في خضم حربه ضد حميدتي.. لماذا انقلب البرهان على حمدوك وقادة “تقدم”؟
اتهمت النيابة العامة السودانية حمدوك بـ "التحريض على الحرب ضد الدولة"
تشهد الحرب في السودان توسعا وفرزا سياسيا حادا بين الجيش وقوى شعبية مختلفة بعضها إسلامية من جهة، ومليشيات "الدعم السريع" المدعومة من تيارات سياسية يسارية من جهة ثانية.
وفي تطور جديد ينبئ بنهاية دور القوى المدنية اليسارية التي تقاسمت الحكم مع الجيش عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، أصدرت النيابة السودانية 3 أبريل/نيسان 2024 أوامر بالقبض على عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السابق، زعيم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، و15 من قادة التنسيقية.
بلاغ النيابة أوصى بالقبض أيضا على رئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، ورئيس الحركة الشعبية، ياسر عرمان، وعضو مجلس السيادة السابق، محمد الفكي، ووزير مجلس الوزراء السابق، خالد عمر، بجانب وزيرة الخارجية السابقة، مريم الصادق المهدي.
وتزامن هذا مع تنفيذ الأجهزة الأمنية السودانية 8 أبريل/نيسان 2024 حملة اعتقالات واسعة استهدفت سياسيين وناشطين مدنيين من الموالين لقوى "الحرية والتغيير" اليسارية الداعمة لحمدوك في ولايات شرق وجنوب شرق البلاد.
إذ شنت قوة عسكرية تابعة للجيش حملة مداهمات لمنازل أكثر من 20 ناشطا وسياسيا وهاجمت دور أحزاب سياسية في مدينة سنجة جنوب شرق السودان.
ومع دخول الحرب التي بدأت في 15 أبريل/نيسان 2023 عامها الثاني، تمدد القتال إلى ولايات، كانت خارج دائرة المعارك مثل ولاية القضارف، شرقي البلاد، ومدينة عطبرة بشمال السودان، كما انتقلت إلى دارفور (غرب) التي تسيطر مليشيا الدعم السريع على 4 من أصل 5 ولايات فيها.
لماذا الآن؟
واتهمت النيابة العامة السودانية، حمدوك بـ "التحريض على الحرب ضد الدولة" كما وجهت له تهما أخرى قد تصل عقوبتها إلى الإعدام.
وعقب القرار بدأ السودان يطارد قيادات “تقدم” خارج البلاد عبر الشرطة الدولية "الإنتربول"، ويطالب بالقبض عليهم وتسليمهم.
كما قدمت بلاغات جنائية ضد 40 من قادة ائتلاف الحرية والتغيير وتحالف القوى المدنية "تقدم" بتهم تتصل بإثارة الحرب ضد الدولة وتقويض النظام الدستوري، وإثارة التذمر بين القوات النظامية، وجرائم أخرى تصل عقوبتها إلى الإعدام.
الاتهامات التي وجهت لحمدوك وقادة تحالفه السياسي الذي يضم يساريين وليبراليين، أثارت تساؤلات حول علاقتها بلقاء حمدوك بقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في إثيوبيا يناير/كانون ثان 2024، وتوقيع اتفاق بينهما.
كما طرحت تكهنات حول احتمالات أن تكون هذه الخطوة موجهة إلى مصر التي احتضنت حمدوك واستقبلته في مارس/آذار 2024، وسط ترجيحات سودانية عن تغير في موقف القاهرة من الصراع وتبدل نسبي في دعمها للجيش، بضغوط إماراتية.
لكن دلالات قرارات النيابة السودانية تشير إلى أنها ذات صبغة سياسية، وتداعياتها تعني أن الجيش السوداني ربما يرى أن ورقة حمدوك احترقت ولا مجال لعودته للعب دور سياسي، بعدما انحاز للدعم السريع وأصبح لاعبا في معسكر الإمارات.
وتشكلت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، المعروفة إعلاميا باسم "تقدم"، في أكتوبر/تشرين الأول 2023 من عدد من التنظيمات السياسية والقطاعات المهنية، بجانب بعض الحركات المسلحة، بهدف العمل لإيقاف الحرب.
بحسب مصادر سودانية سياسية وحزبية لـ "الاستقلال" يعد هذا القرار بمثابة إعلان للانفصال التام بين الجيش السوداني والقوى اليسارية والليبرالية التي تحالف معها العسكر عقب الإطاحة بالبشير 2019 ثم عاد لينقلب عليها عام 2021.
معناه حرق التاريخ السياسي لحمدوك ونهاية دوره في الحياة السياسية، ورفض قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لقاءه، لأنه لم يحافظ على استقلاله في الصراع بين الجيش والدعم السريع ومال ناحية الأخير.
ويقول رئيس تحرير صحيفة "المجهر" السودانية، الهندي عز الدين إن بلاغات النيابة العامة (لجنة جرائم الحرب) ضد حمدوك وقيادات "تقدم"، تعني أن البرهان لن يكون بمقدوره لقاء متهمين في جرائم حرب، إلا بعد مثولهم أمام النيابة ومحاكمتهم أو شطب البلاغات بعد التحقيقات.
مراحل متقدمة
في المقابل، سيعني هذا الشقاق بين البرهان وحمدوك ومن قبله تيار الحرية والتغيير أن التحالف الذي نشأ بين الجيش والقوى الشعبية الإسلامية وبعض أنصار الحزب الحاكم سابقا (المؤتمر الوطني) لمحاربة قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تدعمها "تقدم"، دخل مراحل متقدمة.
