ألغى منصب المفتي.. كيف يتلاعب الأسد بالهوية الدينية في سوريا؟

مصعب المجبل | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

ألقى رئيس النظام السوري بشار الأسد على ركام البلد المدمر قنبلة أحدثت صدى كبيرا في الشارع، لما لها من دلالات خطيرة على الهوية الدينية للبلاد، بعدما ألغى دار الإفتاء العام لبلد غالبيته من السنة.

وأصدر الأسد مرسوما تشريعيا في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، ألغى بموجبه منصب المفتي العام لسوريا ومهامه واختصاصه، وبذلك أقيل أحمد حسون الذي كان يرأس هذا المقام بشطب المادة "35" من قانون عام 2018 التي تحدد مهامه واختصاصه.

وأسند المرسوم المذكور "إصدار الفتاوى" التي كانت مناطة بدار الإفتاء، إلى "المجلس العلمي الفقهي" الجديد الذي وسع الأسد صلاحياته، وعين وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد رئيسا له مع معاونين وثلاثين عالما من كبار العلماء في سوريا "ممثلين عن المذاهب كافة".

الإطاحة بالإفتاء

ومنذ الإعلان عن شطب دور المفتي العام بسوريا وإسناد مقام الإفتاء "لمجلس علمي فقهي" من المذاهب كافة بالبلاد رغم تشكيل السنة للغالبية فيها، بدا أن النظام أخرج يد المذهب السني من عملية الإفتاء كما كان معمولا بها سابقا وأصبح أمر الفتوى تشاركيا مع بقية المذاهب.

وبذلك أصبح "المجلس الفقهي العلمي" بمناطق نفوذ النظام السوري، مكونا من رجال دين من السنة، ومن مراجع الشيعة ومشايخ العلويين ومشايخ العقل الدروز، والإسماعيليين، ومن المسيحيين.

وعين بشار الأسد، حسون البالغ من العمر 72 عاما والذي كان يفتي مدينة حلب منذ عام 2002، مفتيا عاما لسوريا منذ 16 يوليو/تموز 2005، خلفا للشيخ أحمد كفتارو بعدما بقي المنصب شاغرا عقب وفاة الأخير لأكثر من تسعة أشهر.

ويعد منصب الإفتاء في سوريا متواترا منذ انتهاء العهد العثماني، إذ تقلد الشيخ محمد عطا الكسم دار الإفتاء بقرار حكومة الملك فيصل بن الحسين عام 1918 وتعاقب بعده المفتون، ومن بينهم الشيخ محمد شكري الإسطواني الذي عين في دائرة الفتوى عام 1941.

ثم صار الشيخ الطبيب محمد أبو اليسر عابدين في عام 1952 مفتيا للجمهورية السورية، ثم خلفه الشيخ عبد الرزاق الحمصي عام 1964، ثم عين أحمد كفتارو مفتيا لسوريا ورئيسا لمجلس الإفتاء الأعلى في عام 1964 إلى أن توفي عام 2004، ليتولى بعده الشيخ أحمد بدر الدين حسون المنصب.

ومنذ أن تسلم حسون منصبه خدم النظام السوري وسيس دار الإفتاء لصالح الأسد الابن، كما يؤكد كثير من علماء الدين السوريين في تعليقهم على إلغاء رئيس النظام للمنصب.

ويرى هؤلاء أن السقطة الكبيرة التي وقع فيها أحمد حسون أخيرا حول تفسير آية قرآنية من سورة "التين"، أدت لتسريع خطوة النظام السوري بإلغاء منصب المفتي كما هو مخطط لها مسبقا من سعي النظام لتغيير الهوية الدينية بسوريا كدعم لبقائه.

وكان حسون زعم خلال كلمة مصورة نشرت في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن خريطة سوريا موجودة في سورة "التين" القرآنية.

وفسر قول الله تعالى "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، أي في سوريا فإذا تركها (السوريون) "رددناه أسفل سافلين"، في إشارة منه إلى اللاجئين السوريين الذين فروا من بطش الأسد وتوزعوا في شتى دول العالم.

ولم يكتف بذلك حسون، بل مضى مفسرا قول الله تعالى في السورة ذاتها "إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون"، أي من بقي إلى جانب النظام السوري ولم يغادر.

واستدعى ذلك ردا من "المجلس العلمي الفقهي" التابع لوزارة الأوقاف، بوصف تفسير حسون دون ذكره بالاسم إلى أنه "كلام لا ينطلق من دراية بقواعد تفسير القرآن الكريم، وأنه إقحام للدين في إطار إقليمي ضيق وخلط التفسير بالأهواء والمصالح البشرية".

