هكذا ذاب التأثير السُني في دهاليز العملية السياسية بالعراق
تكاد تكون المرة الأولى التي يفتقد فيها سُنة العراق إلى كتلة موحدة تمثلهم في البرلمان والحكومة، منذ بدء العملية السياسية عقب الغزو الأمريكي عام 2003، الأمر الذي يراه البعض إضعافا للمكون، فيما يجده آخرون بداية لإنهاء المحاصصة بالبلد.
تلك التباينات في الرؤى بين المكون السني، أفرزت كتلتين متضادتين في التوجه السياسي والتحالفات، حيث اختارت كل واحدة منهما أن تنضوي في تحالف ترأسه كتلة شيعية، واحدة حسبت على المحور الإيراني والأخرى صنفت على المحور الأمريكي.
فخ إيراني
أفرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أيار/ مايو 2018، نحو 71 مقعدا للسنة في البرلمان من أصل 329، إلا أنها للمرة الأولى لم تجتمع هذه المقاعد في كتلة واحدة كما درجت العادة، وانشطرت إلى كتلتين.
وكان العنوان الأبرز للطرفين في عدم الاجتماع ضمن كتلة واحدة هو "مصلحة المكون"، فقد ذهبت المجموعة الأكبر من النواب السُنة إلى جانب تحالف "البناء" المحسوب على المحور الإيراني لأنه يضم قوى تمثل الحشد الشعبي، ممثلة بتحالف "الفتح" يقوده هادي العامري، وائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي.
أما الكتلة الأصغر من السُنة والتي لا يتجاوز عدد نوابها أصابع اليد الواحدة، فضلت الانضمام إلى تحالف "الاصلاح" الذي حُسب على المحور الأمريكي، ويقوده ائتلاف "سائرون" بزعامة مقتدى الصدر، وائتلاف "النصر" بزعامة حيدر العبادي وتيار "الحكمة" الذي يقوده عمار الحكيم.
وعلى أساس حجم التمثيل السني في كتلتي "البناء" و"الإصلاح" وزعت حصة المكون من المناصب في الدولة العراقية، إلا أن الطرفين لا يزالان يتبادلان الاتهامات بتضييع حقوق السُنة، وتغليب المصالح على حساب مظالم المناطق التي دمرتها الحروب ضد تنظيم الدولة.
إلا أن المفاجأة كانت فيما طرحه نائب رئيس الوزراء السابق السياسي الشيعي بهاء الأعرجي، من أن إيران كانت وراء انشطار المكون السني إلى كتلتين، وأن الموضوع كان "فخا لتذويب التأثير السني" في البرلمان والحكومة.
وأوضح القيادي السابق في التيار الصدري، أن السنة انطلت عليهم حيلة "المشروع الوطني"، والدليل على ذلك لا تلمس وجودا للنواب السنة في قائمتي "الإصلاح" و"البناء".
لكن السياسي الشيعي المقرب من إيران عزت الشابندر رأى عكس ذلك، بالقول: "التحالفات في أعوام 2006، 2010، 2014، كلها كانت على أساس طائفي شيعي، سني، كردي، أما في انتخابات 2018، فأصبحت خليطا من هذه المكونات".
وأشار الشابندر في مقابلة تلفزيونية إلى أن هذه الانتقال من تحالفات قائمة على أساس طائفي وعرقي لثلاث دورات انتخابية، بالتأكيد لن يكون انتقالا صافيا ومتكاملا مئة بالمئة في أول تجربة لها.
صراع زعامة
وفي قراءة أخرى للمشهد السياسي السُني، نشب صراع لم يعد خفيا بين الكتلتين السنيتين على تزعم المكون في العراق، بلغت ذروتها عندما قرر رئيس البرلمان العراقي برئاسة محمد الحلبوسي الذي تزعم المكون، برفع الحصانة عن 8 من النواب السنة المناوئين له في 20 أغسطس/آب الماضي.
ومن أبرز هؤلاء النواب، غريمه في "تحالف القرار" النائب طلال الزوبعي الذي كان قد طعن في شرعية انتخاب الحلبوسي رئيسا للبرلمان، بعدما كشف عن دفع رشاوى كبيرة تصل إلى 30 مليون دولار لبعض النواب مقابل الحصول على المنصب.
وعقب تلك الضربة التي تلقّاها "تحالف القرار"، كشفت تقارير صحيفة، أن الأخير قاد حراكا في العاصمة الأردنية عمّان، لإنهاء هيمنة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي على المشهد السياسي السني.
وأفادت بأن الحراك السياسي الذي يقوده أسامة النجيفي زعيم "تحالف القرار" والسياسيين: جمال الضاري، وخميس الخنجر، ورافع العيساوي، جاء خصوصا بعد سلسلة القرارات الأخيرة للحلبوسي وأبرزها رفع الحصانة عن النائب طلال الزوبعي.
وأوضحت التقارير، أن الحراك السياسي أعاد طرح النائب طلال الزوبعي كبديل عن الحلبوسي، لافتا إلى أن الزوبعي يحظى بدعم مباشر من رئيس تحالف القرار أسامة النجيفي.
ووفقا للمعلومات الواردة، فإن قوى شيعية تدعم توجه إقالة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي من منصبه لا سيما بعد مواقفه الأخيرة من استهداف مقار "الحشد الشعبي" وعدم التعليق عليها، على اعتباره من المحور الإيراني.
وبعد ذلك، أعلن النجيفي منتصف سبتمبر/أيلول، تشكيل تحالف سياسي أطلق عليه "جبهة الإنقاذ" ضم شخصيات وحركات سنية، لتبنّي "مظلومية" المناطق السنية المدمرة وآلاف المغيبين والمعتقلين من المكون.
