكفونية يومي 18 و19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 بجزيرة جربة جنوب شرقي تونس، رغم تأجيلها لأسباب ظاهرية بحجة جائحة كورونا، وأخرى خفية على خلفية موقف عدد من الدول المؤثرة في قرار المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية ومن أهمها كندا.
الرئيس الفرنسي حسم موضوع إقامة القمة في تونس رغم ضغوط نظيره الكندي جاستن ترودو الذي أتى على مضض إلى جربة وكان من اللافت عدم عقد لقاء بينه وبين قيس سعيد، ولم ينشر على صفحة الرئاسة التونسية حتى خبر وصوله لتونس.
وشكل انعقاد القمة التي حضرها ممثلون لـ88 دولة نجاحا نسبيا للرئيس سعيد بعد قرابة 16 شهرا من بدء احتكاره السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية كافة في البلاد.
لكن ماكرون عمد على الظهور بصورة أكثر قربا ودعما للرئيس التونسي، الذي يعيش منذ الانقلاب، حالة قريبة من العزلة إلا من بعض اللقاءات على هامش اجتماعات إقليمية أو زيارات تعزية.
حيث أكد ماكرون في 18 نوفمبر لسعيد أن بلاده ستمنح قرضا قيمته 200 مليون يورو لتونس التي تمر بأزمة اقتصادية عميقة تفاقمت بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا.
كما أفاد بيان صادر عن الإليزيه أن "رئيس الجمهورية جدد دعم فرنسا لتونس والشعب التونسي في مواجهة التحديات التي تواجهها البلاد".
كذلك رحب الرئيس الفرنسي بـ"الحوار البنّاء والمفتوح بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي، على أمل أن يؤدي إلى اتفاق نهائي".
ولم تمرّ زيارة ماكرون لتونس حتى أدلى بتصريح عُدّ الأكثر وضوحا وصراحة في علاقة فرنسا بالأزمة السياسية في تونس وموقفها النهائي من المسار الذي يقوده قيس سعيد.
حيث قال ماكرون لقناة "تي في 5 موند"، إنه "يجب أن تقام انتخابات في تونس في الـ17 من الشهر القادم في إطار سلمي"، كما وصف ماكرون الرئيس سعيد بـ"الدستوري الكبير".
وأفاد بأنه "ليس على الرئيس الفرنسي أن يشرح للرئيس التونسي ما يجب فعله.. ولكن أنا قلت لسعيد إن صديقتك فرنسا موجودة لمرافقة التحول الذي تعيشه تونس".
انتقادات شديدة
تصريحات ماكرون أثارت موجة من الانتقادات من المعارضة التونسية، حيث اعتبرت الموقف عدائيا ضد الشعب التونسي وطموحاته في تحقيق الحرية والديمقراطية.
حيث عبرت جبهة الخلاص الوطني في بيان لها يوم 24 نوفمبر، عن رفضها القاطع لما ورد في تصريح الرئيس الفرنسي والذي يعتبر "مسًّا من الديمقراطية التونسية، وتعبيرًا عن مساندة تامة للمشروع السلطوي والأحادي لقيس سعيّد".
وأكدت الجبهة أن "هذا الموقف المقلق لا يعدو إلا أن يشجع الرئيس التونسي على مواصلة شن حملات التشويه والإيقافات والمحاكمات أمام القضاء العسكري ضد معارضيه استنادا إلى قوانين قمعية وسالبة للحرية وضعت على المقاس"، وفق وصفها.
كما وصفت حركة النهضة التصريحات الفرنسية بأنها "معادية للديمقراطية وداعمة للانقلاب"، وأكّدت في بيان لها يوم 25 نوفمبر، أن "هذا التصريح تدخل في الشأن التونسي ومعاد لطموحات التونسيين في الحرية والديمقراطية ومخالفا لقيم الثورة الفرنسية".
وذكرت أن "ماكرون بأن احترام طموحات الشعب التونسي وثورة الحرية والكرامة ومكاسبها هي التي تبني العلاقات المثمرة بين الشعبين التونسي والفرنسي".
كذلك استنكرت رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي تصريحات ماكرون التي عدتها "صادمة لكل تونسي يؤمن بأنه في دولة مستقلة ولكل تونسي غيور على السيادة الوطنية".
وأكدت في مؤتمر صحفي يوم 22 نوفمبر، أن حزبها توجه برسالة إلى الرئيس الفرنسي عبر سفارة بلاده في تونس، طلب من خلالها باريس تعديل موقفها حتى يكون متطابقا مع المواثيق والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها كل من فرنسا وتونس.
من الخفاء للعلن
لم يكن الموقف الفرنسي مفاجئا للعديد من المتابعين للشأن التونسي، خاصة أن فرنسا الرسمية لم تكن راضية لتصدر التيار الإسلامي في تونس ممثلا في حركة النهضة للمشهد السياسي بعد العام 2011.