المقاس الإيراني

وتوقع الشارع السوري أن يقدم الأسد على عزل حسون من منصب الإفتاء، لأسباب كثيرة أولها انتهاء ولايته المحددة بثلاث سنوات.

لكن ما كان مفاجئا هو إلغاء النظام السوري منصب الإفتاء في سوريا وشطب المادة "35" من قانون عام 2018 الناظم لعمل وزارة الأوقاف والتي تحدد مهام واختصاص المفتي.

واعتبر المتحدث الرسمي للمجلس الإسلامي السوري المعارض، الشيخ مطيع البطين، أن "منصب المفتي يعبر عن هوية أبناء سوريا وانتمائهم ولم يقم من استعمروا البلاد بالمساس بهذا المقام وإلغائه".

وأكد المجلس في تسجيل مصور في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن "النظام السوري ينفذ حاليا عبر إلغاء مقام الإفتاء أخطر الجرائم حول تاريخ وهوية البلاد خدمة للولي الفقيه (في إيران) وأتباعه الذين يحتلون سوريا ويريدون تحويلها طائفية بعيدة عن الإسلام والعروبة".

وأكد المجلس المعارض أن "النظام السوري يريد إلغاء الهوية السورية ومسخها من خلال شطب مقام الإفتاء والأحوال الشخصية والقضاء الشرعي عبر مجلس مزيف يسمى زورا المجلس الفقهي العلمي".

كما كتب البطين على صفحته الشخصية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن إلغاء مقام الإفتاء وتحويل مهامه إلى "المجلس الفقهي المفصل على المقاس الإيراني ليس عدوانا على المسلمين وعلى السنة في سوريا فقط".

وزاد بالقول: "فهذا تبسيط وتهوين كبير لهذ الإلغاء، إنه تمهيد لرؤية عمائم الولي الفقيه تعتلي منبر عمر بن عبد العزيز في مسجد بني أمية الكبير في دمشق".

وتابع: "هذا العدوان يستهدف المسلمين والعرب جميعا بدينهم وثقافتهم وتاريخهم ومستقبلهم، فهل تعي الأمة حقيقة وخطورة هذا الاعتداء على هويتها وتراثها وحضارتها؟".

تأميم المشيخة

بدوره رأى محمد نور حمدان، الباحث السوري الحاصل على دكتوراه في الفقه الإسلامي ومدير "مركز مناصحة"، أن النظام "لم يترك هوية للدولة السورية سواء أكانت علمانية أو إسلامية فهو يذهب وراء مصالحه لمخاطبة الدول الغربية".

ويضيف لـ"الاستقلال": "النظام إذا كانت مصلحته مع العلمانية فهو يروج للغرب بأن الدولة السورية تفصل الدين عن الدولة، وإذا كانت مصالحه مع إيران فهو يعطيها النفوذ الكامل".

ويعتبر حمدان أن "إلغاء منصب المفتي هو تعزيز لنفوذ إيران على اعتبار أن المفتي يجب أن يكون من الأغلبية السنية في البلاد، ولاسيما أن طهران تريد أن تنشر المذهب الشيعي".

وزاد بالقول: "إن المفتيين كفتارو وحسون كانا يصدران فتاوى مسيسة لا تعبر عن صوت أهل السنة الحقيقي وإنما خدمة بالدرجة الأولى لمصالح النظام".

وذهب حمدان للقول: إن "إلغاء منصب المفتي هو تأكيد على شطب الهوية السنية وحقها بالأكثرية في البلاد، ولا سيما أن النظام أنشأ مجلسا علميا فقهيا يضم كل الطوائف، رغم أن السوريين ليس لديهم مانع من إنشاء مجالس تضم كل الطوائف لكن دون إلغاء مقام الإفتاء".

ويتفق حمدان مع الرأي القائل إن ما فعله النظام "هو طريق لتمكين إيران في سوريا، وهي الأخطر من خلال تغيير الهوية الدينية السورية، إذ إن من يرأس المؤسسة الدينية حسب الأصول هو المفتي".

بدوره اعتبر الباحث السوري محمد منير الفقير، أن إلغاء منصب المفتي ليس مجرد إجراء بيروقراطي، بل هو اكتمال فصول تأميم المشيخة السنية وصولا إلى هضمها ضمن خليط طائفي هو المجلس الفقهي والذي لا يسمح للنظام بالمقابل بهضم أي من المكونات الطائفية".

وألمح الفقير في منشور له على صفحته في فيسبوك 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أن لخطوة النظام هذه سياق مكاني.

