دويتشه فيله.. "صوت ألمانيا" المعادي للفلسطينيين المؤيد للصهيونية

عالي عبداتي | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

لم يكن عامة الناس يتخيلون أن أوروبا، بما توصف به من أنها أرض الحقوق والحريات، يمكن أن يضيق صدرها بتدوينة يكتبها صحفي عبر فيسبوك أو تغريدة في تويتر، تعكس شيئا من شعوره الخاص، حول قضايا الإنسان في العالم.

لكن الخيال تحول إلى واقع، بعد أن فصل موقع إذاعة صوت ألمانيا "دويتشه فيله" المملوك للدولة عددا من الصحفيين وأنهى عملهم، بذريعة معاداة السامية.

غير أن هذه المبررات لم تكن قانونية، وهذا ما قضت به محكمة العمل الألمانية في 5 سبتمبر/أيلول 2022، في قضية الإعلامية فرح مرقة.

ونشرت الأخيرة تدوينة عبر صفحتها بفيسبوك، تقول فيها إن المحكمة أصدرت حكمها القائل بأن إنهاء مؤسسة دويتشة فيله لعملها كان بغير مبرر قانوني.

وسبق لمرقة أن طالبت مجلس حقوق الإنسان ببذل الجهود الممكنة كافة لوقف الإجراءات التعسفية التي يتعرض لها الصحافيون العرب، وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير.

تهمة ملفقة

‏وقالت "مرقة" في كلمة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الـ 49، ألقتها بالنيابة عن ‎المرصد الأورومتوسطي، 29 مارس/آذار 2022، إن حملة التشهير التي نفذتها الصحافة الألمانية لم يكن لها هدف سوى تشويه صورة الصحافيين العرب ووصمهم بتهم تشمل الحقد ومعاداة السامية.

وبالتهمة نفسها، فصلت "دويتشة فيله" الصحفية الفلسطينية مرام سالم، وذلك بعد أن نشر صحفي ألماني تقريرا اتهمها فيه بـ "معاداة السامية" و"إسرائيل" على خلفية منشورات على حسابها في "فيسبوك".

قرار الفصل لم يتوقف عند سالم، بل شمل أيضا على خلفية الاتهامات بـ "معاداة السامية" ثلاثة صحافيين آخرين هم: باسل العريضي، وداوود إبراهيم، ومرهف محمود.

 وذكرت سالم في منشور على حسابها في "فيسبوك" "أن البوست الخاص الذي نشرته سابقا لم يكن يحتوي أي تعبير معاد للسامية، ولم يذكر إسرائيل، تحدثت فيه عن حرية التعبير في أوروبا فقط.

وعرضت سالم نص منشورها السابق والذي جاء فيه: "حرية التعبير وإبداء الرأي في أوروبا وهم، خطوط حمر كثيرة إن قررنا الحديث عن القضية (الفلسطينية)".

وأردفت: "التشفير الذي نقوم فيه بالعادة لا يهدف لإخفاء البوستات من الفيسبوك، بل لمنع الترجمة التلقائية من كشف معاني كلماتنا للمراقبين هنا، ممن هم على أهبة الاستعداد لإرسال طلب بفصلنا، أو ترحيلنا".

وأكدت سالم أن إجراءات التحقيق معها لم تكن حيادية، إذ جرى تعيين إسرائيلي في لجنة التحقيق الخارجية.

غير أن الأسئلة كانت في مجملها عنصرية. وقالت: "وجدت نفسي في مرمى الاتهام لمجرد كوني فلسطينية".

وأشارت إلى أنها كانت تظن أن "العمل لدى وسيلة إعلام دولية، لطالما تغنت بالحريات، سيكون مختلفا، ولكن (دويتشة فيله) أثبتت أن الإعلام ليس حرا حقا، وستتم محاكمة الصحفي علنا لمجرد قوله "لا يوجد حرية تعبير".

وبخصوص الصحفي باسل العريضي، فقد تقدم بدعوى أمام مجلس العمل التحكيمي في العاصمة اللبنانية بيروت، ضد شبكة "دويتشة فيله" الألمانية، لمطالبتها بتعويض عن فصله تعسفيا وبدل إنذار وعطل وضرر.

