انقسامات لبنانية في ظل التصعيد.. من يتحمل مسؤولية إعمار الجنوب؟

يرفض خصوم حزب الله الموافقة على صرف الأموال لإعمار الجنوب
يشتد السجال بين الثنائي الشيعي “حزب الله” و"حركة أمل"، وقوى لبنانية حول تحمل كلفة إعمار مناطق الجنوب التي دمرها القصف الإسرائيلي.
إذ يحمل خصوم حزب الله الأخير كلفة الدمار الحاصل في البنية التحتية لجنوب لبنان بعدما دخل الحزب منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023 في تصعيد مع إسرائيل.
وهذه الجبهة التي فتحها الحزب مع إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، زادت الأعباء الاقتصادية على لبنان كونها أضيفت إلى الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ عام 2019 وأودت بنحو 90 بالمئة من اللبنانيين في براثن الفقر.
كلفة التعويضات
ورغم أن حزب الله فتح ما قال إنها "جبهة إسناد لغزة" وربط توقف الاشتباك مع إسرائيل بوقف إطلاق النار في القطاع المحاصر، فإن قوى لبنانية اعترضت على اتخاذه قرار الحرب بمفرده.
إذ تتهم قوى لبنان حزب الله بأنه ذراع عسكرية لإيران في هذا البلد، الذي تمده طهران بالسلاح والمال منذ تأسيسه في ثمانينيات القرن العشرين على يد الحرس الثوري الإيراني.
واليوم بدأت تثار أكثر في الأوساط اللبنانية نقاشات حول الجهة التي تتحمل تعويضات إعادة الإعمار، بين من يرميها على عاتق الدولة وآخرين على حزب الله.
فقد أوصى اللقاء التشاوري الذي عقده رئيس حكومة اللبنانية نجيب ميقاتي وعدد من الوزراء، في منتصف أبريل/نيسان 2024 بتشكيل لجنة لوضع منهجية مسح الأضرار وتحديد الحاجات في الجنوب، وكذلك تقديم اقتراحات لتمويل عملية إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل.
وقدرت "الشركة الدولية للمعلومات" وهي مؤسسة لبنانية تنشط في مجال البحوث وتقديم الاستشارات، قيمة الخسائر الإجمالية في جنوب لبنان بنحو 350 مليون دولار حتى الآن، بينما الخسائر عموما في البلاد تقدر بنحو 1.6 مليار دولار.
بينما قال مجلس الجنوب وهي مؤسسة رسمية، إن التصعيد الإسرائيلي ألحق أضرارا جسيمة بمرافق البنية التحتية، تقدر بنحو 500 مليون دولار.
وقال رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر، خلال تصريحات صحفية في 8 مايو 2024 إن الأضرار طالت بشكل رئيس البنية التحتية من مرافق المياه والكهرباء والصحة والخدمات الأساسية والطرقات.
وتعد تلك القرى والبلدات مثل الضهيرة وكفركلا وعيترون وعيتا الشعب، من المناطق الأكثر تضررا بسبب القصف.
وتقدر مؤسسات غير رسمية الدمار في الجنوب بنحو 1400 وحدة سكنية جرى تدميرها بشكل كامل، فيما تعرضت 7 آلاف وحدة سكنية لتدمير جزئي أو لأضرار.

وفق المنظمة العالمية للهجرة، فإن التصعيد أجبر أكثر من 93 ألف شخص على النزوح من منازلهم خصوصا من القرى الحدودية، ولم يتمكن هؤلاء من العودة حتى الآن.
كما قتل نحو مئة مدني منذ 8 أكتوبر 2023 جراء القصف الإسرائيلي على قرى جنوب لبنان.
وفي ظل تلك المعطيات، قال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، في مقابلة مع صحيفة "الجريدة" الكويتية في 28 مايو 2024 إن "الإسرائيليين يعتمدون سياسة التدمير الممنهج والأرض المحروقة على مسافة 7 كلم، وإلحاق خسائر تدميرية هائلة في قرى الجنوب".
ولفت بري زعيم حركة أمل التي تساند حزب الله عسكريا، بالقول: "بدأنا العمل من الآن على إعداد برنامج للإعمار وإعادة الناس على منازلها".
