بذريعة الاقتصاد والتنمية.. لماذا تكثف مدريد تحركاتها بالمغرب العربي؟
في الفترة الأخيرة نشطت حركة الدبلوماسية الإسبانية في دول المغرب العربي من باب الاقتصاد والتنمية الاجتماعية، لكن الهدف الحقيقي وراء هذه التحركات هو الحد من أمواج المهاجرين غير النظاميين الذين يتوافدون على البلد الأوروبي عبر قوارب.
في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بدأت السلطات الإسبانية تركيب سياج حدودي جديد يفصل مدينة سبتة عن المغرب، بميزانية تزيد عن 32 مليون يورو.
شاركت في الميزانية الصناديق الأوروبية بـ75 في المئة، من خلال صندوق الأمن الداخلي وصندوق اللجوء والهجرة والتكامل، بعد أن رأت إسبانيا أنها خطوة ضرورية للحد من الهجرة غير النظامية.
قبلها بأيام وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أجرى رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، زيارة رسمية إلى الجزائر امتدت يومين، ركزت على العلاقات الاقتصادية وكذلك الهجرة والأمن الإقليمي.
وفي 17 من الشهر نفسه دعا وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا إلى المزيد من التنسيق مع الحكومة التونسية في مسائل الهجرة غير النظامية في ظل تزايد تدفق المهاجرين من دول المغرب العربي باتجاه أوروبا.
وفي 18 سبتمبر/ أيلول 2020، اتفقت موريتانيا وإسبانيا على تعزيز التعاون بينهما في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، وتسيير تدفق المهاجرين.
تحركات حثيثة
في لقاء مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أكد سانشيز أن الدولتين "مصممتان على مواجهة مشكل الهجرة الذي يمثل تحديا لكلا الجانبين، ليس فقط للبلدان المستقبلة، بل لبلدان العبور أيضا". وشدد على ضرورة عدم الاقتصار على المقاربة الأمنية في معالجة ظاهرة الهجرة.
وأضاف في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الجزائرية، أنه يجب أن يوجد بُعد اقتصادي عبر "مساعدة وتشجيع بلدان المصدر من خلال التنمية الاقتصادية ودعم الشباب حتى تكون لهم فرص عمل ويمتنعون عن الهجرة".
زيارة شانسيز سبقتها أخرى للمديرة العامة للحرس المدني الإسباني، ماريا غاميز غاميز، والمدير العام للشرطة الإسبانية فرانسيسكو باردو بيكيراس.
ويعد ملف الهجرة السرية أبرز الملفات التي تجري مناقشتها خلال الفترة الأخيرة بين الجزائر وإسبانيا، بسبب العودة القوية لقوارب الهجرة السرية من السواحل الغربية للجزائر نحو إسبانيا.
وتسجل السلطات الإسبانية -بحسب تقارير صحف إسبانية – وصول عدد كبير من قوارب المهاجرين من الجزائر منذ شهر يوليو/ تموز 2020، خاصة إلى سواحل منطقة مورسيا وأليكانتي وألميريا.
وفي 10 أغسطس/آب 2020، أجرى وفد إسباني رفيع زيارة إلى الجزائر، وضم الوفد وزير الداخلية فرناندو قرند مارلسكا غوميز، مرفوقا بالمديرة العامة للعلاقات الدولية والهجرة إيلينا غارثون، والمفوض العام لشؤون الهجرة والحدود بالشرطة الوطنية إنريكي تابوردا، وقائد الحرس المدني وقيادة الحدود خوان لويس بيريز.
الوفد بحث مع المسؤولين في الجزائر ملف تدفق المهاجرين السريين، على خلفية تصاعد موجة الهجرة السرية من السواحل الجزائرية إلى السواحل الإسبانية في الفترة الأخيرة.
وذكرت إحصاءات وزارة الداخلية الإسبانية أن معدلات الهجرة غير النظامية الوافدة من الجزائر إلى إسبانيا زادت بنسبة 606 في المائة منذ يوليو/تموز 2020، ومنذ 6 سبتمبر/ أيلول 2020، تم توقيف 5343 جزائريا على السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة الإيبيرية.
وتسعى الحكومة الإسبانية إلى إقناع السلطات الجزائرية بتشديد مراقبة السواحل من جهة، والاتفاق على آلية لتسلم المهاجرين، وفي الغالب تقبل الجزائر تسلم رعاياها، لكنها تشترط إثبات جنسية المهاجرين والتثبت من أنهم جزائريون، وهذه مشكلة تواجهها السلطات الإسبانية التي لا تتمكن من تحديد هوية المهاجرين الذين يخفون هوياتهم في حال توقيفهم، لتجنب الترحيل.
تطرق وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا مع نظيره التونسي توفيق شرف الدين ورئيس الحكومة هشام المشيشي، إلى ملف الهجرة غير النظامية وتجارة البشر وشبكات الهجرة السرية.
وقال غراندي مارلاسكا وفق ما جاء في فيديو نشرته رئاسة الحكومة التونسية على الإنترنت: "لدينا فرصة لمزيد من تعميق التعاون والتنسيق".