قبل ذلك فشل اجتماع لرؤساء البرلمانات العراقية منذ 2005 وحتى الآن (كلهم من السنة) عقد في يوليو/تموز الماضي، في الخروج برؤية توحد المكون السني في مشروع واحد، ولا سيما قبل انتخابات مجالس المحافظات في أبريل/نيسان المقبل.
وكشف مصدر سياسي كان حاضرا في الاجتماع (طلب عدم الكشف عن اسمه) في حديث لـ"الاستقلال" أن "اللقاء الذي حضرته الزعامات السياسية السنية، لم يخرج بنتيجة حول توحيد الرؤية السنية للمرحلة الراهنة والمقبلة".
وأكد، أن "الصراع لا يزال قائما بين الحلبوسي والنجيفي، الذين يُعدان أبرز أقطاب الكتلة السياسية للمكون السني، إذ يسعى كل واحد منهما إلى أن يكون رأس الهرم في قائمة تتحدث وتدافع بالنيابة عن حقوق المكون".
الاجتماع الذي عقد بمنزل رئيس البرلمان سليم الجبوري وحضره الرئيس الحالي محمد الحلبوسي، وأسامة النجيفي، وإياد السامرائي، وحاجم الحسني، ومحمود المشهداني، خرج ببيان أكد فيه أن الحاضرين ناقشوا تطورات الأوضاع السياسية في العراق والمنطقة.
ناقش الحاضرون كذلك ملف إجراء انتخابات مجالس المحافظات وأهمية الإسراع بحسم التعديلات على قانون الانتخابات. وتباحثوا أيضا بالملف الأمني لمناطق حزام بغداد ذات الغالبية السنية، وفقا للبيان.
مرجعية سياسية
لعل المتفحص للمشهد السياسي السني في العراق، يجد أن التحالفات السنية جميعها كانت سريعة الانهيار عقب كل انتخابات برلمانية، إلا الانتخابات الأخيرة عام 2018، فقد كان التشتت سابقا لأوانه المعهود، إذا لم تتفق الكتل على الدخول بتحالف واحد، ولا محاولة الائتلاف بعد الانتخابات.
وكشفت تقارير إعلامية، أن العامل الرئيس في فشل التوصل إلى تحالف سني رصين، كان الأزمة الخليجية الأخيرة بين عدد من دول مجلس التعاون الخليجي مع دولة قطر، واصطفاف تركيا معها.
وبينت، أن أبرز الأحزاب والحركات السنية عقدت بمدينة إسطنبول التركية، في مارس/آذار 2017 اجتماعات مطولة انبثق عنها تحالف سياسي جديد يُعد بمنزلة مرجعية سياسية للسنة، برعاية أطراف دولية وعربية.
وأوضحت التقارير، أن "رؤية مشتركة لتركيا وقطر والأردن والإمارات والسعودية، إضافة إلى أمريكا والاتحاد الأوروبي، تسعى لترتيب البيت السني في العراق وإعمار المدن، وإعادة النازحين".
وأضافت أن "الإرادة الدولية هذه انطلقت من رؤية موحدة بأن تهميش السنة وعدم إعطائهم حقوقهم ومشاركتهم الفعلية في المشهد السياسي، أدت إلى نشوء الجماعات المتطرفة، وإذا لم يشعروا بمشاركة حقيقية، فإن النتائج ستكون ذاتها".
مشروع للخلاص
لكن الاجتماعات التي وصفتها التقارير بأنها كانت إيجابية ولأول مرة يتكون مشروع سني موحد يجمع أبرز الأطراف المختلفة، استعدادا لمرحلة ما بعد تنظيم الدولة والانتخابات البرلمانية في 2018، لم ير النور بسبب تفجر الأزمة الخليجية.
وأدى الانقسام الذي حصل بين الدول آنفة الذكر "الإمارات السعودية الأردن، تركيا وقطر" إلى انهيار مشروع "المرجعية السياسية السنية" في العراق، فقد دعمت الرياض وأبوظبي وعمان مجتمعة كتلا سنية بعينها دون غيرها، فيما ذهبت قطر وتركيا إلى دعم آخرين.
وعن الموضع ذاته، قال أمين عام الحزب الإسلامي إياد السامرائي الذي كان حزبه أحد الأطراف المشاركة بتلك الاجتماعات: إن "التجارب السنية كلها فشلت فشلا ذريعا في توحيد صفوفها، وما عاد مزاج الشارع يتقبل ذلك".
وطرح السامرائي في مقابلة تلفزيونية رؤيته للتخلص من التخندقات الطائفية، بالقول: إن "التحالفات الطائفية والعرقية أصبحت من الماضي، فإذا استطعنا أن نحوّل التفككات الحاصلة إلى إيجاد حالة وطنية من الموالاة والمعارضة، ضمن برامج حقيقية".
وأوضح السامرائي، أن "الحالة الوطنية ستتبنى البرامج، ولا تستطيع أن تلعب الأحزاب السياسية بورقة الطائفية، لأن الشارع مل منها، والمنظومة السياسية لا تستطيع أن تستثمرها مجددا".
ولفت إلى أن "ذهاب السنة إلى تأسيس تحالف سني يتحدث بمظلومية المكون، سيعمل ذلك على استفزاز الطرف الشيعي لإنشاء تحالف طائفي بالمقابل يكون هدفه تفكيك التحالف السني. لكن لو حدثت تحالفات سنية شيعية سيتبنى الحليفان مظلومية الطرفين وإيجاد حلول لها".
وجرت العادة في العراق منذ تشكل العملية السياسية بعد عام 2003 على تقاسم المناصب في الدولة على أساس طائفي وعرقي، إذ تذهب رئاسة الجمهورية للأكراد والبرلمان للسنة والحكومة للشيعة.