"عدوة المهاجرين".. هكذا تهدد المصريين الناجين من مراكب الموت بالمتوسط

12

طباعة

مشاركة

في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر، تزايدت بشكل لافت عمليات الهجرة غير النظامية إلى إيطاليا، عبر ما يسمى بـ"مراكب الموت"، التي تتوجه حاملة رجالا ونساء وقصرا وأطفالا من شرق وغرب ليبيا إلى سواحل جنوب إيطاليا.

ومن بين 93 ألفا و629 مهاجرا وصلوا إيطاليا في 2022، يشكل المصريون أكبر مجموعة إفريقية بنحو 19 ألفا و113 مهاجرا، وبأكثر من ثلاثة أضعاف عدد الوافدين المصريين بحلول هذا الوقت من 2021، وفق ما نقلته "التايمز" عن المرصد الأوروبي "يوروستات".

الصحيفة البريطانية، نشرت في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، تقريرا بشأن هجرة المصريين غير النظامية، قالت فيه إن "مهربي البشر يقومون بملء قوارب الصيد بنحو 600 مصري بخلجان مخفية قرب طبرق الليبية، ويوجهونهم نحو إيطاليا".

وقالت: "لطالما أرسل الآباء المصريون أطفالهم إلى إيطاليا"، لافتة إلى أن "القانون الإيطالي يمنع إعادة القصّر غير المصحوبين بذويهم إلى أوطانهم"، ما يعد فرصة لأولئك القصر للحصول على إقامة دائمة هناك، بحسب مصريين مقيمين بإيطاليا.

رحلة الموت

"الاستقلال" تعرفت على تجارب بعض أهالي قرى محافظة الشرقية المعروفة بكثرة هجرتها غير النظامية مثل "دهمشا"، و"كفر دهمشا"، التابعتين لمدينة مشتول السوق، و"ميت سهيل"، و"السرايا"، التابعتين لمركز منيا القمح، و"ميت جابر" التابعة لبلبيس.

يقول "حمادة ف" (35 عاما): "البداية كانت من مونديال إيطاليا 1990، فمنذ ذلك الحين عرف شباب كل تلك القرى وغيرها الطريق نحو أوروبا وخاصة إيطاليا".

وأضاف لـ"الاستقلال": "ولأن الجيل الأول منهم عاد سريعا ليشتري الأراضي ويبني العقارات ويتزوج أجمل النساء، صارت إيطاليا حلم جميع الشباب". 

وأكد أن "الكثيرين من أبناء قريتي والمنطقة ماتوا غرقا بالبحر المتوسط، ولا أنسى مشهد جنازات 15 شابا من قرية دهمشا، و7 من قرية ميت سهيل يوم عيد الأضحى قبل نحو 25 عاما".

"حينها بكى الناس جميعا، وقرروا عدم سفر أبنائهم بالبحر، ولكنهم مع الأيام نسوا الواقعة، وواصلوا إرسال أبنائهم إما للموت أو للثراء"، يضيف حمادة.

موت المصريين غرقا بالبحر المتوسط صار مشهدا متكررا، كان منه في سبتمبر/ أيلول 2022، بغرق اثنين وفقد 19 آخرين وإنقاذ 6 انقلب بهم قارب كان يحمل 26 مصريا ركبوا البحر من ليبيا.

وأضاف حمادة، أن "الكثير من البيوت خاوية من الشباب الآن، فالكل يتسابق للسفر، ومن يملك المال يحصل على تأشيرة (شينغن)، والفقراء يبيعون ممتلكاتهم وذهب نسائهم وحتى حيواناتهم أو أراضي كانوا يقتاتون عليها للسفر عن طريق ليبيا".

وذكرت المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أنه كان هناك 117 ألفا و156 مهاجرا مصريا بليبيا بين ديسمبر/ كانون الأول 2021 ويناير/ كانون الثاني 2022، إما بغرض العمل بليبيا أو السفر لأوروبا.

وأوضح حمادة، أنه شخصيا حاول السفر عبر البحر مرتين، فشل في أولهما خلال 2021، في اجتياز الحدود المصرية وجرى توقيفه، وترحيله إلى مركز قريته.

ليحاول مرة ثانية، مطلع 2022، وينجح في اختراق الحدود ثم يقع في يد عصابات طلبت منه ومن العشرات معه فدية 30 ألف جنيه نحو (1800 دولار) حينها، أكد أنه دفعها لينجو من الموت.

