الاتحاد الإيطالي للعمل.. كيف تحول إلى أقوى جبهة شعبية أوروبية ضد إسرائيل؟

داود علي | منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

في مشهد لم تعرفه أوروبا منذ سنوات، تعرضت بعض مدن إيطاليا لشلل كامل من الشمال إلى الجنوب تحت وقع إضراب عام استمر 24 ساعة تضامنا مع غزة ورفضا للإبادة الإسرائيلية المستمرة فيها منذ سنتين.

فمن روما إلى ميلانو مرورا بنابولي وكالياري، ارتفعت الأعلام الفلسطينية فوق محطات القطارات والموانئ والمصانع، وخرج الملايين إلى الشوارع يهتفون باسم فلسطين ويطالبون حكومتهم بقطع العلاقات مع تل أبيب.

لكن اللافت هذه المرة لم يكن فقط حجم المشاركة الشعبية، بل الجهة التي قادت هذا الحراك، الاتحاد العام الإيطالي للعمل (CGIL)، أقدم وأقوى نقابات البلاد.

إذ قرر الاتحاد أن ينقل التضامن مع قطاع غزة من حدود البيانات إلى الشارع، وأن يجعل من الدفاع عن فلسطين موقفا نقابيا وأخلاقيا قبل أن يكون سياسيا.

إضراب شامل

ولبى مئات الآلاف من العمال والموظفين والمواطنين، يوم الجمعة 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، دعوة الاتحاد العام الإيطالي للعمل للمشاركة في إضراب شامل، أوقف قطاعات النقل والطيران والسكك الحديدية والخدمات العامة والخاصة.

الإضراب جاء استجابة لنداء إنساني بعد اعتراض البحرية الإسرائيلية "أسطول الصمود العالمي" مطلع أكتوبر الذي كان متوجها إلى قطاع غزة لكسر الحصار عنه ومد سكانه باحتياجاتهم الأساسية.

لكن الإضراب سرعان ما تحول إلى تظاهرة وطنية ضد سياسات الحكومة الإيطالية برئاسة جورجيا ميلوني، التي وصفت بأنها خاضعة لإملاءات إسرائيل والولايات المتحدة.

في العاصمة روما، احتشد عشرات الآلاف في ساحة "بياتزا دي تشينكويشنتو" التي امتلأت منذ الصباح بأعلام فلسطين وأصوات الهتاف، فيما وصل عدد المشاركين إلى نحو 150 ألف متظاهر بحسب تقديرات النقابات الإيطالية.

وفي ميلانو شارك ما بين 30 و100 ألف متظاهر بحسب التقديرات المتفاوتة بين الشرطة والمنظمين، ورفعوا شعارات "فلسطين حرة" و"أوقفوا المجازر" ورددوا الأغنية الثورية الإيطالية “بيلا تشاو” تضامنا مع غزة.

أما في نابولي، فقد خرجت فيها مسيرة ضخمة عرفت باسم "مسيرة فلسطين"، شارك فيها نحو 50 ألف شخص جابوا شوارع المدينة وسط هتافات تندد بالعدوان الإسرائيلي.

وفي فلورنسا وبولونيا، خرج أكثر من 100 ألف متظاهر في كل مدينة، في حين شهدت تورينو تجمعات تخطت 60 ألف مشارك.

أما في بريشيا وجنوى، فقد نزل أكثر من 50 ألف متظاهر في كل منهما إلى الشوارع، بينما شارك أكثر من 30 ألف متظاهر في ليفورنو وباليرمو، ونحو 20 ألفا في كل من بيزا وبادوفا والبندقية (فينيسيا).

وفي كالياري بجزيرة سردينيا، سار آلاف المتظاهرين من ساحة غاريبالدي عبر وسط المدينة رغم تعطل النقل العام، في مشهد أكد أن التضامن مع غزة لم يعد مقتصرا على المدن الكبرى بل شمل كامل التراب الإيطالي.

ولم تكن تلك مجرد مظاهرات رمزية، بل تعبيرا عن عودة النقابات إلى مركز الحياة العامة بعد سنوات من التراجع، ونجاحها في إعادة صياغة النقاش الوطني حول العدالة الدولية وحقوق الشعوب.

الصدام مع الحكومة 

وقد أظهرت استطلاعات للرأي أن الدعم العلني للإضراب وأسطول الصمود لأجل غزة، يتراوح بين 62 و72 بالمئة من الإيطاليين.

فيما أيد نحو نصف الناخبين اليمينيين أيضا هذه المهمة، وفق استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسستا SWG وIzi الإيطاليتان.

مع ذلك، لم يكن هذا الإضراب وليد لحظة، بل نتيجة تراكم التحركات المتواصلة مع غزة التي شارك فيها الاتحاد العام الإيطالي للعمل، بجانب الحركات الطلابية والمجتمعات العربية والإسلامية في إيطاليا، وجعلت من التضامن مع القطاع محورا دائما للنقاش العام.

ولم يثنِ تهديد وزير البنية التحتية والنقل، وزعيم حزب الرابطة، ماتيو سالفيني، الاتحاد وغيره من النقابات عن موقفها، رغم وصفه الإضراب بأنه "غير شرعي" وتحذيره من عقوبات شخصية للمضربين.

ورد الاتحاد بقوة عبر أمينه العام، ماوريتسيو لانديني، الذي قال أمام الحشود في روما: "هذا رد إنساني من شعب يرفض الإبادة، الحكومات التزمت الصمت، لكن الشعوب لا تزال تدافع عن القيم الإنسانية". 

وأضاف: "المتظاهرون هم من يدفعون الضرائب ويحافظون على هذا البلد، والحكومة عليها أن تستمع بدلا من تهديدهم".

