بعد تنازله عن ثروات مصر.. هكذا فرط السيسي في أراض فلسطينية
زلزال قوي أحدثه جاريد كوشنر صهر ومستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عبر مذكراته الصادمة التي رأت النور في 22 أغسطس/ آب 2022، في كتاب بعنوان "breaking History" أو "كسر التاريخ.. مذكرات البيت الأبيض".
ذلك المؤلف الذي حوى 500 صفحة، وأثار جدلا لنشر معلومات حساسة تتعلق بزعماء دول عديدة بالمنطقة، في مقدمتهم رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي.
إذ تطرق كوشنر لمكالمة غير معتادة، أجريت قبل سنوات بين السيسي وفريق ترامب الذي كان لتوه منتصرا في معركة الرئاسة ويستعد لقيادة البيت الأبيض، في الولاية التي بدأت في 20 يناير/كانون الثاني 2017.
وقتها كان السيسي يتعامل مع رئيس أميركي جديد، ويريد أن يزيل حقبة التوترات التي حدثت خلال فترة الرئيس السابق باراك أوباما (2009-2017)، فقدم تنازلات فجة غير متوقعة بحق الشعب الفلسطيني وقضيته، كما أورد كوشنر.
السيسي الذي فرط في تراب مصر وثرواتها، وأسند ظهره إلى إسرائيل منذ اللحظات الأولى من حكمه، قرر أن يكون أكثر تأثيرا في قضايا مفصلية فلسطينية داخلية، مثل غض الطرف عن الاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والاعتراف بمدينة القدس عاصمة للاحتلال وغيرها.
خطة كوشنر
ونقل كوشنر في كتابه حوارا له مع المستشار السياسي الإسرائيلي الأميركي رون ديرمر سفير إسرائيل الحالي في الولايات المتحدة.
وخلال الحوار، قال ديرمر إنه "في مقر الأمم المتحدة، كانت عدة دول تتقدمها مصر، تستعد لتقديم قرار للتنديد بالمطالبات القضائية الإسرائيلية في الضفة الغربية (لبناء المستوطنات الإسرائيلية) بوصفها بلا شرعية قانونية وانتهاكا صارخا للقانون الدولي".
وأضاف كوشنر أن "ديرمر كان يسمع أن إدارة أوباما تعتزم الامتناع عن التصويت، وهذا الامتناع سيكون تخليا غير مسبوق عن إسرائيل، كما أنه سيهدد جهودنا (يقصد إدارة ترامب) المستقبلية لتحقيق السلام من خلال إمالة المفاوضات تجاه الفلسطينيين وثنيهم عن التفاوض مباشرة مع الإسرائيليين".
هنا بدأ صهر الرئيس الأميركي يصوغ خطته لوقف تلك العملية برمتها، عبر توضيح أن ترامب يعارض هذا القرار.
وكانت العقبة الأولى لكوشنر أنه من النادر أن يعلق الرئيس المنتخب على سياسة الرئيس المنتهية ولايته، لأن ذلك مخالف للقواعد وبروتوكول البيت الأبيض.
لكن كوشتر دفع ترامب لهذه الخطوة، ووافق الرئيس الأميركي الجديد (آنذاك) على أن الأمر يستحق كسر البروتوكول في قضية بهذه الأهمية.
وبالفعل أورد كوشنر أنه "من خلال العمل مع ديفيد فريدمان وجيسون جرينبلات، كبار مسؤولي الاتصال في حملتنا مع الجالية الموالية لإسرائيل واليهود، قمنا بصياغة بيان، وعدله ترامب ودفعه على تويتر وفيسبوك يوم 22 ديسمبر/ كانون الأول 2016".
وقال فيه ترامب: "لن يتحقق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين وليس من خلال فرض شروط من قبل الأمم المتحدة، هذا يضع إسرائيل في موقف تفاوض سيئ للغاية وهو غير عادل للغاية لجميع الإسرائيليين".
