انسحاب الحريري من المشهد اللبناني.. هكذا يضر السنة ويفيد حزب الله
فجر رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري زلزالا بإعلانه الانسحاب من الحياة السياسية وعدم خوض الانتخابات النيابية المقبلة.
وعبر الحريري خلال مؤتمر صحفي في 24 يناير/كانون الثاني 2022 عن قناعته بأنه "لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة".
وشمل إعلان الحريري دعوة عائلته وتيار المستقبل الذي يرأسه لاتخاذ الخطوة نفسها وعدم تقديم أي مرشح للانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو/أيار 2022.
وهو ما طرح العديد من الأسئلة بشأن الأسباب الحقيقية للانسحاب من المشهد السياسي في هذه الفترة؟ وهل هي خطوة قابلة للتراجع؟ ومدى انعكاس القرار على المشهد السياسي اللبناني؟
كما تساءل آخرون عن كيفية ملء الفراغ الذي تركه الحريري على الكتلة السنية في لبنان؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تأجيل الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
أسباب مختلفة
سيطرت عائلة الحريري على المشهد السياسي السني في لبنان لأكثر من ثلاثة عقود منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990.
وجرى اختيار سعد الحريري رئيسا للوزراء ثلاث مرات خلال العقد الأخير، كانت أولاها في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 واستمرت لنحو عامين ونصف.
ثم عاد مرة أخرى في 18 ديسمبر/كانون الأول 2016 واستمر في منصبه لولاية ثالثة حتى قدم استقالته في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بعد أسبوعين من انطلاق مظاهرات واسعة رافضة للكتل السياسية ومطالبة بتغييرات واسعة على المشهد السياسي.
ورغم إعادة تكليفه بتشكيل الحكومة مرة أخرى في 22 أكتوبر 2020 فإن الحريري فشل خلال 9 أشهر في التوصل إلى توافق مع الرئيس اللبناني ميشال عون، كان أبرزها تمسك الأخير بالثلث المعطل وهو ما رفضه الأول.
و"الثلث المعطل" يعني حصول فصيل سياسي على ثلث عدد الحقائب الوزارية في الحكومة، ما يسمح له بالتحكم في قرارتها وتعطيل انعقاد اجتماعاتها.
الكاتب اللبناني سامر زريق أكد أن انسحاب الحريري من الحياة السياسية له أسباب كثيرة منها ما هو مرتبط بالداخل اللبناني وأخرى مرتبطة بالخارج.
على المستوى الداخلي أوضح زريق في حديثه لـ "الاستقلال" أن الحريري دفع ثمن التسوية الرئاسية التي أقامها مع ميشال عون وأنه لم يحسن إداراتها فانقلبت عليه، كذلك خسارته كثيرا من الحلفاء وثروته المالية الخاصة.
أما خارجيا فيرى زريق أن الباب السعودي لم يفتح للحريري وأن ولي العهد محمد بن سلمان يبدو أنه لم يدرج على جدول أعماله الحالي إعادته إلى المكانة التي كان يتمتع بها في المملكة بسبب ما تعتبره الرياض تسليم لبنان للنفوذ الإيراني بشكل كامل.
وشدد على أن تعليق العمل السياسي للحريري وتياره يخل بالتوازن اللبناني الداخلي ويعيد خلط الأوراق بالنسبة للحلفاء والخصوم.
وأكد أن هناك من سيستفيد من هذا القرار ومنهم حزب القوات اللبنانية، وهناك من سيتضرر منه وخاصة حزب الله ورئيس البرلمان نبيه بري وزعيم الطائفة الدرزية وليد جنبلاط.
أزمة سنية
ورغم وصف ديفيد غاردنر محرر الشؤون الدولية بصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، الحريري بالضعيف وغير الفعال لكنه اعتبر أن انسحابه في الوقت الحالي يترك فراغا في لبنان الذي يحتاج إلى ركيزة سنية.
وأضاف غاردنر بمقال له في 27 يناير 2022: "الحريري قال إنه نجح في منع الانزلاق إلى الحرب الأهلية، لكنه فشل في تحقيق هدفه لتحسين أوضاع الجماهير اللبنانية".
