أرمن مصر.. "دولة داخل كنيسة" تردد نشيدها وتعلم لغتها وترفع علمها في رمسيس

12

طباعة

مشاركة

وضع "خاص" و"متميز" تعيشه الجالية الأرمينية في مصر، وذلك منذ اليوم الأول لقدومهم إليها، ووصولهم فيها لأعلى المناصب خلال العصر العباسي والفاطمي والمملوكي والعثماني، وحتى تولي الأرميني "نوبار باشا" منصب أول رئيس وزراء في تاريخ مصر الحديث، ما جعل منهم "دولة داخل دولة".

ويتفوق الأرمن على غيرهم من الجاليات التي تعيش في مصر بحفاظهم على التراث الثقافي والفكري والتعليمي الأرميني، ويتجمعون بأرقى مناطق القاهرة والإسكندرية، ويشتهرون بتجارة المجوهرات والذهب والألماس.

"دولة" الأرمن

مسؤول بإحدى مدراس الأرمن في مصر تحدث لـ"الاستقلال"، عن الخصوصية الكبيرة التي يوليها الأرمن لتعليم أبنائهم، كما حاول الاقتراب من نمط حياتهم الخاص، مؤكدا أنهم يمثلون "دولة داخل الدولة"، لكنهم يعيشون بقلوبهم في أرمينيا ويحيون تراثها وتاريخها ويرفعون علمها وينشدون نشيدها.

وبشأن مقصده من تعبير "دولة داخل الدولة"، لفت إلى "ارتباطهم الكبير بالوطن الأم أرمينيا وأنها تعيش معهم في مصر، إذ يستخدمون اللغة الأرمينية ويستعيدون الرقصات والفلكلور الشعبي والأغاني الأرمينية ويحرصون على الاحتفالات الرسمية وكأنهم يعيشون هناك".

وأوضح أن "الجالية الأرمينية تتمثل الحياة في جو أرمينيا، لذا فإن لديهم عاداتهم وعالمهم الخاص، ويقومون بزيارة العاصمة يريفان شبه سنوي، حتى لا تنقطع الصلة بها، ويتزوجون من بعضهم حرصا على نقاء السلالة".

وأكد أن لـ"الأرمن حاليا ثلاث مدارس راقية، اثنتان بالقاهرة وواحدة بالإسكندرية، أهمها (كالوسديان نوباريان)"، موضحا أن "الجالية الأرمينية لا يلحقون أبناءهم بغير مدارسهم التي لا تزيد فيها كثافة الفصل عن 15 طالبا، ومستواهم العلمي والدراسي متميز جدا".

وأضاف: "يتكفل مجلس الجالية بمصروفات المتفوقين ويلحقهم بأفضل الجامعات الأجنبية والدولية والخاصة بمصر وأوروبا وأميركا، أما الطلاب ضعيفي المستوى فيتم توجيههم في اتجاهين، الأول الدراسة بأرمينيا للحصول على شهادة جيدة، أو تجارة الألماس".

وتأسست مدرسة "يغيازاريان" الدينية عام 1818، كأول مدرسة أرمينية بمصر، لكنها حاليا تحمل اسم "خورنيان" بمنطقة بولاق أبو العلا في القاهرة.

وأسس رجل الأعمال بوغوس نوبار، المدرسة الثانية للأرمن بالإسكندرية عام 1890، وأنشأ عام 1907 مدرسة "كالوسديان ڤارجان" بشارع الجلاء في القاهرة، ومدرسة "هليوبوليس" عام 1925.

وافتتح يعقوب أرتين باشا أول مدرسة في مصر للفتيات عام 1873، لينشئ الأرمن بعدها أول رياض أطفال في مصر عام 1890، ودشن الأرمن الكاثوليك أول مدرسة إعدادية للبنات في القاهرة عام 1937.

ومع قلة أعداد الطلاب الأرمن، وفي العام 2013، اندمجت المدرسة الأرمينية التاريخية وسط القاهرة مع مدرسة أخرى بمصر الجديدة شرق العاصمة، فيما يحصل 150 طالبا من الروضة حتى الصف 12 على تعليم مجاني بمدرسة "كالوسديان نوباريان".

المطربة والممثلة الأرمينية أنوشكا، وخلال احتفال وزارة الهجرة المصرية بالجالية الأرمينية سبتمبر/أيلول 2018‏، قالت إنها "من الحضانة حتى الثانوية درست بمدرسة كالوسديان الأرمينية بحي بولاق أبو العلا، ثم درست إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية".

