"العصا والجزرة".. سياسة أخنوش لإحكام قبضته على وسائل الإعلام بالمغرب
منذ سنوات مضت، والمشهد الإعلامي يعاد ترتيبه في المغرب لصالح السلطة، وصولا للحظة الحالية التي وصل إليها الإعلام العمومي والخاص، المرئي والمكتوب والمسموع، إلى حالة ضعف غير مسبوقة، وتبعية شبه مطلقة لرئيس الحكومة عزيز أخنوش.
وسائل السيطرة، وفق مراقبين، ليست بالمال والإشهار والتعويضات السخية فقط، بل أيضا عبر الترهيب، واستخدام القضاء لحجب أصوات رافضي العزف على الوتر المردد لنغمة أخنوش، أو تلك المناهضة للحدود التي يرسمها للسلطة الرابعة.
2022 الأسوأ
واحتفل المغرب في 30 يوليو/تموز 2022 بـ"عيد العرش"، المخلد لمرور 23 سنة على وصول الملك محمد السادس إلى سدة الحكم.
وتزامن عيد هذه السنة مع أسوأ وضع تعيشه الصحافة وأهلها منذ تولي العاهل زمام السلطة خلفا لوالده الراحل، وفق ما تقول منظمة مراسلون بلا حدود.
وجاء تقرير المنظمة بهذا الشأن في تقرير بعنوان: "عيد العرش: الشجرة التي تخفي غابة قمع الصحفيين في المغرب"، ونشر في 29 يوليو.
وطالبت بالإفراج عن الصحفيين المسجونين، مثل الصحفي الاستقصائي عمر الراضي والكاتب سليمان الريسوني، وإسقاط جميع التهم المنسوبة إليهم.
الوضع الذي يعيشه المغرب اليوم، في ظل حكومة عزيز أخنوش، غير مسبوق، ذلك أنه منذ عهد الملك الحسن الثاني لم يكن هناك ثلاثة صحفيين في السجن، بشكل متزامن، كما هو حال الراضي والريسوني وأيضا توفيق بوعشرين، مؤسس جريدة "أخبار اليوم".
الخيط الناظم بين هؤلاء الصحفيين الثلاثة، أنهم على درجة عالية من الاستقلالية عن السلطة، ويملكون نزعات نقدية مؤثرة، جلعت لهم مكانة وتقديرا في الشارع المغربي، كما تميزوا بفضح الفساد وسوء الإدارة، داعين إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية في البلاد.
ففي قضية بوعشرين، أيدت محكمة النقض في اليوم الموالي لاكتساح أخنوش الانتخابات البرلمانية في 8 سبتمبر/أيلول 2021 الحكم الابتدائي القاضي بحسبه 15 سنة بتهمة "الاتجار بالبشر"، و"الشطط في استخدام السلطة لأغراض جنسية"، ثم "الاعتداء الجنسي" و"الاغتصاب".
وأما الريسوني، والذي ترأس تحرير جريدة "أخبار اليوم" بعد اعتقال بوعشرين، فقد حكمت عليه محكمة استئناف بالدار البيضاء بخمس سنوات نافذة، في 24 فبراير/شباط 2021.
وحوكم الريسوني بتهمة الاعتداء الجنسي على أحد الشواذ، في متابعة قضائية شابها العديد من التجاوزات، وفق محاميه ومنظمات حقوقية محلية ودولية.
بدوره، يقبع الصحفي والحقوقي عمر الراضي خلف القضبان، وقضت محكمة الاستئناف في 4 مارس/آذار 2021 بحبسه ست سنوات بتهمة "الاغتصاب والتجسس".
كما قضت المحكمة نفسها على عماد ستيتو زميل الراضي، بسنة واحدة، منها ستة أشهر موقوفة التنفيذ، بتهمة "عدم الإبلاغ على جريمة".
وستيتو قرر مغادرة المغرب قبل أربعة أشهر من صدور هذا الحكم، مقتنعا في قرارة نفسه أن محنته مع القضاء ناجمة عن عدم شهادته ضد عمر الراضي.