وعبّر الوزير الإسباني عن رغبة بلده في الاستفادة من الخبرة التونسية في مكافحة الإرهاب ودعا إلى "تنسيق أكبر بين البلدين في مجال الهجرة غير النظامية"، وفق نفس المصدر.
جنوب الصحراء
في الأسبوع الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2020، ارتفع عدد المتوفين غرقا من المهاجرين غير النظاميين في مياه تونس إلى 21 على الأقل، بعد العثور على 4 جثث كان أصحابها في هجرة على متن "قوارب الموت".
ومن بين الضحايا الذين عثر على جثثهم 7 نساء تتراوح أعمارهن بين 20 و30 عاما، إضافة إلى 3 أطفال بينهم رضيع. وقال المتحدث باسم محكمة صفاقس التونسية، مراد تركي: "لا أمل بالعثور على الباقين أحياء والذين لا يتجاوز عددهم 5 أشخاص".
ونقلت وكالة "فرانس برس" عن تركي أنه تم إنقاذ 7 مهاجرين آخرين، معظمهم من ساحل العاج، كما تم انتشال 17 جثة. وقال تركي: إنه علم من ناجين أن المركب الذي كانوا على متنه كان يقل 28 أو 29 شخصا، بينهم تونسيان كانا بين الغرقى بينما ينحدر معظمهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
قبلها أعلنت وزارة الداخلية التونسية إحباط 32 محاولة اجتياز للحدود البحرية خلسة في السواحل الشمالية والشرقية والجنوبية والوسط، وأوقفت 262 شخصا تتراوح أعمارهم بين 15 و44 عاما، بينهم اثنان من إفريقيا جنوب الصحراء.
وكشف بيان عن وزارة الدفاع الجزائرية أن وحدات حرس السواحل التابعة للقوات الجوية تمكنت خلال الفترة الممتدة من 15 إلى 19 سبتمبر/ أيلول 2020، من إنقاذ 485 شخصا حاولوا الإبحار بطريقة غير نظامية عبر 42 عملية تدخل متفرقة لحرس السواحل في المياه الإقليمية.
فيما قدمت وزارة الداخلية الإسبانية بالأرقام ظاهرة الهجرة السرية الوافدة إلى بلادها من عدة دول، حيث بلغ عدد الجزائريين الذين دخلوا الأراضي الإسبانية عن طريق الهجرة غير النظامية أكثر من 2000 شخص منذ يناير/ كانون الثاني 2020.
وأشارت إلى تزايد هجرة الجزائريين السرية نحو إسبانيا في 2020 مقارنة بتراجعها الكبير في 2019 بنسبة 50 في المئة بالتزامن مع الحراك الشعبي الذي طالب بالتغيير الجذري في الجزائر.
قوارب الموت
تُبرز أرقام وزارة الداخلية الإسبانية أن جائحة كورونا لم تشكل عائقا أو خطرا على المهاجرين السريين ولم تردعهم عن المجازفة في قوارب الموت في الوقت الذي فقدت فيه إسبانيا السيطرة على الوباء.
بلغ عدد المهاجرين الأفارقة الوافدين إلى جزر الكناري - الواقعة قبالة الساحل الإفريقي في المحيط الأطلسي- في النصف الأول من أيلول/سبتمبر 2020، نحو 1200 شخص، وفقا للأرقام الرسمية.
ولم يتم تسجيل مثل هذا العدد من الوافدين في غضون أسبوعين منذ عام 2008 وسُجل آخر عدد قياسي سنوي في عام 2006 مع وصول 31 ألفا و600 مهاجر.
وتزامن ذلك مع التوقيع قبل عام على اتفاقيات ضبط حدود الاتحاد الأوروبي مع تركيا وليبيا والمغرب.
ووصل 5121 مهاجرا إلى الأرخبيل بين الأول من كانون الثاني/يناير و15 أيلول/سبتمبر 2020، أي بزيادة قدرها 500 بالمئة خلال عام واحد، وفقا لوزارة الداخلية الإسبانية.
وتدفع الأرقام المهولة إسبانيا إلى إعطاء أهمية خاصة لدول المغرب العربي، عبر التعاون الاقتصادي والاتفاقيات الأمنية بإيعاز من الاتحاد الأوروبي، وتميل إلى توطيد العلاقات بحكم التداخل الحدودي.
لدى الحكومة الإسبانية رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، تتعاطى مع الإشكال الإرهابي ووجود جماعات مسلحة لمجابهة أي مخاطر قد تصل إلى أوروبا بشكل عام.
وتتجه إسبانيا إلى علاقات قوية أساسها براغماتي مع وجود جانب أمني وإستراتيجي هو الذي يحكم طبيعة توسيع العلاقات.
حارس "شينغن"
يعتقد الدكتور محمد ظهيري، أستاذ بجامعة كومبلوتينسي بمدريد وخبير دولي في شؤون الهجرة وحقوق الإنسان، أن الزيارات الأخيرة لرئيس الحكومة الإسبانية ووزيريه في الداخلية والخارجية إلى دول المغرب الكبير والسنغال تأتي في إطار السياسة التي نهجتها مدريد منذ سنة 1990، لتحويل هذه الدول إلى دركي للحدود الجنوبية لـ"منطقة شينغن".
