ماض مخيف ومستقبل حذر.. ماذا وراء عودة سطوة المخابرات السودانية؟
في ظل الحراك الشعبي المتصاعد الرافض للانقلاب في السودان، برز لجوء المكون العسكري إلى إعادة صلاحيات واسعة لجهاز المخابرات العامة والقوات الأمنية الأخرى، أخطرها صلاحية الاعتقال، والتحصين الكامل للأفراد، وهو أمر غير مسبوق منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير.
ونفذ قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 انقلابا عسكريا على القوى المدنية ما أدخل البلاد في حالة جديدة مع عدم الاستقرار.
وفسرت إعادة الصلاحيات إلى جهاز المخابرات العامة بأنه تهديد باستخدام القوة المفرطة، والمزيد من العنف لوقف الاحتجاجات القائمة، لكنه أعاد إلى الأذهان ماضي ذلك الجهاز خلال عقود طويلة، عندما نفذ انتهاكات مروعة، وابتدع ظاهرة بيوت الأشباح التي كانت تبتلع المعارضين.
وفي ذلك عودة أيضا إلى أساليب قائد الجهاز السابق اللواء صلاح قوش، الذي كان يعد أخطر رجال عمر البشير، وهو الوحيد من نظامه الذي استطاع الهروب والتخفي حتى الآن، بشكل مجهول ومقلق للمعارضة والأحزاب السياسية.
صلاحيات واسعة
في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، أصدر البرهان قرارا نص على أنه يحق لكل من جهاز المخابرات العامة والجيش والشرطة والدعم السريع اعتقال الأشخاص الذين يتوقع مشاركتهم في جريمة تتصل بالطوارئ، والمتسببين بالتخريب وأعمال العنف، والداعين إلى الأنشطة السالبة.
كما أعطى القرار، الموقع من قبل البرهان، هذه القوات النظامية سلطة دخول أي مبنى أو تفتيشه، أو تفتيش الأشخاص، وفرض رقابة على أي ممتلكات أو منشآت، والحجز على الأموال، أو المحال، أو السلع التجارية، وحظر أو تنظيم حركة الأشخاص، إضافة إلى أي سلطات أخرى يراها مجلس السيادة.
القرار أثار اعتراضات جمة من قبل المتظاهرين والمعارضين للمكون العسكري في البلاد، حيث اعتبروه غير دستوري ومنعدم الجدوى، لأنه أتى بعد حل الحكومة، وفي ظل إجراءات انقلابية.
لكن العميد الطاهر أبو هاجة، مستشار القائد العام للقوات المسلحة السودانية، برر القرار، وأصدر بيانا في 29 ديسمبر 2021، قال فيه "إن إعادة بعض الصلاحيات مؤخرا لجهاز الأمن والمخابرات العامة أمر طبيعي في ظل الظروف الحالية".
وأضاف أن "قرار إعادة الصلاحية هدفه وقف المهددات الأمنية لأمن واستقرار الوطن، مثل التخريب والتخابر، ومكافحة الإرهاب وخلاياه المنتشرة وتجارة المخدرات والجريمة العابرة للحدود وغيرها".
فيما تناولت صحيفة "الراكوبة" المحلية، القرار بشكل سلبي، إذ اعتبر رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير، أن "إعادة سلطات الاعتقال إلى جهاز الأمن ومصادرة الممتلكات ردة عن الحريات التي أتاحتها ثورة ديسمبر".
وأوضح الدقير: "أنه ردة خطيرة عن الحريات وعودة إلى عهد المخلوع"، مشددا "أن الشعب السوداني لن يعود خطوات إلى الوراء".
وحزب الأمة القومي السوداني، أحد أطراف العملية الانتقالية في السودان، أصدر بيانا في 29 سبتمبر/ أيلول 2021، دعا فيه إلى ضرورة إعادة "هيئة العمليات" بجهاز المخابرات العامة.
