إضراب فرنسا.. معركة عض الأصابع بين الحكومة والعمال تبلغ ذروتها

5 years ago

12

طباعة

مشاركة

دخل إضراب النقابات العمالية في فرنسا أسبوعه الرابع احتجاجا على القانون التقاعدي المقترح من الحكومة، حيث يعد الإضراب الحالي الأطول بتاريخ البلاد بعد إضراب عام 1995 استمر لثلاثة أسابيع، أجبرت بعدها السلطات على تغيير خططها الاقتصادية، وهو ما يزيد الشكوك حول صمود الحكومة الحالية أمام العمال.

ويشارك في الإضراب أغلب القطاعات العمالية ومن بينها عمال السكك الحديدية والمواصلات والمعلمون والطلاب والشرطة والمحامون وغيرها من القطاعات بالإضافة إلى النقابات وأحزاب المعارضة وحركة "السترات الصفراء".

ورغم الآمال التي عقدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومطالبته للعمال بتعليق إضرابهم خلال فترة عطلة أعياد الميلاد، إلا أن إصرار العمال على مواصلة إضرابهم شل الحركة في العاصمة باريس وأدى إلى واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في فرنسا.

تداعيات الإضراب

تسبب الإضراب في تعطل المواصلات في العاصمة باريس إثر توقف حركة مترو الأنفاق والقطارات، في الوقت الذي وصف فيه الإعلام الفرنسي حركة القطارات الداخلية بأنها شبه منعدمة، وذلك بعد إلغاء رحلات 10 قطارات من الفئة فائقة السرعة، وإعلان سلطات الطيران المدني إلغاء نحو 20 بالمئة من الرحلات الجوية نتيجة تعطل حركة المواصلات بالمدينة.

كما تسببت الإضرابات الواسعة في البلاد بحدوث اضطرابات كبيرة في قطاعات النقل والصحة والقطاع العام بالعاصمة باريس ومدن أخرى، كما تم تأجيل امتحانات نهاية العام للجامعات نتيجة الأزمة التي وقعت فيها البلاد بسبب الإضراب.

وأعلنت وزارة الداخلية، أن 806 آلاف شخص شاركوا في احتجاجات 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، فيما رجحت نقابات العمال أن العدد بلغ مليون ونصف المليون شخص.

كما تأثرت حركة السياحة في عدد من المزارات السياحية، بينها متحف اللوفر، كما أعلنت إدارة برج إيفل إغلاق المزار السياحي في أول أيام الإضراب وقالت في بيان: إن الإغلاق سببه حركة الإضراب المحلي بالبلاد.

أسباب الإضراب

في 11 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، كشف رئيس الحكومة الفرنسية إدوار فيليب عن تفاصيل مشروع قانون نظام التقاعد الجديد خلال خطاب له في مقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي بباريس ويتوقع أن يناقشه البرلمان مطلع العام المقبل.

وبمقتضى القانون الجديد وبمجرد دخوله حيز التطبيق في عام 2022 وهو الموعد المقترح لبدء العمل به، سوف يتم إنهاء العمل بأنظمة التقاعد الخاصة التي يبلغ عددها 42 نظاما، فضلا عن تحديد الحد الأدنى للمعاش بـ 1000 يورو لجميع المتقاعدين، وتحديد سن المعاش عند سن 64 سنة، ولن يسري النظام الجديد على الفرنسيين الذين ولدوا قبل عام 1975.

وتعتبر الحكومة أنظمة التقاعد المعمول بها حاليا مكلفة جدا، ففي قطاع النقل في باريس بلغ معدل سن التقاعد 55.7 عاما في 2017، مقابل 63 عاما لمتقاعدي النظام العام بحسب تقرير رسمي نشر في يوليو/تموز الماضي.

وأكد فيليب أن المشروع الجديد الذي اقترحته حكومته يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية وهي: "الشمولية، الإنصاف والعدالة، المسؤولية"، مؤكدا أن الهدف هو توفير حماية أكبر وعدالة لجميع الفرنسيين حيث أن الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي 120 ألف يورو سيساهمون بشكل عادل في تمويل نظام التقاعد، أما الذين يتقاضون أكثر من هذا المبلغ سنويا سيتم رفع مساهماتهم المالية إلى 2 بالمئة.

وبحسب تصريحات فيليب، فإن نظام التقاعد الجديد يرتكز على نظام "النقاط"، مشيرا إلى أن كل ساعة من العمل يقوم بها شخص ما سيتم احتسابها بالنقاط، وذلك خلافا لما كان معمول به في النظام السابق. كما أضاف أن قيمة "النقطة" سيتم تحديدها من قبل الشركاء الاجتماعيين (النقابات العمالية والجمعيات التي تمثل أرباب العمل).