اللغة الأرمينية

وأكد المسؤول بالمدرسة الأرمينية والذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة، على أن "الأرمينية، اللغة الأولى بجميع المواد الدراسية لطلاب الأرمن، بجانب العربية والإنجليزية والفرنسية، التي يجري تدريسها بمستويات مميزة من الحضانة وحتى الثانوية العامة".

وألمح إلى أن "خصوصية اللغة الأرمينية ذهبت حد عدم الحديث بغيرها داخل فصول مدارسهم إلا بحصص اللغات الأخرى، إذ يمنع التعامل بين الطلاب والأساتذة بأي لغة غيرها".

ووصل الأمر "حد الحديث بين أعضاء الجالية الأرمينية وفي أعمالهم التجارية وفي الاحتفالات والمراسم الكنسية بلغتهم فقط، لكنهم في المقابل يتحدثون مع المصريين باللغة العربية"، وفق المصدر.

ولفت المسؤول بالمدرسة الأرمينية في القاهرة إلى "تمسك تلك الجالية بأسمائهم الأرمينية رغم تغيير بعض الفنانين أسماءهم، مع الحفاظ على أسماء رمزية مثل نادي (أرارات) المسمى باسم جبل (أرارات) الفاصل بين أرمينيا وتركيا".

وأضاف أنه "يستمدون أسماء الطلاب من الطبيعة مثل طلال (الأخضر) وأريج (الشمس) وفارتان (شجاع)، ونوح من أسماء الأنبياء، وكأنهم يعيشون في أرمينيا التي تسكن داخل قلوبهم ويورثون ذلك الحب لأبنائهم، ودور النساء هنا حاضر بقوة إذ تتميز بعضهن بالحزم والصرامة".

وأكد المصدر في حديثه لـ"الاستقلال": أن "الأرمن لا يتزوجون إلا من أرمن مثلهم، ولا يقبلون بدخول عرق أو جنسية أخرى إلا نادرا، ومن منهم له أصول أرمينية كاملة يتميز عن أي أرميني من أب أو أم مصرية أو جنسية أخرى".

وفي هذا الإطار، ذكر مطران الأرمن الأرثوذكس الأنبا أشود مناتسكانيان، لصحيفة "اليوم السابع"، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أن "الأرمن يحافظون على هويتهم وثقافتهم ببناء كنيسة بجوارها مدرسة وأندية اجتماعية ورياضية وثقافية".

وأضاف أنهم "يعلمون أطفالهم اللغة فى مدارس الأحد اللصيقة بالكنيسة وكل المخاطبات والاجتماعات الكنسية باللغة الأرمينية؛ للحفاظ على الهوية الخاصة بهم، وعلى الروابط بالوطن الأم.

وأوضح أنهم "لا يقطعون تلك الصلة حتى لا تذوب هويتهم، ولذلك ينظمون زيارات تعليمية بين طلبة المدارس والأندية، والفرق الرياضية لأرمينيا"، مضيفا: "نحن مصريون أرمن، ولسنا أرمن مصريين". 

المسؤول بالمدرسة الأرمينية لفت أيضا إلى "حالة التكافل الكبيرة بين الجالية الأرمينية"، موضحا أنه "إثر إندلاع الحرب في سوريا (عام 2011) قام الأرمن في مصر باستقبال المهاجرين منهم وتسكينهم وإدخالهم مدارسهم، ودعمهم ماديا ومعنويا، ووقت الأزمات المالية والصحية والقانونية".

وفي هذا السياق، نشر معهد "كارنيغي للسلام" في 5 سبتمبر/أيلول 2015، تقريرا عن الأرمن في مصر، أكد فيه أن "الجالية الأرمينية تدير دولة داخل الدولة".

وأوضح التقرير أن الجالية "تقدم الخدمات لأفرادها في بلد تقتصر فيه الرعاية الاجتماعية إلى حد كبير على الإعانات الحكومية، وتحاول الحفاظ على هويتها من خلال شبكة من النوادي والمدارس والصحف والمنظمات الخيرية والكنائس".

دور هام

وبشأن تأثر الجالية الأرمينية بالمجتمع المصري، أكد المصدر أنهم "ملتزمون جدا في العمل، ويتمسكون بالأخلاق والقيم ولا يخرجون عن حدود المألوف، بل يقولون إنهم (صعايدة أرمينيا)".