وقال: "كانت خسارتي بكل مرة تصل 100 ألف جنيه، (نحو 6 آلاف دولار حينها)"، مبينا أنه تواصل خلال رحلتيه مع أحد المهربين، وأرسل له شقيقيه (32، و30 عاما) وابنه (15 عاما) -قاصر يدرس بالمدرسة الثانوية الصناعية- ونجح في توصيل ثلاثتهم لإيطاليا سبتمبر/ أيلول 2022.

وعبر عن سعادته الكبيرة بهذا الإنجاز، موضحا أن نجله "تم إلحاقه بمدرسة إيطالية، وحصل على إقامة مؤقتة كونه قاصرا، بينما تقدم أخواه بطلب للحصول على الإقامة الإنسانية".

وأوضح أن "الأهم لديهم الآن هو فرصة العمل لا الإقامة، خاصة أن كل فرد منهم تكلف نحو 130 ألف جنيه، (نحو 5 آلاف دولار بالسعر الجديد للدولار مقابل الجنيه)".

ورغم فرحة حمادة، إلا أنه أكد أن "البيت لا يخلو من الحزن على فراق ابني، وزوجتي لا تكف عن البكاء على غياب صغيرها، رغم أنه يحادثها يوميا عبر الهاتف، ويرسل لها صوره بملابس أنيقة في أماكن لم يكن يحلم برؤيتها".

عقبات كبيرة

هجرة القصر، وهو الأمر الذي تحدث عنه الصحفي والناشط المتابع لهذا الملف بأحد المواقع الصحفية الحكومية المصرية، (أيمن ع)، مؤكدا لـ"الاستقلال"، أن "نسبة من المهاجرين المصريين أطفال قصر، وأغلبهم متسرب من التعليم، أو أكمل مرحلة التعليم الفني".

وأضاف مفضلا عدم ذكر اسمه كاملا: "يلقي بهم الفقر والأوضاع الاقتصادية الصعبة في عهد رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، وحاجة ذويهم للمال إلى التسلل عبر الحدود المصرية الليبية عبر صحراء قاحلة ومرتفعات وعرة، أدت خلال سنوات لمقتل العديد منهم".

وأكد أنهم "إن نجوا من توقيف الأمن المصري أو الأمن الليبي لهم على الحدود، فإنهم على الأغلب يقعون في يد مليشيات مسلحة وتجار البشر الذين يحتجزونهم ويسطون على أموالهم".

وواصل وصف الأزمة بالقول: "وإن تعدى المهاجرون المصريون وخاصة الأطفال كل تلك المخاطر، فإنهم يواجهون الجوع وانقطاع الاتصال بذويهم في أحواش ليبية غير آدمية قرب البحر بشرق وغرب ليبيا؛ حتى يتم وضعهم بالمئات في مراكب صغيرة لغرق الكثيرون منهم في البحر المتوسط".

إلا أن الخطر الأكبر الحالي وفق الصحفي المصري، هو "تغير السياسات الإيطالية بتولي الحكومة اليمينية المتطرفة لرئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، التي قررت تعطيل عمل مواقع (الصليب الأحمر) في جنوب إيطاليا، ورفض استقبال المراكب التي تحمل المهاجرين، وإبعادها عن الحدود الإيطالية".

وهو ما أشار إليه مصريون مقيمون منذ عقود في مدينة "ميلان" أكبر تجمع للمهاجرين بالشمال الإيطالي، مؤكدين لـ"الاستقلال"، أن من ينجو من الموت بالبحر المتوسط ويصل إلى المدينة وضواحيها، تقابلهم الآن أزمات معيشية كبيرة لم تكن موجودة من قبل".

"لا يجدون مكانا للسكن، الذي يتكدس فيه المصريون (من 10 إلى 15 فردا بالشقة الواحدة -حجرة وصالة-)، بينما يوجد البعض الآن، دون سكن ويفترشون الميادين وتحت الكباري، ما يعرضهم للوقوع ضحية عصابات المافيا".

وفق وصف وقول "إبراهيم"، (45 عاما) أحد المصريين المقيمين وأسرته بميلانو منذ أكثر من عقدين.

