بعد انسحاب الحريري.. كيف شكلت دار الفتوى مرجعية جديدة للسنة في لبنان؟
أحدث قرار رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، زعيم تيار المستقبل الأقوى سنيا، سعد الحريري في 24 يناير/ كانون الثاني 2022، تعليق عمله السياسي حتى إشعار آخر، وامتناعه مع تياره عن خوض الانتخابات التشريعية في مايو/ أيار 2022، صدمة سياسية كبيرة.
وولد تخوفا لدى قوى دولية وإقليمية مهتمة بالشأن اللبناني من حدوث مقاطعة سنية للانتخابات، مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من خلل كارثي في المعادلات الطائفية الدقيقة في بلد هش التوازن مثل لبنان.
حائط صد
وبعد انسحاب الحريري، تحركت دار الفتوى سريعا، وقام المفتي عبد اللطيف دريان، أرفع مرجع ديني سني بلبنان، في 28 يناير، بزيارة مفاجئة إلى السراي الحكومي.
ليجتمع هناك مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ومن ثم توجها معا لتأدية صلاة الجمعة في المسجد العمري الكبير وسط بيروت، والتقى بهما هناك رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة.
وانتهز ميقاتي الفرصة لإطلاق موقف متقدم من قلب المسجد يؤكد فيه على مشاركة السنة في انتخابات مايو، وأن المقاطعة غير واردة على الإطلاق.
بل إنه حض السنة على المشاركة الكثيفة في الاستحقاق الانتخابي، وذلك تحت سمع وبصر المفتي دريان.
بيد أن بعض القوى السياسية في لبنان رأت في مبادرة المفتي دريان رسالة أبعد من التأكيد على عدم مقاطعة السنة.
فثمة من فسرها على أنها لقطع الطريق على محاولة بعض الأحزاب والشخصيات وراثة مقاعد كتلة المستقبل.
واعتبرها بعض المحللين السياسيين مؤشرا على دور سياسي تعد له دار الإفتاء، بالتزامن مع انتشار أنباء عن إنشاء جبهة سياسية سنية عريضة، تحت عباءة دار الفتوى.
تخوض غمار الانتخابات التشريعية حفاظا على وحدة الصف السني، ومنع اختراقه سواء من حزب الله الشيعي، أو من حزب القوات، أو التيار الوطني الحر المسيحيين.
خطاب معتدل
لم يُعرف عن دار الفتوى في لبنان، وهي مؤسسة حكومية أنشئت عام 1922، بعد سنتين على ولادة الدولة اللبنانية عام 1920، وتتبع رئاسة الحكومة، القيام بأدوار سياسية.
وذلك على عكس البطريركية المارونية التي تعد المؤسس الفعلي للدولة بجغرافيتها الحالية وأدوارها السياسية والاقتصادية.
علاوة على أن بكركي (مقر البطريركية المارونية)، كانت تعتبر مرجعا غير رسمي للحكم في لبنان، إلى أن بزغ نجم حزب الله، وتحول أمينه العام إلى مرجع أكثر قوة وتأثيرا في قرار الدولة.
وتميزت دار الفتوى عبر تاريخها بخطاب معتدل وهادئ، واكتفت بالمهام الموكلة بها، وهي إصدار الأحكام الشرعية الخاصة بالطائفة السنية، وإدارة المدارس الدينية، والإشراف على المساجد.
ويأتي ذلك ضمن سياق النظام الطائفي اللبناني، والذي تتولى فيه كل طائفة إدارة شؤونها الداخلية بنفسها.
إضافة إلى أن مفتي الجمهورية ليس اختيارا لبنانيا صرفا، بل إن للرياض والقاهرة، ودمشق سابقا، دورا وتأثيرا في اختياره.
أما الانتخابات فهي مجرد إجراء شكلي، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون مفتي الجمهورية شخصية معتدلة، تسمو فوق الانقسامات السياسية.
الاستثناء الوحيد كان إبّان الحرب الأهلية (1975-1990) حينما بادر مفتي الجمهورية آنذاك، الشيخ حسن خالد، إلى القيام بأدوار ومبادرات سياسية جريئة وبارزة.