وعما تمثله مصر بالنسبة لهم مع انتمائهم الواضح لأرمينيا، قال إن "هناك من يعتبر نفسه مصريا تماما، ولكن غيرهم يرى عيوبها وسوء حالتها ويقارنها بدول أخرى، وهناك من يتمسك بها ومن يرى مستقبله بمكان آخر، وفي كل الأحوال يخدمون في الجيش كمواطنين".

وأكد المسؤول بالمدرسة الأرمينية أن "السلطات المصرية تسمح للأرمن سنويا بإقامة تأبين لضحايا مزاعم (الإبادة) عام 1915، في مدارسهم وكنائسهم ونواديهم الرياضية والاجتماعية، وذلك لترسيخ مفاهيم استمرار العداء مع الأتراك".

ولفت إلى أمر اعتبره مثيرا، موضحا أنه "يجري رفع العلم الأرميني مع العلم المصري في تلك المدارس، كما يردد النشيد الوطني الأرميني مع المصري في طابور الصباح، وذلك دون اعتراض من السلطات".

وترفع الكنيسة الأرمينية الأرثوذكسية، العلمين المصري والأرميني فوق مدخلها بشارع رمسيس في حي الفجالة التاريخي.

وفي تعبير رسمي من القاهرة عن أهمية الجالية الأرمينية بالنسبة لها، قالت وزيرة الهجرة في النظام، نبيلة مكرم، خلال احتفالها بهم في سبتمبر/أيلول 2018‏، إن "الأرمن كانوا وما يزالون جزءا لايتجزأ من النسيج المصري، بل ولعبوا دورا هاما بتاريخ مصر القديم والحديث، وما زالوا يساهمون".

تاريخ ممتد

ويمتد وجود الأرمن إلى عصر الأسرات (3200 قبل الميلاد) في مصر القديمة، وظل مستمرا حتى الحكم البيزنطي لمصر، وتواصل أيضا مع الفتح الإسلامي، وحتى العصر العباسي، الذي برز فيه حاكم مصر بين أعوام (841 -849) الأرمني علي بن يحيى.

لكن الازدهار الحقيقي للأرمن كان في ظل الدولة الفاطمية، إذ تولى بهرام الأرميني الوزارة (الحكم) بالقاهرة (1134  – 1136)، ليفتح الباب لهجرة نحو 120 ألفا من الأرمن، إلا أن الوزير الأرميني أيضا بدر الدين الجمالي كان الأشهر بالتاريخ الفاطمي.

وإثر انتصار المماليك على الملك الأرميني هيثوم الثاني (1289-1307)، وسيطرتهم على مملكة "كيليكيا"، جلب المنتصرون آلاف الأرمن كعبيد للعمل بالزراعة والحرف، لكن عملهم بالجيش المملوكي مهد طريقهم لقصر الحكم بالقاهرة.

وفي عصر الدولة العثمانية، برز دور المهندس المعماري الأرميني سنان باشا، ببناء المسجد التاريخي في بولاق، وسوق القاهرة التاريخي للحبوب، وحمام بولاق الشهير.

ومثل حكم محمد علي لمصر (1805-1849)، انتقالة للأرمن، إذ استعان بهم في وظائف هامة لخبرتهم باللغات وأمور الصيرفة والنظم الأوروبية.

ومن أشهر الأسر الأرمينية التي قدمت لمصر حينها، "يوسيفان" و"نوباريان" و"أبرويان" و"تشراكيان" و"حكيكيان".

وتولى الثري الأرميني بوغوس يوسفيان، ديوان التجارة عام 1819، بعدما أقرض محمد علي وأدار تجارته، فسمح الباشا حينها للأرمن ببناء كنيستين، للأرثوذكس وللكاثوليك.

لكن الانطلاقة الأهم للأرمن بمصر الحديثة، كانت عام 1876، بتولي الأرميني نوبار نوباريان (1825-1899) منصب أول رئيس وزراء في تاريخ مصر الحديث، وهو المنصب الذي تولاه 3 مرات نهاية القرن الـ19.

وبلغ تعداد الأرمن عام 1917 نحو 12 ألفا و854، فيما أكد إحصاء 1927 وصولهم 17 ألفا و188، أغلبهم يتمركزون بالقاهرة والإسكندرية، فيما تضاعفت نسبتهم حتى عام 1950 لتصل نحو 60 ألفا.

"أرمن أزمير"، أول من أدخلوا زراعة خشخاش الأفيون عام 1824، كما أدخل الأرميني بوغوس يوسفيان من مالطة شجر المندارين (البرتقال اليوسفي) المعروف باسمه حتى اليوم، فيما أسس الأرمن أكبر مصنع للتبغ بالبلاد.