ويعتبر فيليب أن الضمانات الممنوحة من الحكومة للعمال في مشروع القانون تبرر استئناف الحوار وإنهاء الإضراب الذي وصفه بأنه يعاقب ملايين الفرنسيين.

في المقابل تؤكد النقابات أن النظام الجديد يأخذ في الاعتبار "قيودا محددة" و"صعوبات مرتبطة بطبيعة عملهم في الخدمة العامة".

تراكمات الغضب

أما عن الأسباب التي دفعت العمال للاحتجاج، فيقول الكاتب الصحفي صديق حاجي: إن هناك تراكمات من الغضب في فرنسا منذ السنة الماضية حيث عاش الفرنسيون أجواء السترات الصفراء ولم تتجاوزها الحكومة حتى الآن، مشيرا إلى أن الغضب له مجموعة من الأسباب منها عدم الرضى عن السياسة الاجتماعية التي ينتهجها الرئيس إيمانويل ماكرون بشكل عام، إضافة إلى عدم قبول التوجه الليبرالي الجديد للرئيس.

وأشار حاجي إلى أن تغيير النظام من التوزيع إلى نظام النقاط يؤكد أن الكثير من الطبقات، مثل المتوسطة والنساء وغيرهم سوف تنخفض قيمة منحة نهاية الخدمة أوتوماتيكيا.

وبحسب "معهد الحماية الاجتماعية"، فإن منحة النساء سوف تنخفض بنسبة 9 بالمئة والطبقات المتوسطة ستنخفض بنسبة 21.6 بالمئة.

إذن المشكلة واضحة بالنسبة للفرنسيين فنظام النقاط الذي يحاول الرئيس ماكرون فرضه على العمال الفرنسيين سبق أن طبقته السويد في التسعينيات ومع ذلك لا تزال هناك نقاشات سياسية حادة في السويد تطالب بالتراجع عن هذا النظام وذلك لأنه أضر بالطبقتين المتوسطة والدنيا.

رأي الحكومة

على الجانب الآخر، ترى حركة "الجمهورية إلى الأمام" التي ينتمي إليها الرئيس ماكرون أن النسبة الأكبر من الفرنسيين تؤيد إزالة أنظمة التقاعد المختلفة وتوحيد نظام التقاعد.

ويقول أحمد شمس الدين عضو الحركة: إن 69 بالمئة من الفرنسيين يريدون إزالة أنظمة التقاعد المختلفة وإيجاد نظام تقاعد واحد، فيما يرى 85 بالمئة أن النظام الحالي ليس على مبدأ المساواة فيما بينهم، في حين أن 79 بالمئة يرون أن النظام الحالي والاختلاف بين 42 نظاما للتقاعد غير مبرر.

ورغم الإضراب العمالي العام الذي أصاب العاصمة باريس بالشلل التام، تصر الحكومة الفرنسية على المضي في تطبيق القانون وتتمسك بنظام أجور التقاعد، حيث قال رئيس الحكومة: "إن المعارضة الديمقراطية والنقابية لخطتنا مشروعة تماما، لكن قلنا بوضوح ما هو مشروعنا، وحكومتي مصرة تماما على إصلاح نظام أجور التقاعد وأن توازن ميزانيته".

ويهدف النظام الجديد إلى توفير 9 مليارات يورو بحلول 2025 لسد عجز الصندوق الوطني للتأمين على الشيخوخة.

وفي اليوم الرابع عشر من الإضراب، أبدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استعداده لـ"تحسين" مشروع إصلاح نظام التقاعد، وأعقبها إعلان فشل الجولة الأولى من المحادثات بين الحكومة والمضربين على أمل التوصل إلى توافق خلال المحادثات المقررة في 7 يناير/كانون الأول المقبل.

وأوضحت الرئاسة الفرنسية أن رئيس الدولة "لن يتخلى عن المشروع"، لكنه "مستعد لتحسينه، من خلال المحادثات مع النقابات". 

أبرز المتضررين

بحسب قناة "فرانس 24"، فإن الخاسرين من النظام الجديد هم العاملون في القطاع الخاص، حيث لن يتم احتساب الأجر على أساس معدل أفضل 25 سنة عمل، إضافة إلى العاملين في القطاع العام والذين لن يتم احتساب راتب التقاعد لهم وفقا لرواتب متوسط آخر ستة أشهر الأخيرة فضلا عن العاملين في قطاع التعليم والذين وصفهم التقرير بأنهم أكبر الخاسرين من النظام الجديد حيث سيتم احتساب المعاش على أساس سنوات العمل ككل بالنسبة للجميع.