فقبل إعلان قيس سعيد عن قراراته وتحديدا يوم 23 يوليو2021، قال في تصريح على هامش استقباله وفدا فرنسيا أتى لتقديم المساعدات الطبية لمواجهة جائحة كورونا، إنه بصدد اتخاذ بعض الإجراءات. ملمِّحا إلى أنها ستُنفَّذ بموافقة ضمنية من طرف إقليمي فاعل، ما جعل عددا من المراقبين يتكهَّنون بأن هذا الطرف ليس سوى فرنسا.
وبعد إعلان قيس سعيد في 25 يوليو عن "إجراءات استثنائية" بحلِّ البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وإقالة رئيس الحكومة والاستحواذ على عدد من السلطات، وفق تأويله للمادة 80 من الدستور التونسي، تميّز الموقف الفرنسي بالحذر وعدم الوضوح.
لكن وبعد أيام قليلة أكّد ماكرون لسعيد في مكالمة هاتفية بينهما في 7 أغسطس/ آب 2021 أن "فرنسا تقف إلى جانب تونس والشعب التونسي في هذه اللحظة الحاسمة من أجل سيادتها وحريتها".
وأعرب ماكرون عن رغبته في أن تتمكن تونس بسرعة من الاستجابة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تواجهها، كما جاء في بيان الإليزيه.
وهو ما يذكر بالموقف الفرنسي إبان الثورة التونسية في العام 2011، حينما اقترحت وزيرة الدفاع ميشال أليو ماري التبرع لنظام زين العابدين بن علي بدعم لوجستي تقني لمواجهة الحراك الثوري.
وفي قراءته للمشهد، عد عضو الهيئة التنفيذية لحراك "مواطنون ضد الانقلاب" أحمد الغيلوفي، أن "فرنسا مازالت تتعامل على عكس الدول الاستعمارية القديمة بمنطق الاستعمار، بخلاف بريطانيا التي دخلت بعد الحرب العالمية الثانية في فكرة الكومنولث أي الثروة لجميع وأقامت هذا الكيان السياسي مع مستعمراتها القديمة".
وأضاف لـ"الاستقلال" أن "تدخل فرنسا في إفريقيا لا يحتاج ذكاء كبيرا أو معرفة عميقة بالتاريخ، فهي من دعمت الحبيب بورقيبة في صراعه مع صالح بن يوسف وهي من نصبت الحسن الثاني في المغرب بعد الموت المستراب للملك محمد الخامس".
وتابع: "وهي كذلك من انقلبت على (رئيس بوركينا فاسو السابق) توماس سنكارا وقتلته، وكذلك تدخلت في ليبيا عسكريا وساهمت في قتل معمر القذافي لاسترجاع مصالحها في الجنوب الليبي، وما فعلته فرنسا في تشاد كذلك بتنفيذ انقلاب بعد وفاة الرئيس إدريس دبي من أجل تنصيب ابنه بحضور ماكرون".
وشدد الغيلوفي على أن "فرنسا لا تريد ديمقراطية في أي بلد في المنطقة العربية والإفريقية، لأنها تعرف أنها خاسرة والخاسر الوحيد لأن نخبتها الفرنكفونية غير قادرة على المنافسة عبر صناديق الاقتراع لذلك تتمسك بأي انقلاب تأتي به الأقدار أو تأتي به المخابرات الفرنسية ".
الناشط السياسي التونسي أكد ايضا أن "لسعيد علاقة غامضة بفرنسا وأنا أعتقد أن فرنسا وروسيا كلاهما وراء الانقلاب ، ورأينا قيس سعيّد ذهب إلى باريس وصرّح بأن الوجود الفرنسي في تونس يعد حماية لا احتلالا، وتابعنا جميعا تصريحات أمين عام اتحاد الشغل بأنه التقى بالسفير الفرنسي 7 مرات متتالية منذ الانقلاب".
وعلق الغيلوفي على تصريح ماكرون الذي رأى أنه "لا تعنيه الديمقراطية، ولا حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحتى حقوق الأقليات، وما قام به قيس سعيد انقلاب سافر بشهادة كل العالم،وإن كانت فرنسا تعد تدمير مجلس نواب منتخبا وهيئة مستقلة للانتخابات وحل المجلس الأعلى للقضاء تحول كبير فهذا يعني أن فرنسا أصبحت دولة مارقة تدعم الانقلابات".
ويرى متابعون أن الأحداث التي شهدتها تونس تعد الفرصة الإستراتيجية التي ينبغي اقتناصها لإعادة التموقع في شمال القارّة الإفريقية، مع عدم اهتمام فرنسا الواضح للعيان بدعم التمشّي الديمقراطي في تونس منذ أيّامه الأولى.
ويأتي هذا المتغيّر في ظل تراجع ملحوظ للدور الفرنسي في ليبيا إثر الاتفاق السياسي الأخير الذي رعته الأمم المتّحدة وتمدُّد النفوذ الروسي في منطقة الساحل الإفريقي الذي يُعدّ ضمن الدائرة التقليدية للفرنسيين.