ويؤكد أن الحرب الحالية أعادت قوى موالية لنظام الرئيس السوداني السابق، عمر البشير للساحة على حساب حمدوك وأنصاره.
وهو ما دفع محللين للقول إن قرار اعتقال حمدوك مؤشر على أن أنصار البشير، ربما عادوا إلى السلطة مجددا، أو أصبح لهم تأثير سياسي أكبر منذ اندلاع الحرب الحالية.
وتحول قادة "تقدم" برئاسة حمدوك إلى "ظهير سياسي" غير معلن للدعم السريع عقب لقائهم وتوقيعهم اتفاقا مع "حميدتي" في أديس أبابا يناير 2024، وأصبحوا بالتالي يصنفون كأعداء للدولة، بحسب مراقبين.
وخلال خطابه للشعب السوداني بمناسبة عيد الفطر يوم 9 أبريل/نيسان 2024 حرص البرهان على نفي العودة لثلاثة عهود، منها عهد حمدوك.
إذ نفى العودة لعهد ما قبل لحرب الحالية 15 أبريل 2023، أي لا دور لحميدتي مستقبلا.
ولا عودة لما قبل 25 أكتوبر 2021، أي للحكومة المدنية الانتقالية التي كان يقودها حمدوك، أو الاتفاق الإطاري الموقع مع القوى اليسارية.
إضافة لرفضه العودة إلى ما قبل أبريل 2019، في إشارة إلى أنه لا عودة لنظام البشير رغم مشاركة الإسلاميين في الحرب ضد قوات الدعم السريع.
ووصف حمدي عبدالرحمن حسن، أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة، لقاء حمدوك وحميدتي بأنه "محاولة لإضفاء الشرعية على قوات الدعم السريع وقيادتها".
وفي تحليل نشره بموقع "مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية" بجريدة الأهرام 4 يناير 2024، أكد أن الجيش السوداني عد اتفاق أديس أبابا اتهاما لـ "حمدوك" وحركته "تقدم" بأنها تمثل حاضنة مدنية لقوات حميدتي، أي أنها شريك له، وليست وسيطا.
وأوضح أن إعلان أديس أبابا طرح العديد من التساؤلات والمخاوف، إذ إن هناك اعتقادا بأن "تقدم" حمدوك هي الوجه الآخر لـ "قحت" (قوى إعلان الحرية والتغيير) اليسارية، خاصة أن كليهما يضم نفس الوجوه تقريبا.
كما أن عقد الاجتماع التحضيري للتنسيقية في أديس أبابا أكتوبر 2023 طرح أكثر من علامة استفهام حول ارتباط "تقدم" بمصالح قوى إقليمية ودولية معينة.
وجرى وضع حمدوك تحت الإقامة الجبرية بعد انقلاب أكتوبر 2021 الذي قام به الحليفان السابقان حميدتي والبرهان.
وبعد فترة وجيزة من عودته إلى منصبه، استقال حمدوك في يناير 2022 وهرب إلى أبو ظبي، ثم عاد للظهور كجزء من ائتلاف جديد يعرف باسم "تقدم".
دور مصر
قبل الاتهامات التي وجهتها نيابة السودان لحمدوك وقادة تياره "تقدم"، بأقل من شهر، زار حمدوك القاهرة يوم 8 مارس/آذار 2024، ما طرح تساؤلات حول تغير محتمل في موقف مصر من الصراع في السودان.
عزز هذا قول حمدوك لصحيفة "السوداني" 11 مارس/آذار 2024 إن الزيارة "أتت من الحكومة المصرية"، أي بدعوة رسمية منها رغم أنه ليس مسؤولا رسميا.
كما أكد موقع "البوابة" السوداني أن الأمن المصري أسكن حمدوك في استراحة جهاز المخابرات العامة خوفا من تعرض اللاجئين السودانيين له في القاهرة.
ورغم نفي مصدر في وفد حمدوك ذلك لـ "الاستقلال" وتأكيده أنه أقام في فندق ماريوت بالقاهرة، ظل السؤال: لماذا استقبلته القاهرة وسمحت له بعقد مؤتمرات سياسية تتعارض مع دعمها الشكلي المعلن للبرهان؟
محللون يرون أن التحول المحتمل في الموقف المصري من الانحياز للمؤسسة العسكرية انطلاقا من قناعتها أن الجيوش تحافظ على وحدة الدولة، إلى بدء ظهور مواقف سلبية مصرية، يرجع لقلق القاهرة من عودة نشاط الإسلاميين.
أشاروا لما تنشره صحف تطبيعية عن "اختراق" من جانب الإسلاميين للجيش السوداني، وأن هذا شجع القاهرة على زيادة انفتاحها على القوى المدنية اليسارية وعدم غلق الباب أمام الدعم السريع.
وفي 11 مارس/آذار 2024 قال حمدوك، إن القاهرة قد تحتضن اجتماعا محتملا بين رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وأضاف في مقابلة مع صحيفة "السوداني"، أنه ناقش مع القيادة المصرية إمكانية حث البرهان وحميدتي على اللقاء في القاهرة من أجل إيقاف الحرب، مشيرا إلى أن المسؤولين المصريين رحبوا بالأمر.
والتقى حمدوك بصفته رئيسا لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، في القاهرة بعدد من المسؤولين المصريين، وناقش معهم تطورات الأوضاع في السودان.