وشدد البيان الذي أصدره قائد الحزب، مبارك الفاضل المهدي، "على أن هناك ضرورة لإعادة هيئة العمليات بجهاز المخابرات العامة لمساعدة الجهاز في التصدي لأي أنشطة تستهدف زعزعة أمن واستقرار الوطن ودعم الشرطة في عملية الأمن الاجتماعي".
مراحل متعثرة
ومع الثوب الجديد لجهاز المخابرات السوداني، لا يمكن إغفال السنوات السابقة، عندما دخلت المؤسسة الاستخباراتية في طور تخبط وارتباك.
وتحديدا في 14 يناير/ كانون الثاني 2020، عندما استيقظ السودانيون على وقائع اشتباكات عنيفة، وإطلاق نار كثيف، وقوات أمنية تغلق طرقات رئيسة، وسقوط قتلى وجرحى، في قاعدتين تابعتين لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، أحدهما في منطقة كافوري بالعاصمة الخرطوم، والأخرى في ضاحية الرياض شرقي العاصمة.
سرعان ما تبين آنذاك أن تلك الأحداث وراءها عناصر من قوات هيئة العمليات، الجناح المسلح لجهاز المخابرات، رافضة لخطة إعادة هيكلة الجهاز، الذي يقدر عدد أفراد هيئة العمليات فيه بـ 13 ألف عنصر، منهم قرابة 7 آلاف في ولاية الخرطوم فقط.
وكان نظام الهيكلة قد استهدف نزع الجناح العسكري للمخابرات، وصبغها بلباس جديد يقوم على جمع المعلومات وتحليلها فقط، دون أن يكون لها أي بعد أمني أو حركي، كما كان في السابق.
لكن يبدو أن التحديات الجمة التي واجهت السلطة الانتقالية، ساهمت في تغيير إستراتيجيتها تجاه المخابرات، لا سيما أن الاحتجاجات أخذت طابعا دمويا.
ومن ذلك ما حدث في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، مع سقوط 42 شخصا خلال قمع المظاهرات المعارضة للانقلاب العسكري، ضد البرهان وبقية الجنرالات.
وفي نفس اليوم عين المجلس السيادي مديرا جديدا لجهاز المخابرات العامة، هو أحمد مفضل الذي كان يشغل في السابق منصب نائب مدير الجهاز.
هذا الأمر عزز من منهجية جديدة، ومهام مختلفة للجهاز بعيدا عن جمع المعلومات، وهو ما حدث مع قرارات التحصين ومنح الضبطية القضائية بالقبض والقمع.
ماض مخيف
تلك القرارات جددت عهودا قديمة، حيث كان لجهاز المخابرات والأمن الوطني السوداني كلمته العليا فيها داخل البلاد، زمن اللواء صلاح قوش، الذي أسس الجهاز بتشكيلاته، وحوله إلى المؤسسة الأمنية رقم واحد.
وخلال العهد الذهبي لجهاز المخابرات في مطلع الألفينيات، اتهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور من قبل محكمة العدل الدولية.
وقد ظهر مدى قوة الجهاز وأسبقيته عن بقية الأجهزة الأمنية عندما نجح في التصدي للمحاولة الانقلابية الأشهر لحركة العدل والمساواة المتمردة في دارفور، في 10 مايو/أيار 2008، بعد أن استطاعت الوصول إلى مدينة أم درمان المركزية داخل العاصمة السودانية.
وفشل الجيش السوداني في رصد قوافل السيارات العسكرية للحركة التي انطلقت من الحدود السودانية التشادية، وتجاوزت صحاري غرب السودان حتى أم درمان وسيطرت حركة "العدل والمساواة" على بعض المواقع.
بيد أن قوات الأمن تمكنت من مواجهتها وهزيمتها، فيما يعرف بعملية "الذراع الطويل"، وقد استخدم جهاز المخابرات والأمن أساليب غاية في العنف طالت المدنيين لقمع الحركات المسلحة في دارفور بعد ذلك.