أما جورجيا ميلوني، فقد اتهمت الاتحاد بـ" تسييس القضايا الخارجية" و"تعطيل مصالح الإيطاليين في عطلة نهاية الأسبوع".

لكن الرد من لانديني جاء قاسيا بالقول: "لم أتوقع أن تنحدر رئيسة الوزراء إلى هذا المستوى، نحن لا نضر بإيطاليا، بل نحاول أن ننقذ روحها من التواطؤ مع الإبادة".

ويعكس هذا السجال عمق الفجوة بين يمين قومي يربط سياسته الخارجية بالتحالف مع واشنطن وتل أبيب، ويسار اجتماعي يرى في التضامن مع فلسطين واجبا أخلاقيا.

تأثير متصاعد 

وبحسب تقرير مجلة "جاكوبين" الأميركية في 3 أكتوبر 2025، فإن الاتحاد العام الإيطالي للعمل أعاد إحياء فكرة التضامن الأممي التي تلاشت في أوروبا خلال العقود الأخيرة؛ إذ أثر موقفه من غزة بوضوح في النقابات الأوروبية الأخرى.

ففي فرنسا، أصدرت الكونفدرالية العامة للشغل (CGT) بيان دعم مشابه، وفي إسبانيا شارك اتحاد العمال (CCOO) في مظاهرات تضامنية، بينما دعا اتحاد الموانئ في اليونان إلى مقاطعة السفن الإسرائيلية.

وعقبت "جاكوبين" أنه بهذا المعنى، تحولت إيطاليا بفضل حراك الاتحاد العام "CGIL"، إلى منصة أوروبية جديدة للتضامن مع فلسطين، في وقت تصطف فيه معظم الحكومات خلف تل أبيب أو تلتزم الصمت.

وأشارت إلى أن ما يفعله الاتحاد يتجاوز البعد الإنساني؛ إذ يعيد النقابات العمالية إلى مركز النقاش السياسي بعد سنوات من التهميش.

كما يظهر أن الضمير العمالي يمكن أن يكون بديلا عن عجز الطبقات السياسية، التي تواطأت في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، وفق المجلة.

ويعد الاتحاد العام الإيطالي للعمل من أقدم النقابات في البلاد وأكثرها تمثيلا؛ إذ يضم أكثر من خمسة ملايين عضو موزعين على مختلف القطاعات، من الصناعة إلى التعليم والصحة والنقل.

تأسس الاتحاد عام 1944، في أعقاب سقوط النظام الفاشي (عقب الحرب العالمية الثانية)، على يد ائتلاف جمع الشيوعيين والاشتراكيين والكاثوليك الديمقراطيين.

ومنذ ذلك الحين، أصبح ركيزة أساسية في بناء الجمهورية الإيطالية الحديثة، وكان له دور حاسم في ترسيخ دولة الرفاه الاجتماعي وصياغة قوانين العمل والضمان الاجتماعي.

لكن ما يميز الاتحاد العام عن غيره هو أنه لم يكتفِ بالدفاع عن مصالح العمال في الداخل، بل حمل منذ نشأته رؤية أممية ترى في التضامن مع الشعوب المقهورة امتدادا طبيعيا للنضال العمالي.

ومن هنا، لم تكن فلسطين قضية بعيدة عن أجندته، بل حاضرة دوما في بياناته ومؤتمراته وتحركاته.

الانحياز إلى فلسطين

وفي سبعينيات القرن الماضي، حين كانت منظمة التحرير الفلسطينية تخوض معارك الاعتراف الدولي، كان الاتحاد العام الإيطالي من أوائل المؤسسات الأوروبية التي طالبت علنا بدعم الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير.

نظم الاتحاد حينها حملات مقاطعة للشركات المتورطة في أنشطة الاستيطان، وشارك في المؤتمرات الدولية المناهضة للتمييز العنصري والصهيونية.

وفي الثمانينيات، دعم الاتحاد حركات التضامن مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وأرسل بعثات عمالية إلى المخيمات لتقديم المساعدة.

وفي تسعينيات القرن العشرين، ومع تراجع الحركات اليسارية الأوروبية عن خطابها المناهض للاستعمار، حافظ الاتحاد على مواقفه، وانتقد اتفاق أوسلو للسلام عام 1993، بصفته تسوية غير عادلة تكرس التبعية الفلسطينية.

وبعد عام 2007، ومع فرض الحصار على غزة، دعا الاتحاد إلى إنهائه فورا وشارك في فعاليات دعم الأساطيل الإنسانية المتجهة إلى القطاع.

ومنها "أسطول الحرية" و"أسطول الصمود العالمي"، الذي كان اعتراضه الشرارة المباشرة لإضراب أكتوبر الأخير.

وفي 3 أكتوبر 2025، تحدثت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية عن الدور الذي لعبه الاتحاد في تحريك الجماهير الإيطالية. 

وقالت: "بعد سنوات من الركود الاجتماعي في جنوب أوروبا، عادت إيطاليا إلى واجهة النضال الجماهيري، ومن اللافت أن سكان غزة المحاصرين وجدوا في هذه الانتفاضة الشعبية الإيطالية مصدرا للأمل". 

وتابعت: "إنها تعبئة تكتسب بعدا إنسانيا وسياسيا بالغ الأهمية؛ إذ تضغط على الحكومات الغربية لوقف دعمها لإسرائيل وإعادة التقدير لمبادئ القانون الدولي". 

وأضافت أنه "بدون هذا الدعم الغربي الحكومي، ستنهار آلة الإبادة الإسرائيلية، ولهذا، فإن تعبئة الشعب الإيطالي تمثل اليوم مصدر أمل ملموس لشعب غزة".