الصوفيون في مصر.. كيف يوظفهم الحكام لدعم أنظمتهم المستبدة؟
"يا ربنا ليس لنا من أمرنا إلا السكوت.. يا ليتنا نرضى بما يعطى لنا حتى نموت.. والمبتلى يا ذا العلى لا يبتغي إلا النجاة.. في يسرها أو عسرها ملعونة تلك الحياة.. لا نستطيع ألا نطيع أميرنا فيما يراه"، كلمات أغنية تضمنها الفيلم المصري "المصير"، الذي تم إنتاجه عام 1997، من إخراج الراحل يوسف شاهين.
ورغم أن الفيلم أثار جدلا بشأن حياة الفيلسوف الإسلامي ابن رشد، قاضي قضاة قرطبة بالأندلس، لكنه تناول شيئا من النزعة الصوفية، عبرت هذه الكلمات خلالها عن حال جماعة من المتصوفة، الذين خدعوا بالانتماء إلى شيخ، ساقهم إلى رحاب السلطان بدلا من رحاب الله بحسب قصة الفيلم.
حال الصوفيين الآن لا يختلف كثيرا عن حالهم في "المصير"، يدورون في فلك الحاكم حيث دار، ينتمون حيث ينتمي الحاكم، ولاء مطلق وطاعة تامة، عبر عنها المجلس الأعلى للطرق الصوفية في دعمه الكامل لرئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية عامي 2014، و2018، وتعديلاته الدستورية عام 2019.
لعل التوحد الذي تم بين الأنظمة الحاكمة لمصر على مر العصور، وبين الجماعات والطرق الصوفية، تنبع أهميته من أهمية الدور الذي تلعبه تلك الجماعات، كونها تتحكم في قطاعات واسعة من الجماهير غير المسيسة، لذلك هي مؤثرة تأثيرا بالغا ملموسا وغير محسوس في دولاب العمل السياسي والعام.
النظام يمنح أولوية خاصة لهذه الطرق الصوفية، وأحيانا يتدخل ليشرف على مفاصلها بنفسه، وتحت عينه، كما حدث خلال عهود الرؤساء عبد الناصر، والسادات، ومبارك، وأخيرا في عهد السيسي.
تسلسل تاريخي
بحسب جريدة الأهرام المصرية الرسمية، يصل عدد الطرق الصوفية الرسمية والمصرح له قانونا إلى 76 طريقة "رئيسية وفرعية"، وتضم ما يقرب من 15 مليون مصري كأعضاء منتمين، ومنتشرين في مختلف المحافظات والمراكز والنجوع والقرى على مستوى الجمهورية، ومن أبرز الطرق الصوفية وأكثرها انتشارا (العزمية - الخلوتية - الرفاعية - الجعفرية - الشاذلية - الدسوقية).
تعود نشأة الصوفية في مصر إلى القرن الثالث الهجري، وأخذت تتطور وتتوغل في حياة المصريين، الذين جبلوا على النزعة الدينية، وجاء التطور الحقيقي للحركة، من انتقالها من مدرسة المتعلمين المنعزلين إلى مدرسة العلماء المعلمين، على يد الإمام الغزالي صاحب كتاب "إحياء علوم الدين".
ومع دخول الدولة العبيدية الشيعية المعروفة في التاريخ بـ"الفاطمية" إلى مصر، واهتمامها بإنشاء الأضرحة، أسسوا الأزهر الشريف ليكون مركزا لنشر المذهب الشيعي، تأثر الصوفية بذلك المناخ، ولجأوا إلى الأضرحة، وتوارثوا الكثير من عادات تلك الحقبة.
وبحسب وزارة الثقافة المصرية تكثر الأضرحة والمقامات الصوفية فى مصر حتى أن عددها وصل إلى ما يقرب إلى 6 آلاف ضريح.
الصوفية في مصر أخذت مراحل انسيابية، ولم تعرف شكل التقنين إلا مع دخول عهد محمد علي باشا، الذي حكم مصر بداية من العام 1805، وقنن أوضاعها، بعد أن أصدر فرمانا بجعل الطرق الصوفية تحت سلطة شيخ السجادة البكرية، وكان ذلك إيذانا ببداية عهد جديد لهذه الجماعات التي لم تكن قبل صدور هذا الفرمان خاضعة لسلطة الدولة المركزية.
الصوفية والقصر
جاءت الحقبة الملكية وحكمت الأسرة العلوية مصر، ولم يحدث صدام يذكر بين الحكام وكبار مشايخ الطرق الصوفية خلال تلك الفترة التي انتهت بقيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، على يد الضباط الأحرار، الذين نجحوا في الإطاحة بآخر ملوك مصر فاروق الأول.