ووفق ما نشر موقع "العربي الجديد" في الثاني من مارس/آذار 2022، أعلن العريضي الدعوى في مؤتمر صحفي عقده مع داود إبراهيم الذي فسخت أيضا "دويتشة فيله" عقد تعاونها معه، في مقر نقابة محرري الصحافة اللبنانية، وتحدثا عن أسباب الفصل وخلفياته وتحركهما أمام القضاء.

وقال العريضي: "لا نعرف التهمة الحقيقية التي صرفنا على أساسها، فنحن لم نخالف قواعد السلوك المرتبطة بمؤسستنا، لا داخلها، ولا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل كنا نتلقى التهنئة على عملنا".

وأشار إلى أن مضمون التغريدات التي كتبها "لا يمس أي معتقد أو دين أو أقلية".

ولفت إلى أنه خلال التحقيق الذي أجرته اللجنة لم يوجه إليه أي سؤال يتعلق بعمله المهني، بل أسئلة عن تقارير أعدها لقناة "الجديد" التي كان يعمل بها قبل انتقاله إلى "دويتشة فيله" مديرا لمكتب بيروت.

وأكد أن "العقد يخضع لقانون العمل اللبناني، وهناك نص صريح وواضح فيه أنه من خلال عملي مع المؤسسة من واجباتي المهنية أن أقوم بتغطية كل الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل".

وأضاف أن "المشكلة تكمن في تهمة معاداة السامية؛ كلمتان من شأنهما أن يؤثرا بمسيرة عمرها أكثر من عشرين عاما حرصت على أن تكون مكللة بالمهنية البعيدة عن الانحياز والعنصرية والكراهية. ولما لهذه التهمة من تشهير وإساءة سمعة أتى مطلبي بالتعويض المعنوي".

أما داود إبراهيم الذي عمل في "دويتشة فيله" متعاقدا، فأعلن أنه يدرس مع محاميه رفع دعوى لتحصيل حقوقه الشخصية، بسبب الضرر الذي شكلته التهم على سمعته.

وجاء قرار الشبكة الألمانية بعد تحقيق دام نحو شهرين، تولته وزيرة العدل الألمانية السابقة زابينه لويتهويسر- شنارنبرغر، وعالم النفس أحمد منصور، الذي يعرف عن نفسه بأنه "عربي إسرائيلي"، ويسخر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي للدفاع عن الاحتلال.

وشدد إبراهيم على أن عقد العمل مع "دويتشة فيله" يخضع للقوانين اللبنانية، وإسرائيل في نظر القانون اللبناني عدو. 

وقال: "هذا أمر معروف، ويجب أن يكون واضحا ومفهوما لكل مؤسسة تريد العمل في لبنان، ولا سيما أن أي تهاون مع الشأن الإسرائيلي من شأنه أن يرتب على الموظف اللبناني العامل في المؤسسة مسؤولية كبيرة ويعرضه للعقوبات".

وأكد قائلا: "سنتابع هذه القضية، ويهمنا إيصال صوتنا، فنحن نرفض تهمة معاداة السامية وفق التصنيف الغربي والألماني الجديد الذي يجري التعامل على أساسه".

وخلال المؤتمر، أكد نقيب محرري الصحافة اللبنانية جوزيف القصيفي أن "ما حصل مع الزميلين مرفوض ومدان من قبل مؤسسة تدعي أنها تدرب أشخاصا على الديمقراطية والحرية وتقبل الآخر والاندماج بالمجتمعات.

بينما تتصرف بعكس ما تبشر به، وهذا أمر خطير ويدخل ضمن ازدواجية المعايير"، وفق قوله. ووصف ما تعرض له إبراهيم والعريضي بـ"الانتقام بمفعول رجعي".

 معاداة السامية

لفهم طبيعة هذا الاتهام، يقول التجاني بولعوالي، باحث ومحاضر لدى كلية اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة لوفان ببلجيكا، إن مصطلح معاداة السامية ذو حمولة أيديولوجية أكثر منها علمية.