وأضاف: "طلبت من البنك الدولي توفير الأموال اللازمة لذلك، كما أنني أعمل مع المغتربين اللبنانيين على ضرورة أن يكون لهم دور أساسي وبارز في إعادة إعمار الجنوب".
وراح يقول: “ستكون لنا مناشدات ومطالبات لكل الدول القريبة والصديقة، خصوصا الأشقاء العرب، السعودية وقطر والكويت، للمساهمة في إعادة الإعمار”.
ويشير كلام بري إلى وجود جهود حكومية تعمل على إعداد برنامج لإعادة الإعمار في جنوب لبنان.
لكن وسط الانهيار الاقتصادي الحاصل في لبنان تمترس مصرف لبنان حول أمواله المتبقية ورفض تمويل الدولة في كثير من القضايا، خشية نفاد ما في خزينته من الأموال التي يصرف منها على القطاعات الحكومية الأساسية.
وقد قال حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري خلال تصريحات صحفية في 27 أبريل 2024: "إذا احتاجت الدولة إلى المال في حالات الظروف القاهرة وتفاقم رقعة الحرب، فسيترتب علينا تزويدها بالمال شرط أن يُقر ذلك بقانون صادر عن مجلس النواب".
حسابات خاطئة
وهنا تكمن المعضلة الكبرى، إذ يرفض خصوم حزب الله وهم الكتل الأكبر في البرلمان الحالي اللبناني الموافقة على صرف الأموال لإعمار الجنوب.
ومبرر هؤلاء وفق الكاتب اللبناني عماد الشدياق، أنهم "يرفضون التعويض على المتضررين الجنوبيين، لأن الدولة لم تكن شريكا في اتخاذ قرار الحرب مع إسرائيل".
وأضاف الشدياق في مقال رأي نشر في موقع “أساس ميديا” مطلع مايو 2024: "الجهة التي قررت فتح جبهة الإسناد (حزب الله) هي المطالبة بتعويض المتضررين من أجل إعادة الإعمار".
وبعد الحرب المدمرة التي خاضها حزب الله ضد إسرائيل صيف 2006، أسهمت دول خليجية في عملية إعادة الإعمار، كما أسهمت إيران، الداعم الرئيس لحزب الله، في ترميم جسور وطرق وإنشاء مراكز خدمية.
وفي الوقت الراهن تقف كثير من الأحزاب اللبنانية ضد تحمل كلفة الحرب من قبل الدولة اللبنانية.
ونشر موقع حزب القوات اللبنانية وهو خصم حزب الله في لبنان، مقالا على موقعه في 30 مايو 2024 تحت عنوان "من صادر قرار الحرب يتحمل مسؤولية إعمار الجنوب".

وقال الموقع: "من المضحك أن يستأثر فريق سياسي واحد بقرار الدولة، يتحكم بمصير ومستقبل اللبنانيين ويغامر بهم ويأخذهم إلى صراع مع إسرائيل من دون استشارة أحد، وكأنه يستعملهم جميعا دروعا بشرية ويعرضهم للموت المحتم".
وتابع: "هكذا هو حزب الذي يدمر لبنان من دون رفة جفن، وفي المقابل، يريد من الدولة التي أنشأ على خاصرتها دويلته الخاصة، أن تدفع ثمن حروبه وتدميره لمنازل الجنوبيين ضحايا قراراته".
ويضيف المقال: “كما قال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، إننا نعيش يوميا معاناة سكان الجنوب، ومأساة القرى المدمرة، وكله من جراء قرار اتخذه الحزب منفردا بالبدء بعمليات عسكرية في الجنوب بحجة دعم غزة”.
وتابع: "يأتي ذلك في الوقت الذي نرى فيه يوميا مأساة غزة، ومن دون أن يفيد قرار الحزب أهلها بشيء، إنما يعكس مجرد حسابات خاطئة جدا جدا يدفع لبنان والشعب اللبناني ثمنها".
وينقل الموقع عن مصادر سياسية قولها: “إن من يتحمل مسؤولية إعادة إعمار الجنوب، هو من يصادر قرار الحرب والسلم، هو من يستأثر بقرارات الدولة المصيرية، هو من يخوض الحروب العبثية خدمة لإيران، هو من يعرض أمن لبنان للمخاطر والدمار”.
