فشل تهميشهم.. إسلاميو السودان يرسمون الخريطة السياسية من جديد
ظهرت بقوة معضلات التغيير في السودان على وقع صراع هوية، نجم عن قسوة المرحلة الانتقالية التي بدأت بسقوط نظام عمر البشير عام 2019، وانحسار التيار الإسلامي بعدما أصبح محاصرا بين تحميله أخطاء النظام السابق، ومحاولات سحقه بالكلية وحظره عن العمل السياسي والاجتماعي.
وتعود اليوم إرهاصات عودة الإسلاميين مرة أخرى إلى مظلة العمل السياسي بشكل مختلف عن السابق، بعدما جمعوا شتات أمرهم، وسعوا إلى تكوين حاضنة أوسع وأشمل من ذي قبل، وذلك في ظل صراع محتدم بين الجيش والقوى الثورية بقيادة قوى الحرية والتغيير.
فهل يستطيع التيار الإسلامي السوداني المضي قدما فيما عزم عليه؟ أم السودان يستطيع إحداث إصلاح يذكر دون الاستعانة بهذا التيار؟
تيار عريض
طبيعة التشكيلة الجديدة للمسرح السياسي السوداني تحمل معها معطيات واستنتاجات تختلف نوعا ما عن فترة الحكم السابقة التي استمرت نحو ثلاثة عقود قبل الثورة، ما يدفع التيار الإسلامي لاتخاذ خطوات إستراتيجية جادة لرسم المستقبل القادم.
ظهر هذا عندما وقعت 10 تكتلات إسلامية سودانية، يوم 18 أبريل/ نيسان 2022، في العاصمة الخرطوم، ما يعرف بميثاق تدشين "التيار الإسلامي العريض"، لتحقيق الاندماج التنظيمي بينها.
ونص ميثاق التحالف للفصائل على دمج تنظيمات الفصائل العشرة المتمثلين في "جماعة الإخوان المسلمين- التنظيم العالمي"، و"جماعة الإخوان المسلمين- السودان"، و"منبر السلام العادل"، و"الحركة الإسلامية السودانية"، و"تيار النهضة".
كما ضم التيار الإسلامي العريض كل من "حزب دولة القانون والتنمية"، و"حركة المستقبل للإصلاح والتنمية"، و"حركة الإصلاح الآن"، و"حزب العدالة القومي"، و"مبادرة وحدة الصف الإسلامي".
وجاء في الميثاق أن "وحدة الصف الإسلامي فريضة شرعية وضرورة واقعية وواجب متحتم، لا سيما وبلادنا تشهد تهديدا وجوديا جديا، يستهدف هويتها وقيمها الفاضلة بالطمس والتجريف".
وأضاف: "من الأهداف التي نستشرفها من هذا الاصطفاف الحرص على تنزيل قيم الدين على جميع أوجه الحياة في شؤون المعاش والمعاد في شمول وتكامل".
مستقبل التيار
ورأى مراقبون منهم الوزير السوداني السابق ونائب رئيس حركة "الإصلاح الآن"، حسن عثمان رزق، أن وحدة التيارات الإسلامية تفتح الباب أمام عودة الحركة الإسلامية السودانية للممارسة السياسية بعد إقصائها من الساحة في 11 أبريل/ نيسان 2019 حين أطاح جنرالات في الجيش بحكومة الرئيس عمر البشير تحت ضغوط واحتجاجات شعبية.
وذكر في تصريحات إعلامية أن عمليات الإفراج عن قادة بارزين في النظام السابق عززت من فرضية تفاهم القيادة العسكرية مع الإسلاميين الذين كانوا على رأس الحكومة المعزولة، خاصة أن قادة التغيير في الأساس كانوا من كبار مسؤولي اللجنة الأمنية وثيقة الصلة بالبشير ورموز حكمه، على حد تعبيره.
وشدد رزق على أن "التيار الإسلامي العريض سيكون له مرشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كاشفا أن بعض الجهات الأخرى بدأت بالانضمام بالفعل لتحالفهم، فضلا عن أنهم على تواصل مع قوى أخرى".