وأشار إلى أنه "بالسابق، كانت الشقق التي يمتلكها المصريون قادرة على استيعاب أي من المهاجرين، وكان المقيمون الدائمون بإقامات رسمية يوفرون حاضنة جيدة للمهاجرين من حيث توفير السكن والطعام والملابس لفترة وكذلك العمل".

وأوضح أن "هذه أمور يصعب تحقيقها الآن، مع كثرة أعداد المهاجرين القادمين بالعشرات يوميا"، معتقدا أن حلمهم في الهروب من الفقر وتحقيق الثراء لهم والكفاية لذويهم يصطدم بأزمات كبيرة".

فرص قليلة

"محمود"، (35 عاما) مصري مقيم في ميلانو منذ 2005، نجح في إنشاء شركة للتشييد والبناء، قال لـ"الاستقلال": "كنا نفتح شققنا أمام الوافدين من مصر، ونوفر لهم فرص عمل بشكل سريع كي يتمكنوا من سداد نفقات رحلتهم التي تكون على الأغلب بالدين أو بيع الممتلكات".

 لكنه أكد أن "فرصهم في العمل أصبحت قليلة الآن مع توجهات وسياسات ميلوني، والتي تفرض قيودا على أصحاب العمل الذين يتخوفون من تشغيل أي مهاجر".

وكصاحب شركة ومصري أكد أنه شخصيا لن يغامر بتشغيل مهاجر بلا أوراق ويهدد مستقبله ويعرض شركته لأزمات مع الحكومة.

ولفت إلى أن "خطورة الأمر تتمثل في توقيع غرامات مالية كبيرة على أي شركة، وقد يكون الترحيل مصير العامل غير القانوني".

ووفق إحصاء تعداد مصر عام 2017، فإن هناك نحو 1.2 مليون مصري مقيم بدول أوروبا ما يعادل 13 بالمئة من إجمالي عدد المصريين في الخارج، منهم 560 ألف مصري مقيم بإيطاليا بنحو 44.8 بالمئة من عدد المصريين في أوروبا.

وهو العدد الذي يقل بكثير عن واقع عدد المصريين الفعلي بإيطاليا، وفق تأكيد، "إبراهيم"، و"محمود".

ولفتا معا إلى "أزمة أخرى تسببت بها الحرب الروسية الأوكرانية -اندلعت 24 فبراير/ شباط 2022- للمهاجرين المصريين الذين كان من حقهم طلب اللجوء الإنساني، والحصول على إقامة دائمة لاقحا".

وأكدا أن "تدفق الكثير من المهاجرين الأوكرانيين إلى إيطاليا أغلق هذا الباب على المصريين وأصبح من حق الأوكرانيين أولا".

 (أسامة)، (30) عاما، أحد المصريين المهاجرين إلى إيطاليا قبل شهور، قال لـ"الاستقلال": "حصلت على الإقامة الإنسانية، قبل الحرب الروسية، بـ6 شهور، ويجرى الآن نظر تجديدها في محكمة مختصة بهذا الشأن".

وأوضح أنه "منذ اندلاع الحرب يفترش عشرات المصريين الشوارع أمام الكوستورا بمعظم أحياء ميلانو وضواحيها طلبا لموعد للتقديم، حيث إن الأولوية للأوكرانيين".

"عدوة المهاجرين"

حديث المصريين المقيمين في ميلانو عن الصعوبات التي تنتظر المهاجرين المصريين، في ظل الحكومة اليمينية الجديدة، تتلاقى كثيرا مع سياسات جورجيا ميلوني وتوجهاتها المتطرفة.

ميلوني، (45 عاما) زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" اليميني الفائزة بالانتخابات التشريعية الإيطالية نهاية سبتمبر/ أيلول 2022، لتقود إحدى الدول الصناعية الثمانية الكبرى؛ توصف بأنها "عدوة المهاجرين".

تعهدت المرأة القوية، أمام مجلس النواب الإيطالي قبيل التصويت على نيل الثقة بحكومتها بعدم دخول المهاجرين إلى إيطاليا بشكل غير قانوني، وفق ما نقلته وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

وتعهدت أيضا، بتنفيذ حصار بحري لمنع مراكب الهجرة من شمال إفريقيا، وكسر نشاط الاتجار بالبشر بالبحر المتوسط، محذرة من أنه خلال 2022، قطع أكثر من 77 ألف شخص رحلة العبور الوعرة لإيطاليا.