وتعد الصحفية حنان بكور من آخر الصحفيين المستهدفين بالمغرب، إذ استدعيت للمثول أمام القضاء في 27 يونيو/حزيران 2022، بعد أن رفعت ضدها دعوى من التجمع الوطني للأحرار، حزب رئيس الحكومة، على خلفية تدوينات نشرتها على فيسبوك، وجرى تأجيل جلسة محاكمتها إلى سبتمبر/أيلول من نفس العام.
الملاحظ أيضا، أن التهم التي توجه للصحفيين غير المرغوب فيهم تتعلق بالحق العام، وتحديدا ما تعلق بالجنس، كالاغتصاب أو التحرش أو الاتجار بالبشر.
ولذلك، استنكرت منظمة "مراسلون بلا حدود" الترهيب القضائي الذي تلجأ إليه الحكومة المغربية لإسكات الصحفيين، وعدت أن هذا الأسلوب غير مقبول بتاتا.
وفي 19 يونيو 2022، وجه إعلاميون وحقوقيون وبرلمانيون وجامعيون، من المغرب وخارجه، نداء لأجل الإفراج عن توفيق بوعشرين، كما انتشر وسم في وسائل التواصل الاجتماعي يطالب بالحرية لسليمان الريسوني وعمر الراضي.
وضع قاتم
يؤكد الكاتب الصحفي، يونس مسكين، أنه لا يمكن لمراقب موضوعي أن يجادل في أننا نعيش حاليا واحدة من أكثر الحقب قتامة في التاريخ الحديث للمغرب، والأسوأ على الإطلاق منذ بداية الألفية الحالية.
وشدد مسكين في تصريح لـ "الاستقلال"، أننا "في المغرب نعيش مرحلة تراجع حاد، تتمثل في إسكات الكثير من الأصوات الصحافية المزعجة (بالنسبة للسلطة الحاكمة)".
واسترسل بالقول: "نعيش حالة إقبار لعدد من المنابر الإعلامية، وارتفاع منسوب الرقابة الذاتية بفعل المضايقات الممنهجة التي تعرض لها كل المتدخلين في الفضاء والنقاش العامين، بما فيهم الفاعلون الجدد مثل المدونين وما يسمى باليوتوبرز والناشطين في الشبكات الاجتماعية".
"ما يحصل في الواقع"، يقول مسكين، "هو أننا نعيش مسارا شديد الانحدار منذ بضع سنوات.
والأكيد من خلال الوقائع المشاهدة والمسجلة، أن هذا المسار المتسم بالانحدار كان يهدف إلى تمكين عزيز أخنوش، وإسكات كل الأصوات التي يمكن أن تنتقد وصوله إلى رئاسة الحكومة، وجمعه بين سلطة المال وسلطة التدبير الحكومي.
وفي مغرب اليوم، كل الأصوات الصحفية "المؤثرة" المنشغلة بقضايا السياسة والمال، والحريصة على استقلالها، أصبحت في غياهب السجن أو مبعدة عن البلاد.
والرسالة التي يتلقفها العاملون في القطاع، من المتحكمين في الحكومة والمال والقضاء والأمن، أن نجاتهم الفردية مرهونة بالقدرة على الالتزام بمنطق "قل ولا تقل"، الصادر عن السلطة.
وإذا كان بوعشرين والريسوني والراضي يسفهون مسار السلطوية والتحكم في الاقتصاد والسياسة، ويعدون أنه خطر على المغرب، فإن داعمي هذا المسار لم يقبلوا تغيير طريقهم فقط، بل عملوا على إسكات كل صوت لا يقول لما يقع "اللهم آمين".
ومن ذلك، أن السلطة تمنع المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي من الظهور في المؤسسات الإعلامية العمومية.
وهذا ما عبرت عنه مايسة سلامة الناجي، وهي أشهر ناشطة مغربية على فيسبوك، بمتابعين يتجاوز عددهم 1.4 مليون.
ودونت الناجي في 28 يوليو 2022 على صفحتها: "متى آخر مرة رأيتموني على قناة أو إذاعة مغربية؟ أو نشر لي مقال في موقع مغربي؟".