فيما أعلن المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين في السودان حسن عبد الحميد، في 20 أبريل 2022، أن "التكتل الإسلامي العريض كان لزاما في مواجهة التمزق الداخلي الذي يستدعي توحد كل الأحزاب المنقسمة بما فيها أحزاب الاتحادي والأمة وغيرها".
وأضاف أنه لا يكترث لوقع الخطوة على المحيطين الدولي والإقليمي قائلا "إن التيار الإسلامي من حقه التكتل والتجمع ومخاطبة قواعده"، مؤكدا كذلك أن لديهم "رؤية محددة للتعامل مع العالم الخارجي كما أن للتيار الوليد خططه للتعاطي مع الوضع الداخلي والأزمة الوطنية القائمة".
منظمة الدعوة
ولم تقف معركة الإسلاميين داخل السودان على حشد التكتل العريض، حيث جاء الأمر بالتوازي مع حدث مفصلي في 1 مايو/ آيار 2022، حيث قضت المحكمة العليا في السودان، ببطلان قرار لجنة تفكيك نظام 30 يونيو/حزيران 1989 المجمدة، التي حلت منظمة الدعوة الإسلامية، وألغت تسجيلها قبل نحو عامين بتهمة ارتباطها بنظام البشير.
وخلال العامين باشرت منظمة الدعوة مهامها من مقر مؤقت في النيجر، كما وقعت المنظمة رسميا اتفاقية مقر رئاسي لها في كمبالا مع الحكومة الأوغندية.
وبذلك تعاود المنظمة التاريخية نشاطها من مقرها الرئيس في الخرطوم.
وكانت المنظمة قد قررت الرحيل عن السودان بعد قرابة 41 عاما من العمل والعطاء وخدمة المجتمع السوداني، تحت وقع الضربات المستمرة الموجهة إليها من حكومة الحرية والتغيير، وذلك بعد عام من حلها وإغلاقها على يد السلطة الجديدة.
وتأسست المنظمة عام 1980، في العاصمة الخرطوم بوصفها منظمة عالمية إنسانية طوعية غير ربحية ومستقلة، من أهدافها نشر الإسلام، وترسيخ قيم التسامح والتعايش، إلى جانب دعم وإغاثة المحتاجين.
وتقدم خدماتها الإنسانية التطوعية عبر مكاتبها المنتشرة في 42 دولة إفريقية، بالإضافة إلى أعمالها الطائلة في السودان، بوصفه المقر الرئيس ومركز الانطلاق للمؤسسة الدعوية الإسلامية الرائدة.
ويضم مجلس المنظمة "70" عضوا، وهيئة مراقبة من "65" عضوا، وتمثل فيها قطر، والإمارات، والكويت، واليمن، والمغرب، ومصر، وليبيا، ودول أخرى.
وفي 1 مايو 2022، علق الإعلامي السوداني وائل نصر الدين، عبر فيسبوك، على ما حدث مع المنظمة والحكم بعودتها قائلا: "شاهدت بعيني عربات منظمات الدعوة الإسلامية بيد أعضاء أحزاب الفكة (اليسار) بحجة أنهم لجان مقاومة".
وأضاف: "هناك حزب كبير متهم أنه سرق إيجارات، واستثمارات منظمة الدعوة وتوجد وثائق تدل على ذلك".
وأورد: "نتمنى التحقيق العادل والشفاف في كل الادعاءات بشأن الفساد المالي الذي مارسته لجنة التمكين".
يذكر أن عضو لجنة إزالة التمكين، صلاح مناع، في تعليقه على قرار للجنة بحل "منظمة الدعوة الإسلامية" في السودان، ومصادرة ممتلكاتها، يوم 11 أبريل/ نيسان 2020، قد علق قائلا: "لن يعود الإسلاميون في السودان للسلطة أبدا.. عشم إبليس في الجنة".
وكانت محاولات اليسار إقصاء الإسلاميين من المشهد، بدأت مع تدشين الفترة الانتقالية واستلام عبدالله حمدوك رئاسة الحكومة التي غلب عليها الطابع اليساري.