ونفذ أيضا حملات اعتقال موسعة واغتيالات وتصفيات جسدية، وأصدر قوش حينها قرارا مباشرا باستبعاد وإخراج كل المنظمات الحقوقية العاملة في إقليم دارفور.
وبعد سنوات يعود جهاز المخابرات من جديد ويبرز على الساحة، مع بعض تخوفات من تنفيذ أعمال وحشية تنكيلية، وعودة ظاهرة "بيوت الأشباح" التي كانت تشتهر بها أجهزة الأمن السودانية ضد معارضيها.
عهد جديد
عضو حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) سابقا السياسي السوداني إبراهيم عبدالعاطي يرى أن "السعي إلى عودة دور جهاز المخابرات العامة السوداني أمر طبيعي لأي مؤسسة حاكمة".
وأوضح في حديثه "للاستقلال" أنه "بلا شك أن عودة مؤسسات الدولة الوطنية، حتمي للسودان في ظل حالة السيولة الأمنية والسياسية القائمة، ووسط حركات احتجاجية ودعوات انفصالية من الشرق والغرب".
إضافة إلى تدخلات خارجية من قوى دولية وإقليمية تريد أن تحدد وترسم واقع السودان حسب مصالحها البحتة، ما يؤدي إلى مزيد من إضعاف الدولة وتشرذمها.
وأضاف عبدالعاطي: "مع مرحلة ما بعد البشير، وصعود حكومة قحت (عبدالله حمدوك) واستلامها السلطة، كانت تحاول إسقاط وإعادة هيكلة جهاز المخابرات بشكل خاص أو على أقل تقدير تحييده عن مهامه الرئيسة، لأنهم يعلمون ما يمثله من حجر عثرة أمام محاولتهم فرض أجندتهم الخاصة على مؤسسات الحكم، وفي الشارع".
واستطرد: "ظهر ذلك بقوة عام 2012، عندما اصطدمت هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات بالجيش، وهو ما كان ينذر أن الجهاز برمته على المحك، وأن الأوضاع يمكن أن تسوء كثيرا، لولا إدراك القائمين على إدارة الدولة خطورة المشهد، فتداركوه وتجاوزوه بأقل خسائر ممكنة".
لكن في نفس الوقت كانت الرسالة واضحة أن الأجهزة الأمنية برمتها في حاجة إلى تطوير وإعداد للأيام القادمة الصعبة.
وأردف: "انشغلت حكومة قحت وقوى الحرية والتغيير بمطاردة والبحث عن صلاح قوش، وحاولوا كسر الجهاز، بينما نفذ عبدالفتاح البرهان بهدوء عملية إحلال وتجديد، بوضع عناصر أكثر ولاء له وللجيش، واليوم بأريحية كاملة يبدأ في إطلاق يد الجهاز مرة أخرى، بطريقة أشرس وأخطر، ولن تستطيع قوة إيقافه".
وتوقع السياسي السوداني في حال استفحال الصراع بين المكون المدني والعسكري، أن يتدخل جهاز المخابرات على نحو حاسم.
وشدد أن "ظاهرة بيوت الأشباح والاعتقالات والانتهاكات ربما تحدث لكن بطرق مختلفة لا أكثر".
وختم بالقول: "هذا ميراث قديم وسلوك متجذر في السودان عبر العصور".
المصادر
- البرهان يوسع سلطات المخابرات السودانية بموجب أمر طوارئ
- إعادة صلاحيات منزوعة لجهاز المخابرات
- الجيش السوداني يفسر أسباب إعادة صلاحيات جهاز المخابرات العامة
- السودان..حزب يطالب بإعادة "هيئة العمليات" لجهاز المخابرات
- المخابرات السودانية تستعيد سلطة الاعتقال: عودة لممارسات نظام البشير
- تعيين مدير جديد لجهاز المخابرات العامة في السودان
- قائد انقلاب السودان يُعيد صلاحيات جهاز المخابرات في الاعتقال والتحقيق