ولم يكن ذلك نتيجة رغبة شخصية، بل بسبب تحلل الدولة وانهيار مؤسساتها وسيطرة الميليشيات الطائفية على البلاد، وتحول خالد بسبب مواقفه الى مرجعية سنية ووطنية لا يمكن تجاوزها.
إلا أنه اغتيل بانفجار سيارة مفخخة في مايو/ أيار 1989، ووجهت أصابع الاتهام إلى الاستخبارات السورية بالوقوف خلف الحادثة، بسبب ما عرف عنه من معارضته سياسات نظام حافظ الأسد، ورفضه الخضوع لإملاءاته.
بعدها، عادت دار الفتوى الى الأدوار التقليدية المنوطة بها، وابتعدت تماما عن الشأن السياسي. ولا يزال طيف المفتي خالد حاضرا في أذهان السنة حتى اليوم، فخرا واعتزازا عند الجمهور، واحتراما واعتبارا عند العلماء والمشايخ في الدار.
وفي حقبة ما بعد الحرب الأهلية، طغى وهج رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري على كل ما عداه، ما دفع دار الفتوى والمفتين الى دعمه وتأييده، واستمر الحال كذلك مع وريثه السياسي سعد.
الرزق السائب
أما اليوم، فإن ابتعاد سعد الحريري، والفراغ الكبير الذي خلفه على الساحة السنية، دفع مفتي الجمهورية إلى اقتحام المشهد السياسي.
ويحمل تحرك المفتي دريان بحسب الكاتب المتخصص بالشؤون الإسلامية أحمد الأيوبي، بعدين رئيسين: الأول التأكيد على عدم مقاطعة السنة للانتخابات التشريعية، والثاني قطع الطريق على بعض القوى السياسية المسيحية والشيعية التي أظهرت شهية مفتوحة لقضم ما تيسر لها من المقاعد السنية.
وأكد الأيوبي لـ"الاستقلال" أن حصص الطوائف النيابية مُثبتة بموجب الدستور والقوانين، ولا يمكن لأحد أن يتلاعب بها، أما المقصود بالقضم هو تبني بعض الأحزاب المسيحية دعم وترشيح شخصيات سنية قادرة على الفوز في الانتخابات".
ولم يمر سوى ساعات على المشهد السني الجامع في صلاة الجمعة بالمسجد العمري، حتى زار رئيس الجمهورية ميشال عون، مقر دار الإفتاء غرب بيروت، في 29 يناير، والتقى المفتي عبد اللطيف دريان.
وأشاد عون في تصريح له عقب اللقاء بـ"الدور الذي تلعبه الطائفة السنية في المحافظة على وحدة لبنان وتنوعه السياسي"، وأكد أن "الطائفة السنية مكون أساسي، ولا نؤيد أبدا مقاطعتها للانتخابات".
بيد أن مصادر مقربة من دار الفتوى قالت لصحيفة "الأنباء" الإلكترونية، إنه "إذا كان الهدف من الزيارة هو إقناع السنة بالمشاركة في الانتخابات، فالسنة يشكلون أكبر مكون وطني، ولم يسجل عليهم مقاطعة الانتخابات في تاريخهم منذ اغتيال رياض الصلح (1950)، ورفيق الحريري (2005)، وحتى بعد عزوف سعد الحريري.
وأضافت المصادر، "أما إذا كانت الزيارة لتعويم باسيل (صهر رئيس الجمهورية ورئيس أكبر تكتل برلماني مسيحي)، فهذا لن يحصل على الإطلاق".
من جانبه، نقل الكاتب السياسي نقولا ناصيف عن المفتي دريان قوله على مسمع الرئيسين ميقاتي والسنيورة: "إذا ظن أحد أن السنة رزق سائب يُعلّم الناس الحرام، فهو مخطئ أيا كان. لن نسمح لأحد بالتعامل مع السنة على أنهم رزق سائب".