وكانت كلمات ترامب بمثابة الشبكة التي ستصطاد زعماء العرب، وكل من لديه الرغبة في التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة، على نحو يوافق إسرائيل ويتخلى عن حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية.
سقوط السيسي
كان السيسي أول المتهافتين بحسب ما ذكر كوشنر، حيث اتصل في اليوم التالي لبيان ترامب (في 23 ديسمبر 2016)، لإبلاغهم "أن الفريق الدبلوماسي المصري بالأمم المتحدة لم يكن يعمل تحت إشرافه وأن مصر ستلغي قرار إدانة بناء المستوطنات الإسرائيلية".
وعلق كوشنر في كتابه على سقطة السيسي المخزية بالقول: "للحظة، بدا الأمر وكأننا نجحنا وكان لنا تأثير بالفعل".
وهذا تحديدا ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، في تقريرها الذي نشرته يوم 22 ديسمبر 2016، بعنوان "ترامب يضغط بشأن قرار الأمم المتحدة حول المستوطنات الإسرائيلية".
وأوردت الصحيفة أن "ترامب تحدث بعد أن اتصل المسؤولون الإسرائيليون بفريقه للمساعدة في منع مشروع القرار الذي ترعاه مصر، ويدين بناء المستوطنات في الضفة الغربية".
وذكرت أنه "في غضون ساعتين، سحبت مصر القرار، واتصل رئيسها عبد الفتاح السيسي بترامب لمناقشة كيفية إحلال سلام حقيقي في الشرق الأوسط، بحسب أحد مساعدي الرئيس المنتخب (كان هو مستشاره جاريد كوشنر)".
وبالفعل في 24 ديسمبر 2016، سحبت مصر بشكل رسمي مشروع قرارها ضد الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن الدولي، تحت ذريعة أنها كانت تسعى للحصول على المزيد من الوقت للتأكد من عدم استخدام حق النقض (الفيتو) ضده.
وقتها تعرضت القاهرة لانتقادات حادة، لسحبها مشروع القرار الذي صوتت لصالحه سابقا، وزاد من حرج النظام المصري أن كلا من نيوزيلندا والسنغال وماليزيا وفنزويلا، تمسكت بإدانة إسرائيل، فيما انسحب السيسي من المواجهة.
كنز إستراتيجي
وتعليقا على هذه الفضيحة، وصف الباحث السياسي خالد أبو اليزيد، السيسي، بأنه "كنز إستراتيجي حقيقي لإسرائيل"، وأنه أكثر رئيس مصري قدم خدمات لدولة الاحتلال بلا منازع.
وأضاف أبو اليزيد لـ"الاستقلال" أن "مذكرات جاريد كوشنر لا تمثل مفاجأة للفلسطينيين الذين يعيشون التضييق والحصار اللذين تسبب فيهما السيسي ونظامه بجوار عدوان الاحتلال، لأنه لولا الضغط السياسي والميداني الرهيب على معبر رفح وقطاع غزة، لما حدث ما حدث لملايين الفلسطينيين".
وأورد: "منذ عام 2014 قام السيسي ونظامه بعملية ضغط غير مسبوقة على الفصائل الفلسطينية وصلت إلى تجريفه الحدود، وهدم الأنفاق، وقطع شرايين الحياة عن القطاع، وأذكر حينها أن الإعلام المصري كان يتوعد غزة بالقصف والهجوم".
وقال أبو اليزيد: "الأمر هنا أشبه بلعبة الأوراق أو الكروت، السيسي منذ لحظات حكمه الأولى يعلم أن ترسيخ حكمه متعلق بعلاقته القوية مع إسرائيل، وأنها بوابته إلى أوروبا والولايات المتحدة".
واستطرد: "هذا ما حدث بينه وبين ترامب وكوشنر، ولهذا عده الأول (ديكتاتوره المفضل)، والمنفذ الأفضل لإرادته في المنطقة العربية".