منهجية مختلفة
وتضرب الحركة الإسلامية في جذور المجتمع السوداني منذ أمد بعيد، حتى من قبل ولاية عمر البشير بعقود طويلة.
ففرع جماعة الإخوان المسلمين الذي أسس في السودان خلال أربعينيات القرن العشرين، لم يمض على نسق واحد، ولم يخضع لجانب منفرد في تمثيل أفكار الجماعة وأيديولوجيتها، بل وقعت انشقاقات كبيرة داخل التنظيم، أدت إلى وجود العديد من الكيانات الممثلة له في العمل السياسي والعام.
لكن ظلت "الحركة الإسلامية" هي الكيان الدعوي التقليدي الذي يخضع لرؤية المراقب العام ومجلس الشورى، والتي ينضوي تحتها عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان.
وشهدت جماعة الإخوان السودانية عدة انشقاقات كبرى في تاريخها، أولها كان على يد حسن الترابي، الذي نجح في تكوين تنظيمه الخاص، ودشن ما سماه "الجبهة الإسلامية القومية".
أما الانشقاق الثاني فكان بقيادة مجموعة الشيخ سليمان أبونارو عام 1991، والذي رأى أن الجماعة ظلمته عندما لم تسمح له أن يصلحها بالسلفية عندما فاز في المؤتمر العام، وقرر أن يجمع بين محمد بن عبد الوهاب، وحسن البنا، ورأى أن المنهج التربوي عند الإخوان ناقص ما لم يدرسوا كتاب "التوحيد" لمحمد بن عبد الوهاب في الأسر التنظيمية.
وجاء الانشقاق الثالث من رحم الانشقاق الثاني، وهو خروج "مجموعة الإصلاح"، على سليمان أبو نارو، بسبب ما رأوه انحرافا عن منهج الإخوان، ثم اندمجت هذه المجموعة في النهاية مع "الحركة الإسلامية" في عام 2018.
قرب الجماعة بشكل عام من دائرة الحكم وصنع القرار في البلاد، سبب لها الكثير من الأزمات والإشكاليات على مستوى التوجه، والمنهج، وهذا ما أكده حسن الترابي مهندس انقلاب 1989، ومن أكبر رموز الحركة الإسلامية في السودان والعالم الإسلامي.
وتشير التقديرات إلى تجاوز عدد أعضاء الحركة الإسلامية في السودان مليوني شخص، وهم جزء أصيل من مكونات الشعب السوداني، يصعب تنحيته، وإزالته من المشهد بصورة كلية، وفق مراقبين.
استحالة الفصل
وفي قراءته للمشهد، قال الناشط السوداني، الأمين خضر، عضو حزب الشعب الديمقراطي: "لا يمكن فصل الإسلاميين عن جسد الدولة السودانية، هذه عملية لن تتم إلا على بحر من الدماء، ولننظر إلى تجربة مصر، وكيف دفعت ثمن إقصاء الإسلاميين والانقلاب عليهم، ومن قبلها الجزائر".
وأضاف لـ"الاستقلال" أن "إسلاميي السودان أكثر عددا، وجزء من أجهزة الدولة في الجيش والشرطة وجهاز المخابرات، وبقية الأجهزة التنفيذية والتشريعية، لذلك فإنهم لن يعودوا إلى الحكومة والمشاركة فحسب، بل هم جزء من الإدارة الحالية".
وأوضح أن "وضع الإسلاميين ككل في بوتقة نظام الإنقاذ وعهدة عمر البشير، خطأ كبير، سواء عن جهل أو عمد، فإن الاتجاهات الإسلامية السياسية في السودان، أعمق وأشمل من نظام البشير بكثير، بل إن البشير نفسه اصطدم بهم ونكل بمعظمهم في السجون كما حدث مع حسن الترابي، وقطاع كبير من جماعة الإخوان المسلمين الذين اختلفوا معه".