فإسبانيا، شريطة قبولها كعضو جديد بالمجموعة الأوروبية سنة 1985، تعهدت بمراقبة الحدود الجنوبية للمجموعة الأوروبية. ومنذ انضمامها الرسمي إلى اتفاقية شينغن سنة 1991، تحولت الحدود الإسبانية إلى حدود "منطقة شينغن" -باستثناء مدينتي سبتة ومليلية لوضعهما الاستثنائي-، فقد التزمت إسبانيا بمراقبة هذه الحدود.
وأوضح الخبير في حديثه إلى صحيفة "الاستقلال"، أنه تجنبا لانتقادات الجمعيات المساندة للمهاجرين وجمعيات المجتمع المدني وبعض أحزاب اليسار الإسبانية فقد فوضت الحكومة الإسبانية مراقبة "حدود شينغن"، أي حدودها، في هذه الدول (المغرب الكبير، والسنغال) في إطار اتفاقيات ثنائية تجمعها بها.
هذه الاتفاقيات، في غالبها، تكون عبارة عن منح أو شراء بعض أجهزة المراقبة أو سيارات للدرك وحرس الحدود بهذه الدول، وفق ظهيري.
أما زيارة رئيس الحكومة الإسباني الأخيرة للجزائر، يفيد الأستاذ الجامعي، أنها تدخل في إطار ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"دبلوماسية الغاز"، إضافة إلى تناولها لمحاور أخرى إستراتيجية في علاقة الشراكة بين البلدين.
مضيفا: "أقصد: الهجرة، والأمن شمال إفريقيا والساحل،ومحاربة الإرهاب والجماعات المسلحة، كما تناولت توطيد العلاقات الاقتصادية".
وتهتم الحكومة الإسبانية، بحسب خبير شؤون الهجرة، إضافة إلى ملف الهجرة ومراقبة مياه جنوب المتوسط المحاذية للجزائر، أحد المعابر الرئيسية للضفة الشمالية للمتوسط، يهمها بشكل أساسي تعميق علاقاتها الاقتصادية مع الجزائر، خصوصا الاتفاقية المتعلقة بالغاز، حيث تزود الجزائر إسبانيا بأكثر من 50٪ من الغاز الذي يصلها من الخارج. هذا، إضافة إلى مشكل الحدود المائية/البحرية العالق بين البلدين.
جولة جديدة
وفيما يتعلق بتونس، بواصل الدكتور محمد ظهيري: فحكومة بيدرو سانشيز، منذ تشكيلها، وضعتها ضمن أولويات أجندتها الخارجية خارج الاتحاد الأوروبي.
وتابع: "بعد تشكيل الحكومة الإسبانية زار تونس وزير الداخلية فرناندو غراندي-مارلاسكا، كما زارتها وزيرة الخارجية أرانتشا غونزاليس لايا، وخلال الأيام المقبلة سيعلن قصر مونكلوا بمدريد عن تاريخ جولة جديدة سيقوم بها رئيس الحكومة إلى كل من تونس ولبنان.
يرى خبير شؤون الهجرة في إسبانيا، أن "مبررات هذا الاهتمام لها علاقة مباشرة بملف الهجرة، خصوصا وأنه بعد إطلاع الحكومة على عدة تقارير تفيد بارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين من أصول تونسية، تحديدا بعد أزمة كورونا وانعكاساتها المختلفة على اقتصاد تونس".
زد على هذا، يقول الأستاذ الجامعي: "فالحكومة الإسبانية تريد ترحيل ما يقارب 800 مواطن من أصل تونسي يقيمون حاليا في مدينة مليلية في انتظار نقلهم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وكثير منهم ينوون الوصول إلى فرنسا حيث لهم أقارب هناك.
استند الدكتور محمد ظهيري إلى بعض التسريبات الإخبارية، وهو يقول: "بادرت الحكومة الإسبانية عن طريق وزير داخليتها، باقتراح لتونس من أجل قبول إعادة مواطنيها الـ 800 إلى تونس بمبرر أنهم دخلوا الأراضي الإسبانية بطريقة غير نظامية"، غير أن تونس رفضت ذلك.
وختم الخبير حديثه مع الاستقلال بالقول: "كلي يقين أن هذا سيكون أحد المواضيع الرئيسية في أجندة رئيس الحكومة الإسباني خلال زيارته المرتقبة لتونس، إضافة بطبيعة الحال إلى مواضيع أخرى لها علاقة بالعلاقات الثنائية بين البلدين".
المصادر
- كورونا لا يعوق هجرة الأفارقة إلى جزر الكناري
- كورونا يوسع دائرة الحالمين بالهجرة من المغرب العربي
- "قوارب الموت".. ارتفاع حصيلة غرقى المهاجرين قبالة تونس إلى 21
- إسبانيا تقيم سياجا جديدا على حدودها مع المغرب لـ"محاربة الهجرة"
- اسبانيا وتونس ترغبان في توثيق التعاون في مجال الهجرة غير الشرعية
- المشيشي يلتقي وزير الداخلية الاسباني