وعمل الأرمن في السينما، وأسس هرانت ناصيبيان استوديو باسمه، وبرز منهم الممثلات فيروز (أرتين كالفايان)، وشقيقتها نيللي (أرتين كالفايان)، ولبلبة (نونيا كوبليان)، وميمي جمال (ماري نزار وجوليان)، وإيمان (ليزا سركسيان) وأنوشكا.

وأيضا الموسيقي فؤاد الظاهري (جرابيد بانوسيان)، والراقصة هدى شمس، وبالعقد الأخير غزت الكثير من الراقصات الأرمينيات مصر، وأشهرهن صوفينار.

لكن تاريخ 23 يوليو/تموز 1952، لحظة فارقة في حياة الأرمن بمصر ومثل لهم انتكاسة، إذ تراجعت أوضاعهم مع التوجهات الاشتراكية وقرارات التأميم التي أصدرها الرئيس جمال عبدالناصر، والتي طالت أثرياءهم وأعمالهم ومؤسساتهم، ما دفع الكثيرين لمغادرة البلاد.

الأرمن اليوم

من بقي من الأرمن تقوقع إلى حد كبير في القاهرة قرب كنائسهم ومدارسهم ونواديهم وأسواقهم، وخاصة أحياء هليوبوليس، والنزهة، والمعادي وحلوان، فيما يحمل أغلب الأرمن الذين تبقوا (سبعة إلى ثمانية آلاف حاليا) الجنسية المصرية واكتسبها بالتبعية أبناؤهم وأحفادهم.

ومنذ ذلك الحين يحافظ الأرمن على تقاربهم وثقافتهم ولغتهم، وهو ما تقوم به الكنائس الأرمينية (4 بالقاهرة وواحدة بالإسكندرية)، إذ تدعم المدارس وتساعد الخريجين للالتحاق بالجامعات، وتحافظ على الأوقاف الأرمينية وتديرها.

ورغم قلة عددهم، يسيطر الأرمن على قطاع الصاغة والذهب، وأغلبهم رجال أعمال ناجحون، وذوي درجات علمية مرموقة بكافة التخصصات، إلا أن مشاركتهم السياسية "انكمشت تدريجيا" على غير وضع الأرمن في لبنان وسوريا. 

وحاليا، تدير الجالية الأرمينية مؤسستين خيريتين هما "اتحاد الصليب الأحمر" الأرميني و"الاتحاد الخيري" الأرميني، ولها سبعة نواد اجتماعية ورياضية بالقاهرة و4 في الإسكندرية، أهمها النادي الأرميني بمصر الجديدة.

 

وعن أعداد الأرمن، أكد رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية في مصر، الطبيب أرمين مظلوميان لموقع "العربية.نت" في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أنهم نحو 7 آلاف نسمة، معظمهم من الجيل الثالث حصلوا على الجنسية المصرية، لكنهم يرتبطون بأرمينيا ارتباطا وثيقا ويزورونها بشكل دوري.

فيما لفت مقال "كارنيغي للسلام" في 5 سبتمبر/أيلول 2015، إلى أن "أزمات الجالية تتمثل في قلة أعدادهم، ومواجهة تحدي الحفاظ على اللحمة بين أبناء الجالية، مع شيوع الزواج من غير الأرمن، وانجذاب الشباب الأرمن إلى الخارج".

وعن تنظيم الجالية الأرمينية من الداخل، كشف رئيس الجمعية الخيرية الأرمينية بالقاهرة، فيكين جيزمجيان، لـ"كارنيغي"، أنه يجري انتخاب مجلس للجالية من 24 عضوا كل 8 سنوات يرأسهم مطران الأرمن الأرثوذكس، الأنبا أشود مناتسكانيان.

وبدوره ينتخب مجلس الجالية هيئة تنفيذية كل 4 سنوات لإدارة مؤسسات البطريركية الأرمينية، المتضمنة للمدارس والكنائس والمدافن والعقارات والأوقاف الخيرية.

ورغم أن الأرمن في مصر يكتسبون جنسيتها بالمولد ويحملون بطاقات هوية مصرية، ويخدمون في الجيش، لكنهم نادرا ما ينخرطون في العمل السياسي، فليس من بينهم نواب بالبرلمان، أو وزراء حاليون أو سياسيون وحزبيون بارزون.