وأردف: "لقد قدم تنازلات مؤلمة وخسر الثروة التي ورثها عن والده (رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005)، واعترف بأسف أنه انتهى به الأمر إلى اعتباره مجرد جزء آخر من النخب السياسية الفاسدة التي نهبت البلاد ودمرتها".
كما اعتبر غاردنر أن انسحاب الحريري يسلط الضوء أيضا على أحد الأعراض المميتة للأزمة الحالية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وهي الغياب شبه التام للزعماء العرب السنة المعتدلين.
وينص اتفاق الطائف الموقع عام 1989 على تقسيم المناصب السياسية العليا في البلاد على الطوائف السنية والشيعية والمسيحية في لبنان.
وتشغل الطائفة السنية منصب رئيس الوزراء فيما تعد رئاسة البرلمان من نصيب الطائفة الشيعية مقابل شغل الطائفة المسيحية منصب رئيس الجمهورية.
الصحفي اللبناني عبدالرحمن صلاح أشار إلى أن إمكانية تراجع الحريري عن قراره في المدى القريب ستكون صعبة لأنها ستحمله خسائر في المصداقية.
واستدرك في حديثه لـ "الاستقلال": "لكن على المدى البعيد يبقى الأمر متاحا، خاصة إذا لم تنجح أطراف أخرى في تشكيل بديل للحريري على الساحة السنية".
وقال صلاح إن "انسحاب الحريري شكل صدمة على مستوى القيادات السياسية، وهو في الحقيقة يمثل انتزاعا لأحد أعمدة الخيمة السياسية القائمة في لبنان، الأمر الذي يزيد الضغط على باقي القوى حتى تلك التي تخاصمه".
واعتبر أن انسحاب الحريري أظهر إمكانية الاستغناء عن أحد زعماء الطوائف، "وهو ما يؤشر إلى سهولة التخلي عن البقية".
واستبعد صلاح إيجاد بديل للحريري وتيار المستقبل خلال وقت قريب، لأنه على مستوى الزعامة التقليدية، لا يوجد بيت سياسي قادر على تحمل "عبء زعامة سنة لبنان" على امتداد الوطن، وأن نضوج ظروف إيجابية لقيادة تقليدية بديلة يحتاج وقتا.
"لكن في المقابل فقد يؤدي هذا الفراغ أيضا إلى التحاق شرائح واسعة من السنة بتيارات سياسية عابرة للطوائف، وهو ما سيقوي التيار الشبابي العلماني الثوري العابر للطائفية وسيمنحه المزيد من الأصوات في الانتخابات المقبلة" بحسب صلاح.
مكسب لحزب الله
ألمح البعض إلى أن موقف الحريري له ارتباط بشكل أو بآخر بالموقف العربي والخليجي من الأوضاع الحالية في لبنان الذي يتجه إلى مزيد من القطيعة.
وقالت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في 26 يناير 2022 إن الحريري لا يرى نفسه في معادلة القوة في لبنان طالما أصبح الموقف الخليجي معاديا للحكومة الحالية التي تسيطر إيران على خياراتها الإستراتيجية.
أما زريق فأكد أن المبادرة الكويتية ببنودها الـ 12 (قدمت إلى حكومة بيروت أواخر يناير 2022) تشدد على إعادة الاعتبار للدولة اللبنانية وعمل المؤسسات وتذكر بأهمية العودة إلى تطبيق الدستور والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، وعدم استخدام بيروت منصة لاستهداف الدول الخليجية والعربية.
وأضاف زريق: "وهو مسار طبيعي ومطالب منطقية، خاصة أننا نطالبهم بالوقوف إلى جانبنا ودعمنا ماليا للخروج من الأزمة، وعلينا أن ننتظر كيف سترد الحكومة اللبنانية على هذه المبادرة ليبنى على الشيء مقتضاه".
ويشير تحليل لموقع ناسداك الأميركي إلى أن خطوة الحريري ستؤدي إلى تسريع تفتيت المجتمع السني الذي هيمنت عليه عائلته لمدة 30 عاما بدعم سعودي.