لتجيب: "منذ 2016، أي من اليوم الذي أصبح فيه عزيز أخنوش على رأس حزب التجمع الوطني للأحرار، ومرشحا لرئاسة الحكومة".
وتابعت: "منذ تلك الفترة أغلقت في وجهي أبواب العمل والتعاون، وأصبح الكل يتهرب من التعامل معي، ويشترط علي التوقف عن معارضة أخنوش. لكني لم أرضخ أبدا لهذا الابتزاز".
واسترسلت: من يقول إنه لدينا ديمقراطية/تعددية في المشهد السياسي أو الإعلامي المغربي فهو "كاذب"، لتخلص إلى أن هناك معين شرب واحد، هو مال/فلوس أخنوش، اشرب أو مت عطشا، وفق وصفها.
تخويف الأقلام
ويرى الباحث والصحفي الاستقصائي المغربي، عبد اللطيف الحماموشي، أن الهدف من متابعة واعتقال الصحفيين المستقلين والناشطين والمدونين المؤثرين على مواقع التواصل هو خلق جو من الخوف والرعب وسط النخب السياسية والإعلامية وداخل مجتمع المدافعين عن حقوق الإنسان.
وشدد الحماموشي في مقال نشرته "مؤسسة كارنيغي"، في 12 مايو/أيار 2022، أن من وصفها بـ "السلطوية" لا تستخدم القضاء والسجن لتخويف المعارضة وكبح جماح الصحافة المستقلة فحسب، بل تعتمد أيضا على سلاح التشهير الإعلامي الصادر عن صحف ومواقع إخبارية تعلن صراحة عن ولائها للسلطات.
وأبرز المتحدث ذاته أن إعلام التشهير يهدف أساسا إلى تشويه سمعة الفرد من خلال نشر أحداث ووقائع لا أساس لها من الصحة أو محورة عن الواقع، كما يسعى إلى تهديد المستهدفين بالاعتقال حتى قبل متابعتهم قضائيا.
وحدث هذا مع الموقع الإخباري "برلمان.كوم"، الذي يديره مسؤول سابق بوزارة الداخلية، والذي أعلن قرب اعتقال سليمان الريسوني، حتى قبل أن تبدأ متابعته قضائيا بما نسب إليه، بل نشر مقالات عدة تحرض عليه.
وكان عبد الإله بن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رئيس الحكومة الأسبق، قد شن هجوما لاذعا على الصحافيين الذين يهاجمونه وحزبه واختلاق ما وصفها بالأكاذيب، خدمة لأجندات مشبوهة.
جاء ذلك في مناسبات عدة، خلال مؤتمرات حزبه الجهوية، والتي عقدت شهري أبريل/نيسان ومايو 2022، بلغت أن قال فيها إن بعض هؤلاء الصحفيين ممسوك بحبل المال، ولذلك لا يملك حرية الكلام أو التصرف.
يعبر الكاتب الصحفي يونس مسكين عن أسفه لواقع الصحافة والإعلام في المغرب، في ظل الحكومة الحالية، مشددا على أن العطب بنيوي، مما يفسر دخول البلاد في مسلسل من التراجعات في مجال الحقوق والحريات والبناء الديمقراطي والمؤسساتي.
وبعد أن انتقد مسكين التراجع المسجل عن مكاسب سابقة في مجال حرية الصحافة بالمغرب، أكد أن هذا الوضع هو نتاج انسداد كبير وقع في الفضاء العام، وأدى بالتالي إلى غياب النقاش السياسي، وهيمنة منطق القوة والنفوذ، وزواج المال والسلطة.
وعد الكاتب الصحفي أن استمرار هذا الوضع المنغلق يهدد بنتائج أكثر سوءا من الوضع الحالي، وبالتالي فقدان المزيد من المساحات المخصصة دستوريا وقانونيا للمؤسسات التمثيلية.
وحذر من أن يؤدي الوضع الحالي للصحافة والإعلام إلى بروز مراكز قوى جديدة مستفيدة من حالة الارتخاء الشامل الحاصلة في مفاصل الدولة.
وبالتالي تعميق الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المغرب حاليا، وفتح باب المستقبل على المجهول.