وشدد بولعوالي في تصريح لـ "الاستقلال"، أن هذا المصطلح يتخذ طابعا هلاميا وفضفاضا، ويمكن أن تعلق على مشجبه كل مشكلة أو تعاط سلبي مع ما هو يهودي، ويؤول بأنه عنصرية أو كراهية أو عداء موجه إلى اليهود.

وذكر بولعوالي، وهو مؤلف لـ 36 كتابا، تشمل قضايا عدة، منها وضع الإسلام والمسلمين في الغرب، أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر طفا على السطح مصطلح معاداة السامية.

وكان يقصد في الأصل بذلك تلك المعاداة التي كان يتلقاها اليهود من النصارى في مختلف البلدان الأوروبية منذ القرون الوسطى إلى منتصف القرن العشرين.

وهذا يعني أنه تاريخيا لا علاقة للمسلمين ولا للعرب بمعاداة السامية واليهود، مشيرا إلى أنه "طرأ تحول هجين على حمولة هذا المصطلح من معاداة الأوروبيين لليهود، التي كانت حقيقية إلى معاداة المسلمين لهم في العصر الحالي، وهي في أغلبها متوهمة وغير مؤسسة".

ولعل مرجع ذلك، يردف بولعوالي، يعود إلى القضية الفلسطينية والصراع الصهيوني الفلسطيني/العربي، وهذا لا يمت بصلة إلى مفهوم معاداة السامية.

فهذا الصراع لا يتعلق بما هو ديني يهودي، بقدر ما يتخذ طابعا سياسيا يطالب فيه شعب بحقوقه المغتصبة من قبل طرف خارجي.

وذكر أيضا أن الكثير من المفكرين والكتاب والخطباء والإعلاميين صاروا في أوروبا والغرب ضحية التوظيف الأيديولوجي لمفهوم معاداة السامية (ومنهم الصحافية فرح مرقة وغيرها كثير)، رغم أن ذلك يتعارض جملة وتفصيلا مع مواثيق حقوق الإنسان وقوانين الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير. 

كما سبق للمرصد "الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2021، أن عبر عن قلقه البالغ إزاء تصاعد استهداف وتشويه صحافيين عرب وفلسطينيين عاملين في وسائل إعلام ألمانية.

وقال المرصد الأورومتوسطي، ومقره جنيف، في بيان صحفي، إن الأمر تصاعد منذ أن أصدر البرلمان الألماني قرارا يصف حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضد إسرائيل بالمعادية للسامية.

وبين أن ألمانيا شهدت مزايدة تهدف للخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وتجريم انتقاد الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

وقال الأورومتوسطي إن هذا لا يشكل خطرا جسيما على حرية التعبير فحسب، بل ينطوي على استخدام الاتهامات بمعاداة السامية كسلاح ضد الشخصيات العامة من الأقليات.

وأبرز المصدر ذاته أن إذاعة غرب ألمانيا كانت قبل هذا الإعلان بوقت قصير أوقفت البرنامج العلمي "كوارك" الذي تقدمه "نعمة الحسن"، وهي صحافية ألمانية من أصول فلسطينية، بسبب مزاعم مماثلة تتعلق بمعاداة إسرائيل.

وأشار الأورومتوسطي إلى أن الصحف والمنظمات وأعضاء الجماعات اليمينية المتطرفة الموالية لإسرائيل تستهدف الصحفيين العرب أو الفلسطينيين في وسائل الإعلام الألمانية.

 وتبذل جهودا كبيرة للبحث في ماضيهم من أجل الوصول إلى ما يدينهم ومن ثم توقيفهم عن العمل، وفق قوله.

وبين أن حملات التشويه تقوم على مغالطة الذنب بالارتباط (رفض رأي معين بالنظر إلى معتنقيه)، أو تسليط الضوء بشكل انتقائي على كتابات قديمة للصحفيين المستهدفين قد لا تمثل توجهاتهم الحالية بالضرورة، أو تعمد إساءة تفسير أو إخراج كلامهم من سياقه لاستحضار اتهامات بمعاداة السامية.

