صدى جرجيس.. هكذا غطى القمع الأمني بريق القمة الفرنكوفونية بتونس
مع توالي الوفود إلى جزيرة جربة جنوب شرقي تونس لحضور القمة الفرنكوفونية في 18 و19 نوفمبر/تشرين الثاني، قمعت قوات الأمن التونسي مسيرة لأهالي مدينة جرجيس كانت في طريقها إلى ذلك المكان.
وعمل الأهالي على إيصال أصواتهم بعد فاجعة فقدان أبنائهم في هجرة غير نظامية في سبتمبر/أيلول 2022، وما أحاط بها من ملابسات، عدوها تقصيرا من مؤسسات الدولة.
وحاول الأهالي الوصول والتظاهر قبالة مقر انعقاد القمة الفرنكوفونية، بعد رفض الرئيس قيس سعيد الذهاب لمدينة جرجيس وإرسال وزير الداخلية توفيق شرف الدين أو أحد مستشاريه للقاء ممثلي أهالي وعائلات المفقودين مما ضاعف من غضبهم.
ووجه سعيد كالعادة اتهامات لأطراف قال إنها تحاول إفشال القمة التي تحتضنها تونس. ولا يفصل بين جزيرة جربة مقر انعقاد القمة الفرنكوفونية ومدينة جرجيس التي تشهد احتجاجات منذ أسابيع سوى جسر بطول 7 كيلو مترات.
وانطلقت الدورة الـ18 للقمة الفرنكوفونية بمشاركة 31 رئيس دولة وحكومة، تحت شعار "التواصل في إطار التنوع: التكنولوجيا الرقمية كرافد للتنمية والتضامن في الفضاء الفرنكوفوني".
وشارك في القمة 89 دولة، منها 31 رئيس دولة وحكومة و5 نواب (رؤساء وزراء) وعدد كبير من وزراء الخارجية والوزراء المكلفين بالفرنكوفونية إضافة لسفراء وممثلين عن منظمات دولية وإقليمية.
ومنذ عام 1986، تجتمع قمة الفرنكوفونية كل عامين على مستوى رؤساء الدول والحكومات الناطقة باللغة الفرنسية والمنضوية في المنظمة.
ويوجد مقر المنظمة في باريس وتضم 88 دولة وتتمثل مهامها الرئيسة في تعزيز اللغة الفرنسية والتنوع الثقافي واللغوي والسلام والديموقراطية وحقوق الإنسان ودعم التعليم.
قمع شديد
ومنذ الساعات الأولى لفجر 18 نوفمبر، تمركزت قوات أمنية ضخمة في مفترقات الطرق الرابطة بين جرجيس وجربة.
هذه القوات التي جرى حشدها من مناطق عدة من تونس، قمعت الاحتجاج السلمي الذي قرر أهالي جرجيس تنظيمه لإيصال أصواتهم المطالبة بكشف الحقيقة في فاجعة غرق المركب.
لم يسلم من هراوات الأمن الكبار والصغار وجرى استعمال قنابل مسيلة للدموع منتهية الصلاحية استهدفت النساء والأطفال الذين لجأوا إلى غابات الزيتون المجاورة للطريق.
كما أوقف العشرات من الشباب وقادة الحراك الاحتجاجي من بينهم الناشط الحقوقي علي كنيس والمصور الصحفي عز الدين مسلم.
وبحسب المحتجين، فقد جرى مقايضتهم بعودة الأهالي إلى جرجيس والعدول عن مواصلة الطريق نحو جربة مقابل إطلاق سراح الموقوفين.
وكان الناشط المدني علي كنيس قد أكد، في تدوينة نشرها قبيل اعتقاله، أنه جرى "استعمال الغاز والقوة ضد المسيرة والاعتداء على النساء والأطفال"، معقبا بالقول: "جريمة الدولة مستمرة"، وفق تعبيره.
