تقرير "المحاسبات" بتونس.. هل يتبعه بطلان انتخابات الرئاسة والبرلمان؟

12

طباعة

مشاركة

"إخلالات شابت الحسابات المالية للمترشحين، وموارد مالية غير شرعية، وأخرى مجهولة المصدر، ومخالفة لأحكام مرسوم الأحزاب"، هذا بعض ما خلصت إليه محكمة المحاسبات بتونس في تقريرها حول مراقبة الحملات الانتخابية بانتخابات عام 2019 التشريعية والرئاسية.

القانون الانتخابي في تونس أسند إلى القضاء بمختلف تفرعاته العدلي والإداري والمالي مهام ضمان مبادئ النزاهة وشفافية العملية الانتخابية وحماية تكافؤ الفرص بين المترشحين.

وعهد إلى محكمة المحاسبات باعتبارها الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة  والتي تعنى بمراقبة المال العام، مراقبة حسن التصرف في موارد ومصاريف القوائم المترشحة والمترشحين والأحزاب السياسية لغاية التأكد من إنجاز كل المصاريف المتعلقة بالحملة الانتخابية من خلال الحساب البنكي الوحيد لكل قائمة مترشحة وكل مرشح للرئاسة.

هذه الإخلالات دفعت عددا من الأحزاب التونسية إلى الحديث عن اعتزامها رفع دعوى أمام القضاء في الأيام القادمة لبطلان نتائج الرئاسيات والتشريعية، فيما ارتفعت الأصوات المطالبة بموقف واضح للرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب) ولبقية الأحزاب التي لم تحرك ساكنا مما وقع من مخالفات فجة.

خدش الشفافية

جاء أهم تعليق على تقرير محكمة المحاسبات حول مراقبة الحملات الانتخابية في انتخابات 2019، من قبل رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نبيل بفون، في تصريح إذاعي يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

بفون اعتبر أن التقرير خدش شفافية هذه الانتخابات، واصفا التقرير بأنه "إيجابي جدا"، وموضحا أن أغلب محاضره مقدمة من هيئة الانتخابات فيما عملت المحكمة على القيام بتقاطعات مع جهات أخرى كوزارة المالية.

وفي بيان مشترك، أصدرته عدد من أحزاب المعارضة يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، اعتبرت أن تقرير محكمة المحاسبات يقر بما لا يدع مجالا للشك أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 لم تستند إلى شرعية الاختيار الشعبي الحر بقدر ما استندت إلى سلطة المال الفاسد والتمويل الأجنبي وتدخل مؤسسات ولوبيات خارجية ومؤسسات الأخبار الزائفة والتزييف.

كما شجبت هذه الأحزاب والشخصيات الوطنية، بشدة، صمت منظومة الحكم والنيابة العمومية حيال تقرير دائرة المحاسبات، بما يؤكد تورط المنظومة الحالية ومحاولتها التستر على الجريمة الانتخابية التي تعرّض لها الشعب والتي تظهر نتائجها وأهدافها ما وصلت إليه البلاد من فساد، مذكرة بأن تقارير سابقة كشفت بدورها عن مصادر الأموال الضخمة التي صرفت والمنتفعين بها.

واعتبرت أن هذه الفضيحة الانتخابية "تعد انتهاكا للسيادة الوطنية، وتهديدا للأمن القومي لتونس، علاوة على ما فيها من تزييف لإرادة الشعب وإفسادا للديمقراطية في تونس على محدوديتها وهشاشتها".

من جهته، دعا المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين في بيان يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، النيابة العمومية للقضاء العدلي والقطب القضائي المالي لإيلاء الأهمية القصوى لفتح التحقيقات الجدية اللازمة بخصوص الجرائم الانتخابية الواردة بالتقرير العام لمحكمة المحاسبات وخاصة التمويلات الأجنبية للانتخابات.

تمويل خارجي 

وقف المتابعون للشأن التونسي طويلا أمام التقرير الصادر، خاصة في ظل حديثه بشكل مباشر عن وجود شبهات تمويل أجنبي لعدد من الحملات الانتخابية.