وليس "الدولة التي أسهم بإضعافها، ووقف على خاصرتها شوكةً، وصنع دويلته واقتصاده الخاص، إنه حزب الله المسؤول الوحيد عما يجرى في الجنوب من دمار ومعاناة يتحملها أهالي الجنوب".
وتضيف تلك المصادر بالقول: “من يرد مقاومة إسرائيل، فعليه استشارة الدولة صاحبة الفصل باتخاذ قرار خوض الصراع من عدمه. لكن الحزب، يفرض أمرا واقعا على الدولة واللبنانيين خصوصا أهالي الجنوب، غير آبه للنتائج الكارثية”.
وبين أنه "عند وقوع الكارثة، يبدأ الحزب بالبكاء من أجل إعادة إعمار ما تهدّم، وهذا لم يعد مقبولاً، خصوصاً أن الدولة عاجزة".
أموال المودعين
واللافت أن في قضية تمويل إعادة الإعمار لجنوب لبنان، هو عودة التفكير باستخدام أموال المودعين اللبنانيين المحتجزة في البنوك للمساهمة في هذا الملف.
وكانت البنوك اللبنانية فرضت خلال السنوات الأخيرة قيودا شديدة على عمليات السحب والتحويلات بالعملة الأجنبية، لا سيما بالدولار، فضلا عن منع المودعين من الوصول إلى مدخراتهم البالغة قيمتها نحو 80 مليار دولار.
وأدى ذلك إلى فقدان الليرة اللبنانية نحو 90 بالمئة من قيمتها أمام الدولار، ما تسبب في تدني قيمة الرواتب، فضلا عن شح في الوقود والأدوية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
وضمن هذا السياق، قال الكاتب اللبناني عماد الشدياق: "مصرف لبنان من خلال اشتراطه الحصول على قانون في مجلس النواب يجيز له تقديم أموال لإعادة إعمار الجنوب، يكون قد رفع السقف بوجه تلك السلطة إلى أقصى قدر ممكن، محاولا حماية ما بقي من أموال المودعين".
و"خصوصا أن تمرير قانون كهذا في البرلمان سوق يخضع لأخذ ورد بين الكتل النيابية، ويدخل في بازارات ومقايضات"، بحسب ما أضاف الشدياق خلال مقال رأي نشر في موقع “أساس ميديا” مطلع مايو 2024.

وراح يقول: "هذه المسألة الشائكة تنذر بفتح سجال إضافي بين قوى السلطة والمعارضة، فوق السجالات الموجودة أصلا حول الحرب نفسها وضرورة تطبيق القرار 1701، فكيف بتعويضات الخسائر الناتجة عنها؟".
والقرار 1701 تبناه مجلس الأمن الدولي في 11 أغسطس/آب 2006، وطالب بوقف العمليات القتالية، بعد حرب مدمرة استمرت 33 يوما بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي.
كما طالب بإيجاد منطقة بين الخط الأزرق الفاصل بين لبنان وإسرائيل، ونهر الليطاني (جنوب)، تكون خالية من أي مسلحين ومعدات حربية وأسلحة، ما عدا تلك التابعة للجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة المؤقتة "اليونيفيل".
والقرار 1701 يواجه تحديا في الوقت الراهن بشأن تطبيقه كأحد الحلول المطروحة لإنهاء مناوشات حزب الله مع إسرائيل.
لكن مبادئ هذا القرار المتعلقة بالأمن والاستقرار والتوصل إلى حل طويل الأمد عند الحدود اللبنانية مع إسرائيل تظل "صالحة" حاليا.
ومن هنا يأتي الانخراط الأميركي والفرنسي في معركة إحياء تنفيذ القرار، وبنده الخاص بـ"المنطقة الخالية" نتيجة للإلحاح الإسرائيلي لضمان أمن مستوطنات الحدود الشمالية.
ويؤكد مراقبون أن تطبيق القرار 1701 يجب أن يكون من الجهتين اللبنانية والإسرائيلية على حد سواء، لا كما تريد تل أبيب من جانب واحد.