وفي مايو/أيار 2021، خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، وزعت "دويتشة فيله" دليلا داخليا من صفحتين للصحفيين العاملين لديها يمنعهم من إقامة أي ارتباط بين إسرائيل والاستعمار، أو استخدام مصطلح الفصل العنصري.

وهو ما ينطوي على قمع خطير لحرية التعبير يهدف إلى ترسيخ الانحياز لإسرائيل في وسائل الإعلام الألمانية بدلا من الدفاع عن المبادئ الصحفية.

ونبه المرصد الأورومتوسطي وسائل الإعلام الألمانية مثل دويتشة فيله وإذاعة غرب ألمانيا إلى خطورة طرد الصحافيين الفلسطينيين والعرب بشكل تعسفي بسبب حملات التشهير التي تنفذها الجماعات الموالية لإسرائيل أو اليمين المتطرف.

والتي من شأنها تحفيز المزيد من الاستهداف التمييزي لشخصيات عامة من أصول فلسطينية أو عربية، أو ممن لديهم آراء متعاطفة مع حقوق الفلسطينيين وحريتهم.

ومن داخل "دويتشة فيله" بالعاصمة الألمانية برلين، تواصلنا مع مصدر رفض كشف اسمه، أكد أن "استهداف الصحفيين المعنيين بالطرد أو الفصل كان مقصودا، وجاء بعد سنة أو أكثر من الترصد".

وأشار في تصريح لـ "الاستقلال" إلى أن هذا "الاستهداف موجه نحو العرب عامة، والفلسطينيين خاصة".

ونبه المصدر إلى أن هذا الاستهداف دفع بعاملين وصحفيين بالقناة إلى حذف تدوينات وتغريدات سابقة لهم تهم الشأن الفلسطيني، أو يعبرون من خلالها عن تضامنهم مع المتضررين أو الأطفال بفلسطين.

وكشف المصدر أنه كان هناك توجه داخل القناة لمراقبة البريد الخاص بالعاملين والصحفيين من لدن الإدارة، بدعوى معرفة مصدر بعض التسريبات التي تهم القناة، مشددا أن هذا الأمر يتعارض مع القانون والحقوق الخاصة للعاملين.

هذه المسالك، وفق المصدر، جعلت العاملين يخلقون نوعا من الرقابة الذاتية على أنفسهم، كما جعلت الصحفيين في وضع ضبابي نتيجة منع استخدام بعض الكلمات المعتمدة من منظمات حقوقية ودولية، كجدار الفصل العنصري الذي تقيمه إسرائيل بفلسطين، نظرا لأن هذا الوصف ممنوع في ألمانيا.

وعن خلفيات هذا التوجه الذي تتبناه "دويتشة فيله"، أكد المصدر أن ذلك راجع إلى السيطرة التي يبسطها اللوبي الصهيوني على الإعلام الألماني، الخاص والعام.

فالمواطنون من الأعراق غير الأصلية بألمانيا ورغم أنهم يشكلون ربع السكان فإنهم لا يصلون إلى مراكز إدارية عليا في الإعلام الألماني.

بل إن نسبتهم في الإعلام لا تتجاوز 10 بالمئة، وتقل هذه النسبة كثيرا حين نتحدث عن المراكز القيادية.

وأبرز المصدر أن الحريات الإعلامية في ألمانيا أمر نسبي، وليست بالصورة المثالية التي يروج لها دوليا، ذلك أن هناك تقييدات عدة، وخاصة منها ما ارتبط بقضية فلسطين.

واسترسل أن عامة الفاعلين في الحقل السياسي والإعلامي الألماني يعرفون حقيقة الوضع في فلسطين وجرائم الاحتلال، ويتحدثون عن ذلك في مجالسهم الخاصة.

لكن، يستدرك المصدر: "ما أن يتحول الكلام إلى الفضاء العام يتغير الكلام خوفا من المتابعة القضائية أو الحساب، بما فيه إمكانية فقدان العمل، كما وقع لصحفيي دويتشة فيله".