حديقة بوتين الخلفية.. ما سر تزاحم الجنود الروس على الخدمة في سوريا؟
شكل التدخل العسكري الروسي في سوريا الحدث المفصلي الأول في رجحان كفة النظام السوري على المعارضة وانقلاب الموازين كافة لصالح رأس النظام بشار الأسد.
إذ إن ذاك التدخل نهاية سبتمبر/أيلول 2015، الذي صنف كأهم نقاط التحول في الثورة السورية على الصعيد السياسي والعسكري، لم يكن دون ثمن بالنسبة للدولة الروسية.
ويؤكد ذلك توقيع روسيا ما يقارب 40 اتفاقا اقتصاديا وصفقة تجارية مع النظام السوري خلال العقد الأخير.
فضلا عن تأمين موسكو وجودا دائما لها على ساحل البحر المتوسط، عبر توقيع عقدي استئجار طويلي الأجل عام 2017 لمدة 49 عاما قابلة للتمديد لمدة 25 سنة أخرى، لكل من قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية وأخرى بحرية على ساحل طرطوس.
ويرى كثير من المراقبين أن ابتلاع موسكو المشاريع الاقتصادية بسوريا، وتحول قواتها إلى قوة عسكرية فاعلة، ولعبها فيما بعد دور الضامن وإن كان مزيفا بين الأهالي والنظام داخل المدن؛ فتح شهية الجنود والضباط الروس للاستفادة ماليا أثناء خدمتهم هناك.
رشاوى للخدمة
لكن ما هو أبسط منذ ذلك هو تحول سوريا منذ التدخل الروسي إلى رصيد مالي مفتوح تتعدى نطاق الخدمة العسكرية للجنود والضباط الروس، لمن يقع عليه الاختيار للخدمة في صفوف قوات بلاده في هذا البلد أو من يزاحم من هؤلاء متعمدا للخدمة من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
وهذا ما أكده الإعلام الروسي بعدما أصدرت محكمة عسكرية روسية أحكاما بالإدانة على عشرات من الجنود الروس، الذين دفعوا رشاوى في محاولة لضمان مقعد لهم في جولات الخدمة العسكرية بسوريا، وذلك سعيا وراء ما توفره الخدمة هناك من رواتب أعلى وامتيازات إضافية.
ونقلت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عن صحيفة روسية قولها إن أكثر من 30 جنديا دفعوا لمحام عسكري مبالغ تراوحت بين 20 ألفا إلى 40 ألف روبل (280 إلى 560 دولارا)، في محاولة لضمان نقلهم إلى إحدى القواعد الروسية في سوريا.
وقالت الصحيفة إن عسكريين منهم جنود وضباط أرادوا الذهاب إلى سوريا للحصول على رتبة "محارب قديم" عند عودتهم من الخدمة، وما يكفله ذلك من استحقاقات شهرية مدى الحياة، وراتب إضافي وإجازات إضافية كما يوفر ذلك بدلات يومية خلال فترة الخدمة هناك.
ووفقا للصحيفة فإن الجنود الروس الذين يخدمون في سوريا يتقاضون رواتب تصل إلى 200 ألف روبل (نحو 2800 دولار) شهريا، فيما يتقاضى الضباط ما يصل إلى 300 ألف روبل (نحو 4200 دولار)، أي أعلى بكثير من متوسط الأجور التي يتقاضاها جنود الخدمة في روسيا.
كما أن الأموال تدفع بالعملات الأجنبية، وتودع باسم متلقيها في أحد البنوك الروسية في الخارج، وفق المصدر ذاته.
ونتيجة لذلك غرمت محاكم عسكرية روسية في منطقة أقصى شرق البلاد، كل جندي من الجنود الثلاثين ما بين 30 ألفا و90 ألف روبل، في حين تعرض محام لديه ثلاث إدانات سابقة بجرائم مماثلة، لخصم 10 بالمئة من راتبه الشهري للأشهر الستة المقبلة.
لكن اللافت أن هؤلاء الجنود والضباط لم يقتصر كسبهم للأموال لقاء خدمتهم الرسمية والمحددة أجورها سلفا، بل اتجهوا بحكم الخبرة الميدانية إلى جني الأموال من صفقات مشبوهة، من خلال الحواجز الأمنية الداخلية والمعابر النهرية التي يشرفون عليها وتديرها مليشيات محلية تتبع لروسيا أو النظام السوري.
حواجز مالية
وهذا ما أشار إليه الباحث السوري حسام عبد الغني بقوله لـ "الاستقلال"، إن "حواجز النظام السوري على مداخل المدن والبلدات هي عبارة عن الدجاجة التي تبيض ذهبا عبر إجبار الأهالي والتجار على دفع إتاوات مالية لقاء المرور وهذا أمر أصبح من المسلمات في البلد".
وأوضح عبد الغني: "اليوم في سوريا الحواجز الأمنية باتت حصالات مالية بالليرة وبالدولار أو عبر تقديم رشاوى مثل بعض السلع المحددة، حيث بات هناك أسماء شائعة للحواجز مثل حواجز المليون وهذه تشترط على شاحنات نقل المواد الغذائية والخضار دفع مبلغ مليون ليرة للسماح لها بالعبور".
وأضاف: "كذلك هناك حاجز المالبورو الشهير وهو قرب الحدود السورية اللبنانية، الذي يشترط على كل سائق سيارة أو حافلة أن يعطي عناصر الحاجز علبة دخان من نوع مالبورو حصرا، للسماح له بالمرور دون تفتيش لكون الحاجز لديه صلاحية تفتيش كل أجزاء السيارة وحتى تصل لفك المركبات كلها ونبش كل الأمتعة في حال عدم تقديم علبة الدخان".