لكن السعودية انقطعت عن ذلك المجتمع لاحقا وتخلت عن الانخراط في السياسة اللبنانية التي كلفت المليارات دون أن تنجح في كبح جماح حزب الله.
ونقل الموقع في 26 يناير 2022 عن مصدر مطلع قوله بأن حزب الله يتطلع بالفعل إلى تحقيق مكاسب محتملة لحلفائها في المجتمع السني وهم سياسيون محليون يفتقرون إلى النفوذ الوطني لحزب الحريري.
وأشار التحليل إلى أن زلزال الحريري السياسي جاء على خلفية تصعيد الصراع الأوسع بين إيران ودول الخليج العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة.
لكن الصحفي عبدالرحمن صلاح أكد أن انسحاب الحريري في هذا الوقت بالذات، هو مؤشر على أن طبيعة العلاقة بين دول الخليج ولبنان دخلت في تغير جوهري.
وبين أن الأسلوب الذي مثله الحريري في التعاطي مع حزب الله قد أصبح من الماضي، وأن هناك أسلوبا سيكون صداميا معه خلال الفترة المقبلة.
التأثير على الانتخابات
تسبب قرار الحريري في زيادة تخوفات الشارع السياسي من تأجيل الانتخابات البرلمانية التي جرى خلال الشهور الأخيرة خلافات كثيرة حول تحديد موعد إجرائها.
وعلق الرئيس اللبناني ميشال عون بأنه لا يرى سببا لتأجيل تلك الانتخابات المقرر إجراؤها في مايو/أيار 2022، بعد إعلان الحريري مقاطعتها.
وبعد اجتماع لعون مع مفتي لبنان الشيخ عبداللطيف دريان، أهم رجل دين سني في البلاد، في 29 يناير 2022، أكد الرئيس على أهمية الدور الذي تلعبه الطائفة السنية في المحافظة على وحدة البلد وتنوعه السياسي.
وبعد أن أشار عون إلى تجهيز كل التحضيرات المطلوبة لإجراء الانتخابات في موعدها، أكد أن الدول الغربية تريد إجراء الانتخابات في وقتها المحدد.
ويهيمن حزب الله "الشيعي" على أغلبية البرلمان اللبناني منذ الانتخابات الأخيرة التي جرت في 2018.
ويرى صلاح أن انسحاب الحريري لا يشكل مبررا دستوريا ولا سياسيا ولا أمنيا لتأجيل الانتخابات، غير أن القوى السياسية الخائفة من تحولات جذرية قد تجد في قرار الرجل حجة لتأجيلها.
وأشار إلى أن المعلومات المتوفرة تفيد بأن أغلب القوى السياسية لا تستبشر خيرا بنتائج الانتخابات المقبلة، وأن شرائح واسعة من مؤيديها ستكون بين خياري التصويت للوائح الحراك الشعبي أو للامتناع عن المشاركة، وخاصة فئة الشباب.
فيما أكد الكاتب اللبناني سامر زريق على أن المجتمع الدولي ومعه الدول العربية يدفعان لإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها.
وأضاف في حديثه لـ "الاستقلال": "البعض حاول الترويج أن تعليق الحريري مقدمة لتأجيل الانتخابات، أنا لا أرى ذلك".
وبين أن "الانتخابات قد تؤجل بحدث أمني كبير مفتعل، لا بانسحاب الحريري؛ لأنه ليس انسحابا كليا لطائفة بعينها بقدر ما هو تعليق عمل لحزب أغلبيته سنية".
ومنذ أكثر من عامين، يعاني اللبنانيون أزمة اقتصادية طاحنة تسببت في خسارة العملة المحلية أكثر من 80 بالمئة من قيمتها مقابل العملات الأجنبية ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وازدياد صعوبة الوضع المعيشي.
وفي 17 أكتوبر 2019، خرجت تظاهرات شعبية غير مسبوقة استمرت عدة أشهر، حمل فيها المتظاهرون القوى السياسية التي تحكم البلاد المسؤولية الكاملة عن تدهور الوضع الاقتصادي بسبب الإهمال وتفشي الفساد واستغلال النفوذ.