كما بينت المحكمة وجود قرائن قوية ومتضافرة حول تعاقد أشخاص وأحزاب سواء بصفة مباشرة أو لفائدته مع شركات أجنبية بقصد كسب التأييد، تتقاطع مدد تنفيذها مع الفترة الانتخابية، إلى جانب شبهة بخصوص أحد الفائزين في الانتخابات التشريعية (ألفة التراس) الذي انتفع بتحويلات وأصدر تحويلات بمبالغ هامة وقام بعمليات سحب تزامنا مع الانتخابات.

وأكد التقرير أن أحد المترشحين للانتخابات الرئاسية، وهو المرشح نبيل القروي الذي وصل للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية، تعاقد مع شركة علاقات عامة أجنبية بقيمة حوالي 2.85 مليون دينار تونسي (1.05مليون دولار) قصد الضغط وكسب التأييد في فترة تتقاطع مع الحملة الانتخابية الرئاسية.

ولتنفيذ بنود هذا العقد (قيمته 250 ألف دولار)، أوضحت المحكمة أن جزءا من هذا المبلغ (150 ألف دولار) تم تحويله من حساب بنكي غير مصرح به لدى البنك المركزي، وهو حساب مفتوح لدى بنك "HSBC الشرق الأوسط" بدبي والراجع لزوجة القروي والقائمة على حملته الانتخابية، وفق التقرير الرقابي.

وأضافت المحكمة أن أعمالها الرقابية أثبتت أن المبلغ الذي تم تحويله لفائدة الشركة الأجنبية لم يكن مصدره تونسيا، إذ أكد البنك المركزي ضمن مراسلته المؤرخة في 11 ديسمبر/كانون الأول 2019 أنه لم يتم تسجيل أي عملية تحويل أموال تعود للمعنية بالأمر إلى الخارج من قبل الوسطاء المقبولين لديه وأنه لا يتوفر لديه معلومات تفيد حيازتها لحسابات بنكية بالعملة الصعبة بالخارج. 

وحسب الفصل 162 من القانون الانتخابي فإن ما ارتكبه المترشح نبيل القروي وحزبه الذي يرأسه يؤدي إلى عقوبات مشددة تصل إلى إلغاء النتائج التي تحصل عليها.

حيث ينص القانون أنه في حال ثبوت التجاوز والتمتع بتمويل أجنبي، يفقد أعضاء القائمة المتمتعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب ويعاقب المترشح لرئاسة الجمهورية المتمتع بالتمويل الأجنبي بالسجن لمدة 5 سنوات.

ويُحرم كل من تمت إدانته بالحصول على تمويل أجنبي لحملته الانتخابية من أعضاء قوائم أو مترشحين، من الترشح في الانتخابات التشريعية والرئاسية التالية.

وكذلك إذا ثبت لمحكمة المحاسبات أن المترشح أو القائمة قد تحصلت على تمويل أجنبي لحملتها الانتخابية فإنها تحكم بإلزامها بدفع غرامة مالية تتراوح بين 10 أضعاف و50 ضعفا لمقدار قيمة التمويل الأجنبي ويفقد أعضاء القائمة المتمتعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب ويعاقب المترشح لرئاسة الجمهورية المتمتع بالتمويل الأجنبي بالسجن لمدة 5 سنوات".

توظيف الدولة

لم تتوقف المخالفات الخطيرة على ما قام به نبيل القروي وحزبه، بل إن منافسه اللدود كذلك رئيس حركة تحيا تونس ورئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، قد تطرق التقرير لعدد من المخالفات التي ارتكبها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية وكذلك التشريعية لحزبه.

حيث أفادت محكمة المحاسبات، بأن الشاهد قد استعمل موارد الإدارة العمومية أثناء قيامة بأنشطة حملته الانتخابية، باستعمال سيارات إدارية بالإضافة إلى استغلال حافلات لنقل مناصريه.

وحسب الفصل 53 من القانون الانتخابي يحجز استعمال الوسائل والموارد العمومية لفائدة قائمة مترشحة أو مترشح أو حزب.

هذه الاتهامات هي نفسها التي كان يحذر منها عدد من الأحزاب السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية، والتي دعت في عدد من المناسبات رئيس الحكومة يوسف الشاهد لإعلان نيته عدم الترشح للانتخابات الرئاسية.