من هنا كانت القوات الروسية تعمل بشكل صريح وتدير بشكل غير مباشر تلك الحواجز عبر عناصر قوات الأسد الذين يجرى انتقاؤهم بشكل دقيق للوقوف على مثل هذه الحواجز، وفق الباحث السوري.
ولفت إلى أن "هذه الحواجز ليست ذات طابع أمني تقوم بتدقيق الهويات الشخصية بحثا عن المطلوبين، بل فقط مهمتها تحصيل الإتاوات المالية، بحيث يمر الداخل إلى أي مدينة أو بلدة سورية يسيطر عليها النظام السوري بعدة حواجز للمخابرات قبل أن يصل للحاجز المخصص لجني الأموال".
وأشار عبد الغني إلى أن "هذه الحواجز غالبا ما تكون مرتبطة بقادة فروع الأمن أو إحدى الفرق العسكرية، حيث تربطهم علاقات بالضباط الروس الذين يشرفون على بعض المدن في دير الزور وحماة وريف دمشق وخاصة الغوطة الشرقية".
ولا يقتصر الأمر على الحواجز البرية وفق عبد الغني بل إن روسيا تدير حاليا عددا من المعابر النهرية على نهر الفرات شرقي سوريا، الرابط بين قوات النظام السوري والمليشيات المعروفة باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وتجرى عبر تلك المعابر "حركة تنقل المدنيين وتبادل البضائع والخضار بين ضفتي النهر، حيث تفرض عمولة مالية ربما تصل إلى ثلاثة أضعاف سعر البضاعة من كلفتها الأساسية لقاء السماح للتجار بنقل البضائع من مناطق الأسد إلى قسد".
تنافس حقيقي
ويبدو جليا حضور التنافس الروسي الإيراني على الاستيلاء على المعابر النهرية لا سيما شرقي سوريا، وبعض الحواجز الأمنية في باقي مناطق النظام السوري.
وتؤكد الوقائع الميدانية أن القوات الروسية كلفت بعض المليشيات المحلية بإدارة بعض المعابر المائية، مثل مليشيا القاطرجي لتحصيل الأموال.
وللمفارقة فإن موسكو تعاملت مع "أمراء حرب" كوكلاء محليين، مثل قائد مليشيا "القاطرجي" حسام القاطرجي الذي يمتلك شركة ذات خدمات متنوعة ومنها النفطية.
وكانت القوات الروسية سلمت مليشيا "القاطرجي" في فبراير/شباط 2021 جميع حقول النفط الخاضعة لسيطرتها في دير الزور، وهما حقلا "التيم" و"الورد"، وأخرى في الرقة لاستثمارها لمدة خمس سنوات.
ويؤكد الصحفي السوري مناف العبد الله أن "الجنود الروس لا تشكل خدمتهم العسكرية في سوريا خطرا على حياتهم، فهم لا يقاتلون على الجبهات بل فقط يتواجدون بشكل قوة تمثل روسيا على الأرض بصفة حافظ الأمن، وأيضا داخل مراكز القوات الروسية التي تنتشر في المحافظات ثم يعودون إلى قاعدة حميميم للتبديل أو للعودة إلى روسيا لقضاء الإجازة".
وأضاف العبد الله لـ"الاستقلال" أن "هذا الأمر من أبرز العوامل التي تشجع الجنود الروس على القدوم إلى سوريا لكون المهمة القتالية من اختصاص المرتزقة الروس من شركة فاغنر التي تخوض معارك على الجبهات".
ولفت العبد الله إلى أن "الجنود الروس الذين قدموا إلى سوريا باتوا يشرفون على حماية الآثار ونقل بعض القطع من المواقع الأثرية الهامة إلى روسيا بالطائرات والمتاجرة بها بعدما أبدت روسيا حرصها على حماية الآثار السورية وتجديد المواقع".
وتؤكد مواقع معارضة سورية أن شركات روسية دخلت سوريا منذ أغسطس/آب 2021 هدفها التنقيب عن الآثار في مدينة تدمر الشهيرة، وفي ريف حلب الشرقي قرب بلدة مسكنة بالإضافة إلى ريف دير الزور الغربي الخاضع لسيطرة قوات النظام والمليشيات الإيرانية.
وفي هذا الإطار أشار العبد الله إلى أن "بعض الجنود الروس ربما لديهم خدمات أخرى يفعلونها غير الخدمة العسكرية، لاسيما تلك المرتبطة بالمافيا الروسية التي ربما تستثمر بعض الجنود في مهمات خاصة كسرقة الآثار السورية".
ومما يشجع على قدوم الجنود الروس إلى سوريا أيضا سعي موسكو الدائم إلى توسيع انتشار قواتها على الخارطة السورية، وافتتاح قواعد عسكرية ذات تجهيزات متوسطة مثل تلك التي أنشأتها بمدينة كسب بريف اللاذقية القريبة من قاعدة حميميم، بإضافة إلى التمركز في عدد من المطارات العسكرية في حمص وحماه والحسكة ودير الزور.
وحسب عدد من الدراسات والتقارير، فإن معدل النفقات العسكرية الروسية في سوريا يبلغ بين 3 إلى 4 ملايين دولار يوميا، وفق ما ذكر تقرير لوكالة الأناضول في منتصف يونيو/حزيران 2020.
وحتى مارس/آذار 2021، بلغ عدد الجنود الروس الذين قتلوا في سوريا 112، وفق ما أعلنه النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما أندريه كراسوف.
ولا توجد أرقام دقيقة لأعداد الجنود والضباط الروس النظاميين التابعين لوزارة الدفاع على الأراضي السورية، لكن وفق الوزارة فإن أكثر من 63000 عسكري روسي "خاضوا تجربة قتالية" في سوريا منذ سبتمبر/أيلول 2015.