هذا الكلام اعتبره ناصيف في مقالة له بصحيفة "الأخبار" المحلية، في 1 فبراير/ شباط 2022، أنه موجه إلى من سارعوا إلى محاولة السطو على إرث الحريري فور إعلان اعتزاله، لا سيما شقيقه الأكبر بهاء، ورئيس حزب القوات سمير جعجع.
مرجعية مرحلية
ويقول الكاتب السياسي منير الربيع، لـ"الاستقلال"، إنه "بعد إعلان الحريري عزوفه، بدأت محركات شخصيات سنية تدور، ولا سيّما حركة رؤساء الحكومة السابقين بالتعاون مع مفتي الجمهورية، الذي يحاول تحويل دار الفتوى إلى مرجعية سياسية مرحلية حتى موعد الانتخابات النيابية".
ويلفت الربيع إلى "تراجع السنية السياسية في المنطقة والإقليم وليس في لبنان وحده، فمشروع نحرهم سياسيا قائم منذ اجتياح العراق، واستكملت العملية في سوريا بسحق الثورة، ثم برز التراجع الخليجي الكبير عن المشرق العربي".
ويؤكد أن "السنة لم ينجحوا في لبنان أو سوريا أو العراق، في بلورة مشروع قادر على استنهاض العرب".
ويخْلُص الربيع إلى أنه ثمة دور يحاول المفتي دريان القيام به، بعد أن وجد نفسه ضمن معمعة الضياع السني، وهو يعلم أن "هناك موجة سنية (شعبية) ليست مع رؤساء الحكومات، وهذا ما يجعله حذرا في حركته، وهو بلا شك يواجه تحديات كثيرة ليتمكن من الخروج من واقع إلى فرض أمر واقع جديد".
من جانبه، نقل الكاتب السياسي زياد عيتاني عن المفتي دريان قوله أمام الوفود التي تزوره أن "السنة أمة وليسوا طائفة. لا أحد يمكنه أن يحل مكاننا في الأرض كما في السياسة والمؤسسات. لا أحد يمكنه أن يختزل قرارنا، أو أن يضع يده عليه. الحلول دائما تخرج من كنف السنة، ولا حل في لبنان من دونهم".
وأشار عيتاني في مقال نشره موقع "أساس ميديا" الإلكتروني حمل عنوان "المفتي يطلق لاءاته الثلاث"، بتاريخ 4 فبراير 2022، إلى أن المفتي يشدد على زواره ضرورة حث الناس على التصويت في الانتخابات المقبلة.
ونقل عن المفتي قوله: "عبر التصويت نحافظ على دور السنة وفعاليتهم، والتصويت الكثيف يمنع أي طرف من خطف قرار السنة. لينتخب الناس من يرون فيه الخير والصلاح".
ويؤكد المفتي بشكل حاسم أن "دار الفتوى لن تكون ماكينة انتخابية لأي مرشح. هذا كلام نهائي لا تراجع عنه. هذه الدار هي ملجأ وراعية لكل المرشحين والناخبين معا عبر التأكيد على ضرورة المشاركة ترشحا وتصويتا".
وفي نهاية مقاله، أكد عيتاني أن "مفتي الجمهورية لا يمكن أن يكون عضوا في لجنة أو منصة أو جمعية. فهو فوق كل هذه التكتلات والتجمعات والمسميات".
وأضاف: "هو المرجعية عندما تغيب كل المرجعيات. وهو العمامة التي لا تتسع إلا لرأس واحد، رأس يحمل ذاكرة أمة وهمومها وتطلعاتها. فلا يحاولنّ أحد أن يختطف هذه العمامة، أو أن يسعى إلى اختزالها، فهي فوق الاختطاف والاختزال".
المصادر
- دار الفتوى في لبنان والبحث عن الاعتدال
- رفض الخضوع للنظام السوري..31 عاماً على اغتيال مفتي لبنان حسن خالد
- الانتخابات النيابية ضرورة ودار الفتوى على مسافة واحدة من الجميع
- زيارة عون الى دار الفتوى تأخرت أكثر من خمس سنوات؟
- عون في دار الفتوى: التضامن أولاً والسنة مكون أساسي
- المفتي دريان: السنة ليسوا رزقاً سائباً
- المفتي يطلق لاءاته الثلاث