كما وعدت شعبها بتقليل ضغوط المهاجرين على المجتمع الإيطالي، فيما هدد وزير داخليتها ماتيو بيانتيدوسي، بمنع زوارق الإنقاذ من الرسو بالموانئ الإيطالية.

لم تكترث ميلوني، بتحذير جميعة "ألارم فون" غير الحكومية التي تساعد المهاجرين، وإعلانها في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أن 1350 مهاجرا، بينهم أطفال ونساء، جرفت مركبيهما المياه بمضيق صقلية. 

بل إنها مع التدفقات الكثيفة للمهاجرين من ليبيا، جاءت آخر توجهات ميلوني، لوقف سيل الهجرة غير النظامية في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بتعبئة دبلوماسية أوروبية، وخطة عاجلة تقدمها للاتحاد الأوروبي ببروكسل.

وحسب بيانات المرصد الأوروبي "يوروستات" فإن عدد المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا السواحل الإيطالية بالأسابيع الثلاثة الأولى من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، تجاوز 15 ألفا، ثلثا هذا العدد جاء من السواحل الشرقية الليبية، ما أحرج حكومة ميلوني.

وذكر مكتب الإحصاء الوطني الإيطالي، في يناير/ كانون الثاني 2022، أن هناك نحو 5.2 ملايين مقيم أجنبي بإيطاليا، بنسبة 8.7 بالمئة من 59 مليون نسمة، عدد سكان إيطاليا.

حصيلة مؤلمة

وبشأن نسب الهجرة غير النظامية في السنوات الأخيرة خلال عهد السيسي، قال رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر" الباحث مصطفى خضري: "لم تكن الهجرة غير النظامية وليدة اليوم أو الأمس؛ وإنما هي نتاج أزمات اقتصادية متتالية بدأت منذ الثمانينيات".

الخبير في التحليل المعلوماتي وقياس الرأي العام، أضاف لـ"الاستقلال": "ولكن برغم ذلك فإن معدلات الهجرة غير النظامية ازدادت منذ 2013، بنسبة كبيرة".

 وتبعا لإحصاءات "تكامل مصر"، فإن "متوسط الهجرة غير النظامية من مصر ارتفع لـ94 ألفا و200 عام 2021.

وكذبت وثيقة أوروبية صادرة عن مفوضية الاتحاد الأوروبي بتاريخ 15 يونيو/ حزيران 2022، مزاعم السيسي بشأن عدم سماح السلطات للهجرة غير النظامية إلى جنوب أوروبا.

وكشفت الوثيقة التي أماطت اللثام عنها صحيفة "EUobserver"، أن أكثر من 3500 مصريا فروا من البلاد عن طريق القوارب في الأشهر الخمسة الأولى من 2022 انتهى الأمر بجميعهم تقريبا في إيطاليا.

ويرى خضري أن لارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية في مصر، ثلاثة أسباب، "أولها: الوضع الاقتصادي، إذ أظهرت مؤشرات (تكامل مصر)، أن 92 بالمئة من المهاجرين غير النظاميين كانوا لأسباب اقتصادية".

"السبب الثاني، يتعلق بالوضع السياسي، إذ إن 3 بالمئة من المهاجرين غير النظاميين كانوا لأسباب سياسية"، وفق مؤشرات المركز المصري.

ولفت إلى أن "السبب الثالث يرجع لأسباب جنائية بنسبة 5 بالمئة، حيث يسعى الكثير من المحكومين بأحكام جنائية للهجرة غير النظامية حتى تسقط محكوميتهم ومعظم هؤلاء يذهبون إلى ليبيا أو السودان".

 وعن هروب المصريين من الفقر والقمع إلى الموت عبر مراكب الموت أو إلى المجهول في ظل سيطرة اليمين المتطرف على بعض الدول الأوروبية وبينها إيطاليا، قال خضري، إن "النسبة الكبرى من المهاجريين غير النظاميين لا ينظرون إلى المخاطر بقدر نظرتهم للمكاسب المحتملة".

ويعتقد أنه "حتى مع سيطرة اليمين الأوروبي فلن تتوقف الهجرة غير النظامية، فأي وضع سياسي أو اقتصادي في أوروبا أفضل من وجهة نظرهم من الوضع في مصر".