كانت الطرق الصوفية في مقدمة من دعموا حركة الجيش، ومع تموجات وتقلبات المراحل الانتقالية التي تعقب الثورات، بدأت أزمة مارس/آذار 1954، ودب الخلاف بين الرئيس محمد نجيب من جهة، وجمال عبد الناصر من جهة أخرى، وكانت التيارات الإسلامية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين في صف محمد نجيب، الذي أطيح به فدخلت الحركة برمتها في صدام شديد مع جمال عبد الناصر.
بدأ عبد الناصر التنكيل بالإخوان وسجنهم، على خلفية حادثة المنشية، وأعدم بعض قادتهم مثل عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ثم تفرغ لوضع إطار جديد لجميع المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، ومنها الطرق الصوفية، فقام بتعيين الشيخ محمد محمود علوان، على رأس الطرق الصوفية، خلافا لما كان معمولا به في العرف السائد حين كان يتم التعيين بالأقدمية.
ورأت مشايخ الصوفية حينها أن الوقت غير مناسب للصدام مع عبد الناصر، معتبرين بما حدث للإخوان، والمعارضين للرئيس بشكل عام، وفضلوا خيار المداهنة والتقرب، وهو ما انعكس في زيادة عدد المنتمين، كما استغل النظام هذه الحركة للترويج لأفكاره ومنشوراته خلال الاحتفالات الدينية، وخاصة الموالد.
حرص جمال عبد الناصر على انخراط أعضاء من الصوفية داخل الاتحاد الاشتراكي، ومجلس الأمة، ومنهم الشيخ كامل القياتي أحد أبرز مشايخ الطرق الصوفية وقتها.
بعد موت عبد الناصر في 28 سبتمبر/ أيلول 1970، ومجيء أنور السادات، تبدلت التوجهات السياسية، من إقصاء الإسلاميين والتنكيل بهم، إلى سعي النظام الجديد للتصدي للشيوعين، الذين تمددوا بقوة خلال العهد السابق، وعقد السادات مصالحة مع جماعة الإخوان، وأخرجهم من السجون.
جاء ذلك ضمن سياق اهتمام السادات بأن يظهر في صورة الرئيس المؤمن، وأن يعطي مساحات واسعة للجماعات الإسلامية، بما في ذلك الحركة الصوفية، ضمن إطار لعبة التوازنات بين القوى السياسية، التي لجأ إليها السادات خلال فترة حكمه.
في هذه الفترة شهدت الطرق الصوفية تطورا جديدا، حيث أنشأ السادات ما يعرف بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية عام 1976، وذلك بموجب القانون رقم 118، الذي يشير إلى أن المجلس "ذو أغراض دينية وروحية واجتماعية وثقافية ووطنية"، ويلتزم في كل نشاط له بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وتعد أمواله عامة.
بعد اغتيال السادات في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1981، بدأ عهد مبارك، واتسمت العلاقة بينه وبين الصوفية بالهدوء والتعاون كما جرت العادة مع الحكام السابقين، حيث وسع لها في الحضور والانتشار مقابل دعمه والانتماء والولاء لنظامه.
برزت في تلك الفترة ظاهرة أن بعضا من قيادات الحزب الوطني في عهد مبارك كانوا من المتصوفة، ومنهم عبد الهادي القصبي الذي عينه مبارك شيخا لمشايخ الطرق الصوفية، وكان شيخ الأزهر أحمد الطيب، عضوا بلجنة السياسات داخل الحزب الوطني الحاكم وقتها.
هيكلة الحركة
تنخرط الفرق الصوفية تحت ظل المجلس الأعلى للطرق الصوفية، الذي تشكل عام 1997، ويتكون من 16 عضوا على رأسهم شيخ مشايخ الطرق الصوفية الذي يعينه رئيس الجمهورية، كما تجري انتخابات العضوية كل 3 سنوات لاختيار 10 أعضاء بالانتخاب، بينما يعين الخمسة الباقون وزارات التنمية المحلية والثقافة والأوقاف والداخلية والأزهر الشريف.
وتتكون تشكيلة المجلس من:
-
شيخ مشايخ الطرق الصوفية (رئيسا).
-
10 أعضاء من مشايخ الطرق الصوفية المنتخبين لعضوية المجلس.
-
ممثل للأزهر يختاره شيخ الأزهر.
-
ممثل لوزارة الأوقاف يختاره الوزير.
-
ممثل لوزارة الداخلية يختاره الوزير.
-
ممثل لوزارة الثقافة يختاره الوزير.
-
ممثل للأمانة العامة للحكم المحلي والتنظيمات الشعبية يختاره الوزير المختص.
بيعة السيسي
مسار تأييد الحاكم المطلق من قبل الطرق الصوفية لم يختلف، إلا في فترة الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي وجد معارضة، وتململا من قبل قيادات الطرق في عموم البلاد، وانتهى الحال بتأييد الطرق الصوفية ومشايخها للانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013.