ويقول: "إن تهجير أكثر من نصف سنة سوريا وإصدار القوانين لمصادرة ملكياتهم وتجريدهم من حقوقهم بعد تدمير حواضرهم وصولا إلى تفكيك أطرهم الاجتماعية عبر التأميم المطلق والمبرم، عملية ابتدأها الأسد الأب بإلغاء منصب نقيب السادة الأشراف مطلع السبعينيات ولن يختتمها الابن بشطب منصب المفتي بل ربما ينتهي الأمر بحذف منصب القاضي الشرعي".

أبعاد خطيرة

نوايا طهران في سوريا بالسياق المذكور، كشفتها التصريحات الصادمة لمهدي طائب رجل الدين الإيراني البارز ورئيس "معسكر عمار لمكافحة الحرب الناعمة ضد إيران"، في فبراير/شباط 2013.

وأحدثت تصريحات طائب ضجة كبيرة لدى الرأي العام، حينما وصف سوريا بأنها "المحافظة الـ35 لإيران"، واعتبر أن "خسارتها هي خسارة لطهران".

ومنذ ذلك الحين فتح الاعتراف الخطير للمعمم الإيراني الذي شغل منصب القائد السابق لمخابرات قوات الحرس الثوري، الباب أمام مواجهة المشروع الإيراني في سوريا بمتابعة من نظام الأسد.

وتسعى إيران إلى إنشاء ممر بري يربطها بالبحر الأبيض المتوسط، وهو من الأسباب الرئيسة التي جعلتها تتدخل مبكرا إلى جانب قوات الأسد منذ عام 2012 لقمع ثورة الشعب السوري، ومنع بشار من السقوط، إذ منح التدخل العسكري لطهران فرصة لتمدد مليشياتها في محافظات درعا ودمشق وحلب وحمص.

وفي هذا المضمار يربط المحامي السوري عبد الناصر حوشان خطوة إلغاء دار الإفتاء مع النوايا الإيرانية عبر نظرة شاملة لخطورة وأبعاد هذا القرار على المجتمع السوري.

ويؤصل حوشان ذلك في منشور على فيسبوك في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 بقوله: "أولا، على مستوى العقيدة هو إشراك مرجعيات شيعية مرتبطة بحكم الملالي في إيران في إصدار الفتوى عبر عضويتهم في المجلس العلمي الفقهي (10 أعضاء)".

واعتبر المحامي أن "هذه الفتاوى الصادرة من المجلس ستنعكس على حياة السوريين كافة والسنة خاصة المقيمين في مناطق سيطرة النظام، كونها ستأخذ طابع الأمر الرسمي باعتبار أن المجلس يتبع وزارة الأوقاف مما يعني أن أي فتوى ستكون ملزمة لكل من يعمل في الحقل الديني".

واستدرك بالقول: "هذا يؤدي لإلزام أهل السنة والجماعة بفتاوى تتعارض مع أصول العقيدة السنية التي تدين بها المراجع الشيعية المعتمدة في سوريا مثل الإيمان بالإمامة كأصل من أصول العقيدة وحل زواج المتعة وغيرهما من القضايا الشرعية التي تخالف ما يعتقده أهل السنة وحتى تخالف ما يعتقده الإسماعيلية والدروز وغيرهم من الطوائف".

أما على مستوى التغيير الديموغرافي فإن "المشروع الإيراني يقوم على ركيزتين، الأولى ضرب القاعدة السنية من خلال حملات التشييع وإفساد عقيدة أهل السنة، والثانية تملك العقارات والاستيلاء على القطاع الاقتصادي".

ونوه حوشان إلى أن "المرجعيات الشيعية في سوريا استفادت من خلال قوانين التطوير العقاري وتملك الأجانب وقوانين التنظيم العقاري كالمرسوم 66 والقانون 10 اللذين استولت طهران بواسطتهما على مناطق بالبلاد".

ورأى أن "إيران بعد كل هذا توجهت إلى الاستيلاء على الأملاك العامة وأملاك الأوقاف وخاصة بعد رصد تمليك النظام السوري للإيرانيين مساحات واسعة من الأملاك العامة في حمص وحماه وحلب ودير الزور".

وألمح حوشان إلى أن "قانون تنظيم وزارة الأوقاف أخيرا جاء ليفتح الباب على استيلاء طهران على أملاك الوقف السني عبر عضوية ممثليهم بمجلس الأوقاف المركزي الذي أسندت له إدارة أموال وأملاك الوقف وقد منحه القانون صلاحيات واسعة من حيث الاستبدال والبيع والتأجير والاستثمار وإنشاء شركات تجارية باسم المجلس المركزي للأوقاف".

وختم بقوله: "خطورة القانون الجديد الذي أصدره بشار الأسد ستنعكس على الأحوال الشخصية للسوريين السنة وعلى عقارات وأملاكهم الخاصة والعامة وأملاك الأوقاف".