وفي هذا السياق، أصدرت حركة تحيا تونس بيانا، مساء السبت 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أكدت فيه أنه تمت الإجابة على التقرير الأولي لمحكمة المحاسبات بخصوص النقطة المتعلقة باستعمال أدوات الدولة ( 2 حافلات وسيارة إدارية).

وأوضحت، في ذات البيان، أن المترشح لم يستعمل أي سيارة إدارية للتنقل أثناء حملته وقد قام بكراء سيارة خاصة خلال كامل الفترة الانتخابية (عقد كراء) وأن كل الحافلات التي تخص الحملة الرئاسية لمرشح الحركة يوسف الشاهد تم كراؤها بمقابل بعقود كما هو الشأن بالنسبة لكافة المترشحين سواء لدى المؤسسات الخاصة أو العمومية وفي حدود ما يسمح به القانون.

مخالفات بالجملة

ورغم الاهتمام الكبير بالمخالفات التي وصفت بالخطيرة في علاقة بالحملة الانتخابية إلا أن التقرير تطرق أيضا إلى مسألة لا تقل أهمية تم تكرار الحديث عنها منذ فترة طويلة حول تمويل الأحزاب السياسية في تونس. 

حيث أفاد تقرير محكمة المحاسبات حول مراقبة مالية الأحزاب أن 6 أحزاب من جملة 16 حزبا ممثلا في مجلس نواب الشعب لم تودع تقاريرها المالية طيلة الفترة من 2014 إلى 2019.

وتتوزع الأحزاب الستة إلى 3 أحزاب لم تودع تقاريرها باعتبار أنها تأسست عام 2019 وهي "قلب تونس" و"تحيا تونس" وحزب الجبهة الشعبية، أما الأحزاب الثلاثة الأخرى التي لم تقدم تقاريرها رغم تأسيسها منذ سنوات فهي حزب "الرحمة"، و"صوت الفلاحين"، و"الاشتراكي الدستوري".

كما أنه وإلى غاية سبتمبر/أيلول 2020، تولى 54 حزبا من مجموع 211 حزبا في تونس تأسس قبل العام 2018 إيداع تقارير مالية تعلقت بكامل الفترة من 2014 إلى 2019 أو بإحدى هذه السنوات المالية.

كما لم يقم سوى 14 حزبا من جملة 45 حزبا مشاركا في الانتخابات التشريعية 2019 إيداع التقرير المتعلق بالمالية للعام 2018. كما تم الوقوف على عدم التزام 44 حزبا بالدورية السنوية في إيداع تقاريرها.

عقوبات مالية

ورغم حجم هذه المخالفات، فإن الإجراءات المتوقعة لن تزيد عن عقوبات مالية بحق المخالفين إن وجد القضاء أدلة قطعية على إدانتهم، وهو ما ذهب إليه عدد من الخبراء القانونيين.

أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ قال: "التقرير الأخير لمحكمة المحاسبات أثبت وجود ثغرات وعيوب للقانون الانتخابي، وهو ما جعل تونس بذلت جهدا ورصدت أموالا طائلة في هيئات مستقلة مثل هيئة الانتخابات من أجل الحصول على نتيجة إيجابية".

مضيفا: "الحال أن النتيجة كانت عكسية لما كان منتظرا إذ بهذه الهيئة وبهذه الخيارات تم تزوير إرادة الناخبين وسلب الشعب التونسي السيادة التى يفترض أن يمارسها عبر ممثليه المنتخبين".

وأضاف محفوظ في حديث لـ"الاستقلال": أن "محكمة المحاسبات وقفت على العديد من الخروقات التي ارتكبها المرشحون في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن التقرير صدر بعد مرور سنة من إعلان نتائج الانتخابات".

وختم أستاذ القانون الدستوري حديثه بالقول: "تقرير المحكمة مجرد إدانة معنوية للمخالفين ولن يغير شيئا من الوضع داخل البرلمان الحالي، لأنه لم تصدر أحكام قضائية ضد المشتبه في ارتكابهم إخلالات خطيرة تتعلق بتمويل الحملة الانتخابية في أجل معقول، مثلما حدث في الانتخابات البلدية عندما صدرت أحكام بإسقاط عضوية الفائزين بعد 7 أشهر فقط من إعلان النتائج".