كما قال كنيس، في تصريح لإذاعة الديوان (محلية)، إن المتظاهرين كانوا متجمعين بشكل سلمي على مستوى مفترق طرق الزيتون قبل الجسر المؤدي إلى جربة".
وأردف أنه جرى إطلاق الغاز المسيل للدموع على عائلات المفقودين والنساء والأطفال فضلا عن استعمال العنف تجاههم رغم سلمية التحرك الاحتجاجي الذي ينفذونه.
وانتقلت الاحتجاجات من الطريق الرابط بين مدينة جرجيس وجربة، إلى أحياء وسط المدينة.
وتداول الناشطون عشرات المقاطع المصورة لمواجهات بين الشباب المحتج وقوات الأمن ونداءات استغاثة للأهالي بسبب إصابتهم بالاختناق نتيجة الاستعمال المفرط للغاز المسيل للدموع ووصوله إلى داخل المنازل.
شبه عزلة
وغطت الأحداث التي شهدتها مدينة جرجيس على أعمال افتتاح القمة الفرنكوفونية والتي استمر الإعداد لها لأكثر من سنتين بعد تأجيلها بسبب جائحة كورونا كما أُعلن رسميا.
ولكن أيضا بسبب تردد بعض الدول بشأن عقدها في تونس، نتيجة الأوضاع السياسية التي لقيت انتقادات من عدد من الشخصيات الفاعلة في الفضاء الفرنكوفوني، وهو ما ألقى بظلاله على أعمال هذه الدورة.
وقمة الفرنكوفونية الـ18 كان مقررا عقدها في تونس بنوفمبر 2021، لكن تقرر تأجيلها لمدة عام، "من أجل السماح للبلاد بأن تكون قادرة على تنظيم هذا اللقاء المهم في أفضل الظروف"، بحسب بيانين صدرا آنذاك عن المنظمة الدولية للفرنكوفونية والخارجية التونسية.
ويواجه سعيد شبه عزلة خارجية، إذ لم ينفذ سوى زيارة رسمية واحدة للجزائر فيما كانت أغلب تنقلاته إما للقمة العربية، أو لقاءات متعددة الأطراف، أو زيارات تعزية، كما لم يزر تونس أي من قادة العالم منذ انقلاب 25 يوليو/تموز 2021.
وفي ذلك التاريخ، حل سعيد الحكومة وأتبعها بالبرلمان وجمع كل السلطات بيده. وترفض قوى سياسية واجتماعية إجراءات سعيد الاستثنائية وتعدها "انقلابا على الدستور"، بينما تؤيدها قوى أخرى ترى فيها "تصحيحًا لمسار ثورة 2011" التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وقال سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات، إن إجراءاته هي "تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة من خطر داهم"، وشدد على عدم المساس بالحريات والحقوق.
وانتقد معارضون في مقدمتهم جبهة الخلاص الوطني ما عدوه محاولة السلطة التسويق لإقامة قمة الفرنكوفونية على أنه نجاح في وقت لا تزال تعتمد على المقاربة القمعية كوسيلة وحيدة لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة ومن بينها ملف ضحايا الهجرة غير النظامية.
في نفس السياق، ندّدت 31 منظمة وجمعية بما عدته ممارسات قمعية تجاه التحركات السلمية لأهالي جرجيس.
وبينت أن "تلك الممارسات القمعية تأتي بعد مرور أيام على الاستعراض الدوري الشامل حول حقوق الإنسان وتأكيد الحكومة على احترامها واحترام الحق في التعبير والاحتجاج السلمي وتسبق الفعاليات الرسمية للقمة الفرانكوفونية".
وعبرت المنظمات خلال بيان في 19 نوفمبر عن "سخطها إزاء القمع الأمني لمسيرة احتجاجية سلمية لم يكن هدفها سوى إيصال أصوات العائلات المكلومة".
وما أكد هذه الانتقادات حديث قيس سعيد، مساء 18 نوفمبر، خلال زيارته للقرية التونسية للفرنكوفونية في جزيرة جربة، قبل يوم من انطلاق القمة قائلا "صبرا قليلا يا أهل جرجيس"، مضيفا "أعتبرهم من الشهداء لأنهم ضحايا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية".