وأكد أن "السيسي لم يعرف يوما الدعم لفلسطين وشعبها، بل استخدمها كورقة ضغط أمام واشنطن، وشتان الفارق بينه وبين الزعماء الوطنيين مثل الراحل الدكتور محمد مرسي".
مسارات التطبيع
ورغم مدى الإهانة التي تلحق بمصر من هذه التسريبات، ولا سيما هي كانت عبر العقود الماضية أكبر القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، خاصة في الدفاع عن القضية الفلسطينية، لكن ما ورد بمذكرات كوشنر يتماشى مع مسارات السيسي منذ صعوده للسطلة رسميا عام 2014.
فمنذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، ذهب نظام الحكم في القاهرة نحو توطيد العلاقات بشكل أكبر مع تل أبيب، وعقد العديد من المباحثات معها، بل وصل التطبيع إلى التنسيق العسكري بين الجانبين في سيناء.
وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، أعلن السيسي في لقاء مع قناة "فرانس 24"، أنه "لن يسمح أن تشكل سيناء منطقة خلفية لتهديد أمن إسرائيل" وبالتالي كان ذلك التنسيق في سياق توطيد السيسي علاقاته مع الكيان الصهيوني.
فكانت "إسرائيل" دائما هي محور خروج السيسي عن النص، في خطاباته على مدار سنوات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث وجه لها قيادة وشعبا العديد من الرسائل الودية.
ورسائل السيسي كانت ذات دلالة على منهجيته في تغيير جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، الذي تقدَّمه جيش مصر على مدار عقود، وتنحيته نحو تطبيع أكثر عمقا، وتوجيهه نحو أعداء مختلفين سواء من أبناء شعبه، أو من دول أخرى مناهضة لانقلابه وسياسته الاستبدادية أو ضد الفلسطينيين أنفسهم.
ففي سبتمبر/ أيلول 2017، قال السيسي خلال كلمته بالأمم المتحدة، موجها حديثه للإسرائيليين: "لدينا في مصر تجربة رائعة وعظيمة في السلام معكم منذ 40 سنة، ويمكن أن نكرر تلك التجربة الرائعة، وأن يكون أمن المواطن الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع الفلسطيني".
بعدها ضجت القاعة بالتصفيق من حديث السيسي، الذي أثار انتباه مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، وبدا راضيا عن رئيس النظام المصري.
تخليه عن القدس
لكن الحلقة الأكثر إثارة في مسيرة السيسي وفلسطين، جاءت مع إعلان ترامب قبول القدس عاصمة لدولة الاحتلال، وهو القرار الذي أشعل العالم العربي والإسلامي غضبا.
وقتها أعلنت الخارجية المصرية ظاهريا أنها ضد القرار ومنددة به، حتى جاءت تسريبات صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في يناير/ كانون الثاني 2018.
إذ نشرت تسريبا صوتيا يكشف قبول عبد الفتاح السيسي قرار واشنطن باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتها إلى هناك.
وذكرت الصحيفة أن ضابط مخابرات مصريا يدعى أشرف الخولي اتصل هاتفيا بمقدمي عدد من البرامج الحوارية المؤثرة في مصر، وقال لهم "إن القاهرة شأنها في ملف القدس شأن جميع إخوانها العرب، تشجب ظاهريا قرار ترامب".
ومضى مستدركا: "بيد أن المهم لمصر هو إنهاء معاناة الفلسطينيين من خلال حل سياسي يتمثل في اتخاذ رام الله عاصمة لفلسطين بدل القدس".
وأضافت الصحيفة أن "الضابط المصري طالب مقدمي البرامج بإقناع المشاهدين بقبول قرار ترامب بدل إدانته مؤكدا أن الصراع مع إسرائيل لا يصب في مصلحة مصر الوطنية".
بعدها مباشرة وتحديدا في 21 يناير/ كانون الثاني 2018، كشف نائب الرئيس الأمريكي (آنذاك) مايك بنس أن السيسي الذي التقاه خلال زيارته للقاهرة وصف قرار ترامب بشأن القدس بأنه "خلاف بين أصدقاء".