وذكر خضر أن "التحديات الأمنية والاقتصادية أمام السودان، وسيناريوهات التقسيم المطروحة في شرق البلاد ودارفور، تفرض نفسها أمام مجلس السيادة والحكومة، وفكرة الدخول في صراعات مفتوحة ضد الإسلاميين، تعني دخول الدولة في فوضى لن تنتهي، وتعزز من فكرة الانقسام والسقوط".
وشدد على أنه "لا يجب عدم إغفال أن إقصاء الحركة الإسلامية السودانية، فكرة غربية فرضتها القوى المناوئة للسودان، على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلا عن الإمارات، التي عملت منذ اللحظات الأولى على الدفع في اتجاه سحق الإسلاميين، وعملت على دفع حكومة حمدوك، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في ذلك الاتجاه".
"لكن الخطة فشلت أمام الاصطدام بالواقع، وحقيقة أن اجتثاث الإسلاميين عملية شبه مستحيلة" يستدرك الناشط السوداني.
وتابع: "خطورة المرحلة الانتقالية في السودان، تكمن في الاحتياج إلى قيادة قادرة على تجاوزها ورأب الصدع، وشق طريق يؤمن انتقال ديمقراطي عن طريق صناديق الاقتراع، دون الانزلاق إلى نزاعات غير محسوبة العواقب".
مكون رئيس
أما السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبدالعاطي، فقال لـ"الاستقلال"، إن "وجود التيار الإسلامي في الحياة العامة، وداخل مؤسسة الحكم، ثم البرلمان وإدارة الولايات، أمر طبيعي وحتمي، لأنه مكون رئيس من مكونات المجتمع والدولة"
وأضاف: "المستهجن والمستغرب محاولة اقصاء ذلك التيار العريض، بمختلف توجهاته، فهل يقبل تنحية ملايين المواطنين عن أداء حقوقهم وواجباتهم، فرضا لأجندة مخالفة تحت أي دعوة كانت".
وأوضح عبدالعاطي، أن "هذا ما حاولت فعله قوى الحرية والتغيير ومن ورائهم الشيوعيون، إذ فعلوا كل ما يمكن فعله لسحق الإسلاميين، بداية من إغلاق الجمعيات الخيرية، وصولا إلى حل منظمة الدعوة الإسلامية وإخراجها من السودان، ثم السعي إلى فرض العلمنة بالقوة والسلاح إذا لزم الأمر كما صرح بعض قادتهم من قبل".
وأورد: "كل دعوة تقر باستبعاد الأحزاب الإسلامية، هي تخريبية، تهدف إلى الانقسام المجتمعي، وستكون لها تبعات كارثية، قد تتطور إلى حرب أهلية، كما حدث في ليبيا واليمن، عندما حاولت أنظمة ودول سحق الإسلاميين، فلم تجن بعدها إلا الحرب والدمار".
وأكمل: "حجم الإسلاميين في السودان وقواعدهم الشعبية، وكون الإسلام أساس تاريخ وثقافة السودان، وأن الشعب بقبائله وطوائفه مسلمين على مذهب أهل السنة والجماعة، هي حقيقة راسخة ويجب أن تقبل من الأحزاب المخالفة التي مهما بلغت لن تصل إلى ثقل وعدد الإسلاميين، وهم يعلمون ذلك"
وأردف: "السودان في حاجة إلى تدشين مرحلة جديدة قائمة على المشاركة والتوافق، فنحن لا نملك رفاهية المناكفات الحزبية والأيديولوجية، لأن الجمهورية في طور تأسيس جديد، ومرحلة عنق زجاجة، نكون أو لا نكون".
المصادر
- سؤال وجواب حول تكتل "التيار الإسلامي العريض" في السودان
- الإسلاميون في السودان يعودون للساحة.. على مرأى ومسمع الجيش!
- السودان.. 8 تيارات سياسية تعلن تأسيس تحالف "التيار الإسلامي العريض"
- 10 فصائل إسلامية تندمج في السودان.. أعلنت تأسيس “التيار الإسلامي العريض”، وهذه أهدافه
- إسلاميون:محكمة تلغي قرار حل مؤسسة إسلامية كبرى في السودان
- قيادي سوداني: الإسلاميون الأوفر حظا للفوز بأي انتخابات مقبلة