واستدرك القول "لكن هناك من يعمل من أجل مآرب أخرى.. من يريد أن يُتاجر ببؤس ومصائب وأحزان المواطنين ليصل إلى مآرب سياسية يعلمها الجميع فلن يصل إليها".
الأوضاع إلى أين؟
هذا الخطاب الذي أصبح مكررا على لسان قيس سعيّد منذ وصوله للرئاسة بتوجيه الاتهامات لخصومه السياسيين، لم يعد مقنعا لجزء كبير من المجتمع ومنظماته المدنية والسياسية.
ففي تصريح لإذاعة الديوان المحلية قال الكاتب العام للاتحاد المحلي للشغل بجرجيس هادي الحميدي، في 18 نوفمبر "كيف تتركنا لمدة تناهز 60 يوما في هذه الحيرة؟ صبرنا قد ينفد، ونأمل أن تأتي قبل أن ينفد لأن ما حصل ضاعف إحساسنا بـ"الحقرة" (التهميش)"، وفق تعبيره.
وقد عقد الاتحاد المحلي للشغل بجرجيس في 19 نوفمبر اجتماعا عاجلا لهيئته الإدارية قرّر في نهايته إعلان الإضراب العام يومي 24 و25 من نفس الشهر.
كما دعت عدد من المنظمات والناشطين السياسيين والحقوقيين لوقفة احتجاجية بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس مساندة لمطالب أهالي جرجيس في 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2022.
وفي حديث لـ"الاستقلال"، قال الناشط الحقوقي علي كنيس "مطلبنا الوحيد لأهالي جرجيس هو الحقيقة والعدالة، بكشف جثامين شهداء وشهيدات مفقودي الكرامة وملاحقة مرتكبي جرائم الدفن خارج إطار القانون، بعد اكتشافنا لأربعة جثامين دفنت دون تشريح وتحليل جيني وإعلام الأهالي".
وأردف: "اكتشفنا من بعد أن الجثامين للشباب الذين فقدوا في عرض البحر، وهو ما ضاعف شكوكنا بأن هناك جريمة ارتكبت بحقهم ومن ارتكبها يسعى إلى إخفاء جريمته".
وأضاف "صحيح أنه جرى تكليف إنابة عدلية لاستكمال الأبحاث ولكن لحد الآن لم نر حقائق جديدة سوى استعمال العنف بقوة ورشق المدارس وبيوت الآمنين بقنابل الغاز واعتقال العشرات من الشباب".
وأكّد الناشط الحقوقي التونسي "الآن في صورة أن الدولة تمتلك معطيات جديدة فنحن في انتظار أن نسمعها، نحن صبرنا لأكثر من 60 يوما وكنا في الشارع ولكن سياسة السلطة لم تتغير وإلى الآن لا يوجد سوى كلام ننتظر أن يلحق بأفعال حتى يكون ذا جدوى".
وأضاف "الآن نتجه إلى إضراب عام بيومين، بنفس المطالب التي رفعناها في إضراب 18 أكتوبر 2022، والتي لم يستجب لها، وهي كشف الحقيقة وإيجاد الجثث ومجلس وزاري خاص بمدينة جرجيس".
إذ جرى بعده الاتفاق على زيارة وزير الداخلية لجرجيس بشرط أن يقدم حقائق حول ملابسات الواقعة ويقدم موعد مجلس وزاري خاص بالمدينة.
لكن ألغيت الزيارة في آخر ساعة دون أي مبررات مما دفعنا للتوجه نحو خيار المسيرة في اتجاه جربة، وفق قوله.
وشدد على كنيس على أن تحرك الأهالي مدني وليس به أي أهداف سياسية "ولن نسمح بأن يكون قنطرة لأي أغراض أخرى سوى تحقيق المطالب التي رفعناها".