وكان من أبرز مشاهد تلك الفترة، تصريحات مفتي الجمهورية السابق الشيخ علي جمعة، المعروف بانتماءاته الصوفية، المتعلقة بتحريض ضباط الجيش على قتل المتظاهرين، والمعتصمين السلميين الرافضين للانقلاب.
وفي مايو/ آيار 2014، أعلن عبد الفتاح السيسي ترشحه للانتخابات الرئاسية الأولى، التي تمت في مناخ مفعم بالاستبداد والاعتقالات، وتقدمت مشايخ الطرق الصوفية لدعمه وإعلان بيعته، وبينهم رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية عبد الهادي القصبي ورفعوا شعار "لا إله إلا الله.. السيسي حبيب الله".
وبعدها أرسل المجلس الأعلى للطرق الصوفية تهنئة إلى السيسي ووصفه بأنه "الرئيس المصري الجديد والمنتخب بإرادة شعبية حرة ونزيهة"، وناشد جميع المشايخ والمريدين التكاتف معه والتضامن من أجل مصر.
وفي سبتمبر/ أيلول 2017، أكد القصبي دعم الطرق الصوفية للسيسي في مواجهة من أسماهم الأعداء، وقال: "موقفنا من الرئيس السيسي واضح للجميع، ندعمه ونسانده في حربه ضد الإرهاب وحربه على الجماعات التخريبية والظلامية التي تسعى لهدم الدولة والقضاء عليها".
الدعم الكامل الذي قدمه القصبي، للنظام بقيادة السيسي، وجد أثره سريعا، حيث تم ترشيحه إلى البرلمان، ودخل ضمن قائمة "في حب مصر" المدعومة من المخابرات والأجهزة الأمنية، بل وأصبح زعيم الأغلبية البرلمانية.
أما السيسي فمثله مثل الحكام من قبله، وجد في التيار الصوفي ضالته، من حيث اكتساب ظهير ديني، يستطيع جذب قواعد شعبية غير مسيسة، بالإضافة إلى استخدامهم في دفع التيارات الإسلامية المضادة له، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين، للاستمرار في إبعادهم عن المشهد السياسي والاجتماعي.
صراع محموم
صراع محموم دار في أروقة الحركة الصوفية، بين اثنين من كبار أقطابها، وهما الشيخ عبد الهادي القصبي الذي كان شيخا للطريقة القصبية الخلوتية، والشيخ محمود علاء الدين أبو العزائم، شيخ الطريقة العزمية الشاذلية.
اندلع النزاع في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، بعد وفاة الشيخ أحمد كمال ياسين شيخ مشايخ الصوفية في مصر، وبحسب القانون 118 لسنة 1976، القاضي باختيار العضو الأكبر سنا، كان من المفترض أن يتم تعيين الشيخ أبو العزائم على رأس الطرق الصوفية.
أبو العزائم فوجيء باختيار القصبي "الذي كان عضوا في مجلس الشورى عن الحزب الوطني" بدلا منه، لتبدأ خصومة تاريخية بين الطرفين، شهدت انقسامات ونزاعات في جسد الحركة الصوفية، بعد أن انحازت العديد من الفرق الصغيرة والكبيرة لكليهما.
القيادة السياسية وقتها بقيادة مبارك، رأت أولوية تعيين القصبي لبعض الاعتبارات على رأسها عضويته في مجلس الشورى عن الحزب الوطني، وكذلك عضويته في المجلس المحلي وهيئة المكتب السياسي بالأمانة العامة لمحافظة الغربية، وتاريخ والده القديم، الذي كان محافظا للغربية، وشيخا للطرق الصوفية من 1994 حتى وفاته في 1997.
أما الشيخ أبو العزائم فكان كثير القلاقل، إضافة إلى علاقاته القوية مع إيران، وسفره المتكرر إلى طهران، وتقاربه مع الشيعة، ما جعله محل خلاف، وفضل النظام استبعاده من ذلك المنصب شديد الحساسية.
المصادر
- المجلس الأعلى للطرق الصوفية بمصر
- كيف تحولت الصوفية في مصر إلى أداة بأيدي الأنظمة الحاكمة؟
- 15 مليون صوفي بمصر..11 قرنا من البناء الروحي
- الصوفية في مصر.. من الذكر إلى السياسة
- خريطة الطرق الصوفية وتطوراتها في مصر
- الصوفية والسلفية في مصر.. تقارب مع السلطة وصراع مستمر
- الصوفية.. 77 طريقة يتبعها 15 مليونا والانضمام يبدأ ببيعة
- الطرق الصوفية في مصر: تقارب مع السلطة وصراع مع السلفيين
- نزاع أبي العزائم والقصبي: من الصوفية إلى كرسي المشيخة