وقال الدكتور كميل ساري أستاذ الاقتصاد بجامعة السوربون: إن نظام التقاعد المقترح من طرف الحكومة وماكرون يعتمد على أجور مرتفعة وكذلك على الديمومة في مسار العمل، أي أن الأشخاص يجب أن يعملوا على الأقل 43 سنة من عمرهم، أما الذين يعانون البطالة أو عاطلون عن العمل لأسباب مختلفة فإنهم سيخسرون.

وأشار ساري في لقاء تلفزيوني إلى أن المشكلة الأساسية هو أن هناك أنظمة استثنائية مختلفة، لافتا إلى أن عمال السكك الحديدية مثلا يستطيعون مغادرة مناصبهم في سن 55 سنة.

وأضاف: "ماكرون اقترح هذا التغيير وتوحيد 42 نظاما تقاعديا ويريد أن يدخل التاريخ لأنه إذا نجح فهذا معناه أنه الرئيس الوحيد الذي نجح في ذلك"، حيث أخفق جاك شيراك في 1995، كذلك أخفق ساركوزي بصورة نسبية، أما فرانسوا أولاند فلم يحاول من الأساس.

وأوضح ساري أن هناك عجزا في صناديق التقاعد يصل إلى 17 مليار يورو وهذا هو السبب في اقتراح القانون الجديد، وأنه إذا لم يكن هناك أي إصلاح فهذا الرقم سيتصاعد.

وعن خسارة الاقتصاد الفرنسي بسبب الإضراب الجاري، أشار إلى أن منظمة الشركات الصغرى أفادت بأن الإضراب يتسبب بخسائر يومية تقدر بـ 500 مليون يورو، وإذا استمر هذا الإضراب سترتفع الخسائر.

وقدر رئيس السكك الحديدية الفرنسية، جان بيير فاراندو، خسائر الشركة بنحو 400 مليون يورو بسبب الإضراب الحالي، وأشار فاراندو إلى أنه من السابق لأوانه الحديث عن الخسائر النهائية للإضراب الذي طال معظم أنحاء البلاد.

أما الرئيس ماكرون، فيرى أن هذه الخسارة لا شيء بالنسبة للدولة إذا ما تم تمرير هذا الإصلاح لأنه سيكون ساري المفعول لعدة أجيال والعديد من العمال الذين يكافحون من أجل ضمان معاشاتهم وأبنائهم.

وبحسب ساري، فإن هذه الإصلاحات بالرغم من كل تصريحات المسؤولين الفرنسيين سواء الرئيس أو رئيس الوزراء هي في حد ذاتها تقليص في عجز الميزانية على حساب الشغيلة بدفعها للعمل لسنوات إضافية، مشيرا إلى أن النظام الحالي مبني على أفضل 25 سنة من ناحية الأجور ما يعني أن هناك معدل يتم حسابه من خلال هذه السنين، أما نظام النقاط فيعني حساب معاش التقاعد من خلال متوسط الراتب منذ بداية التشغيل حتى التقاعد وهو ما يعني أن الكل سيخسر أو سيدفع العديد للعمل ربما حتى سن 65 أو 70 سنة.

عامل الوقت

تراهن الحكومة على عامل الوقت لتبديد الاحتجاجات والإضرابات المتواصلة وتعمل بطريقة "بدلا من قطف الثمرة دعنا ننتظرها حتى تتعفن وتسقط من تلقاء نفسها".

وفي تقرير لصحيفة "لوموند" الفرنسية، قالت: إن جزءا من القطارات لا يزال لا يعمل ولا يزال هناك عدد من محطات المترو في باريس ثابتة لا تتحرك، واستشهدت بقول أوليفييه بيسانسينوت، زعيم "الحزب الجديد" المناهض للرأسمالية: "إن الحكومة تلعب بعقارب الساعة، فهي تترك الوضع يتعفن" للتأكيد على أن الحكومة الحالية تلعب على عامل الزمن.

وأشارت الصحيفة إلى أن الواقع يقول: إن ماكرون ورئيس وزرائه فيليب إدوار لا يريدون إعطاء شعور بالتراجع في مواجهة التعبئة التي وصفتها بأنها تتآكل ببطء مستشهدة بأن نسبة المضربين بين سائقي القطارات تراجعت إلى 38.8 بالمئة في 27 ديسمبر / كانون الأول مقارنة بـ 49.3 قبل هذا التاريخ بثلاثة أيام.

المشهد العام حتى الآن في فرنسا يشير إلى أن الحكومة والمتظاهرين يلعبون لعبة عض الأصابع فالحكومة تراهن على عامل الزمن لتراجع أعداد المضربين لتمرير مشروع القانون وخطتها الهادفة إلى تقليص عجز صندوق المعاشات، والمضربون يلعبون على الضغط على الحكومة من خلال الشلل التام الذي تعاني منه العاصمة وبعض المدن الأخرى جراء الإضراب الشامل في أغلب القطاعات وأبرزها النقل والصحة والتعليم.