السيطرة على الطرق قبل السيولة.. من يحكم اقتصاد السودان؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بدت المؤشرات الاقتصادية في السودان، مع نهاية عام 2025، وكأنها تطلق إشارة إنذار حاد بعد عامين من الانهيار المتواصل. فبينما تحدثت تقارير عن تباطؤ نسبي في معدلات التضخم، برزت أزمات أعمق في قطاعات أخرى، في مقدمتها شحّ السيولة النقدية.

وذكرت تقارير لوكالة رويترز بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 2025 أن هذا التباطؤ لم يكن انعكاسا لتحسن حقيقي في معيشة المواطنين، بقدر ما عبّر عن واقع أكثر قسوة على الأرض؛ إذ عادت بعض الأسواق إلى العمل جزئيا بعد غياب طويل، لكنها تفتقر إلى النقد الكافي، في وقت تضاعفت فيه أسعار عدد من السلع الأساسية إلى ثلاث مرات.

وبات مواطنون كثر يمتلكون أموالا مسجلة على الورق أو في الحسابات المصرفية، لكنهم عاجزون عن إنفاقها لتلبية احتياجاتهم اليومية. وفي هذه اللحظة، لم تعد الأزمة محصورة في ارتفاع الأسعار، بل امتدت إلى اختفاء النقد نفسه، مع انتقال الاقتصاد السوداني من لغة الأرقام والمؤشرات إلى معركة يومية من أجل البقاء.

وما يعيشه السودان اليوم لا يمكن وصفه بأزمة اقتصادية تقليدية، بل هو انهيار ممنهج للدورة الاقتصادية اليومية بفعل الحرب، تحوّل فيه النقد من أداة للحياة إلى مورد نادر، وتحولت السوق من فضاء للتبادل إلى ساحة للبقاء.

وفي قلب هذا الانهيار، تبرز ممارسات مليشيات قوات الدعم السريع، المدعومة إماراتيا، التي لعبت دورا محوريا في تدمير البنية المالية والمصرفية، وتعطيل قطاعات الزراعة والتجارة، وإنتاج اقتصاد قائم على القوة والسلاح، لا على القانون والمؤسسات.

اختفاء الكاش

في قلب أزمة السودان بلا نقد، تبرز لحظة فاصلة: اختفاء الكاش من التداول اليومي، وتحول المال إلى أرقام محبوسة في الحسابات المصرفية.

فحتى عندما يُحوَّل الراتب إلى تطبيق مصرفي أو يظهر في كشف حساب، يصطدم المواطنون بجدار السيولة؛ بنوك لا تملك نقدًا كافيًا، وسقوف سحب منخفضة، وصفوف طويلة أمام الصرافات الآلية تنتهي غالبًا بلا جدوى.

وقد وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) منذ يناير/كانون الثاني 2025 محدودية توافر النقد في البلاد، على خلفية إجراءات مرتبطة بالعملة الجديدة، وهو ما انعكس مباشرة على قدرة الأسر على تلبية احتياجاتها الأساسية، كما أعاق تنفيذ برامج الاستجابة الإنسانية النقدية نفسها.

ومع استمرار الحرب وتفكك السوق، لم يعد النقد شحيحًا فحسب، بل غائبًا في كثير من الأحيان. واضطر الناس قسرًا إلى بدائل هشّة: تحويلات عبر التطبيقات حين تتوافر الشبكة، وحوالات غير رسمية برسوم وعمولات مرتفعة، وشراء بالدَّين من البقال، وصولًا إلى المقايضة كحل أخير.

ووصف تقرير صادر عن منظمة ACAPS (منظمة دولية مستقلة متخصصة في التحليل الإنساني) بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 هذه الحالة بوضوح، عادا إياها أزمة سيولة تمثل محركًا رئيسًا لانهيار التجارة الرسمية وتفكك الأسواق.

وبذلك، لم يعد غياب الكاش عرضًا جانبيًا، بل تحوّل إلى بنية يومية جديدة للاقتصاد: شراء بالتحويل، وتسعير بالعمولة، وعيش على الائتمان بدل الراتب.

ورغم ذلك، نقلت صحيفة سودان تربيون في 19 ديسمبر/كانون الأول 2025 عن جهات رسمية تباطؤ معدل التضخم السنوي خلال نوفمبر مقارنة بالأشهر السابقة. وأوضح خبراء اقتصاديون أن هذا صحيح جزئيًا من الناحية الحسابية؛ إذ تباطأت وتيرة الارتفاع، غير أن هذا التحسن الظاهري أخفى حقيقة أخطر: انهيار الطلب وخروج ملايين السودانيين عمليًا من السوق.

وأشارت تقارير برنامج الغذاء العالمي الصادرة في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2025 إلى أن تكلفة سلة الغذاء الأساسية تضاعفت أو تثالثت في ولايات عدة مقارنة بما قبل الحرب، فيما فقد الجنيه السوداني جزءًا كبيرًا من قيمته خلال عام 2025. لكن الأخطر من الغلاء كان غياب الوسيط النقدي نفسه؛ فالمال موجود في الحسابات، لكنه غير موجود في الجيوب.

ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، تلقّى القطاع المصرفي السوداني ضربة قاصمة؛ إذ نُهبت أو أُغلقت قسرًا بنوك رئيسة في الخرطوم وأم درمان، وتوقفت فروع للبنك المركزي عن العمل. ومع تمدد نفوذ قوات الدعم السريع في العاصمة وأجزاء واسعة من البلاد، فقد النظام المصرفي قدرته على الأداء الطبيعي.

وبحلول منتصف 2024، كان آلاف الموظفين يتلقون رواتبهم نظريًا عبر التحويلات الإلكترونية دون القدرة على سحبها. وفي عام 2025، تحوّلت هذه الحالة إلى وضع شبه دائم، وفق تقارير أممية صدرت في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2025، تحدثت صراحة عن أزمة سيولة خانقة تعيق حتى برامج المساعدات النقدية.

وفي مدن مثل أم درمان ومدني، بات المواطن يقف ساعات أمام ماكينة صراف ليخرج في النهاية بمبلغ لا يكفي سوى ليوم أو يومين؛ إذ لم يعد النقد أداة تبادل، بل امتيازًا نادرًا.

سوق بلا روح

في النصف الثاني من عام 2025، شهدت بعض الأسواق الكبرى في السودان عودة جزئية للنشاط. ففي مدينة أم درمان، أُعيد فتح أجزاء من السوق الكبير بعد أكثر من عامين من الشلل شبه الكامل. وبدا المشهد للوهلة الأولى مؤشرًا على تعافٍ محتمل، لكنه في جوهره كان تعبيرًا عن اليأس أكثر منه علامة على الأمل.

فالتجار الذين عادوا إلى السوق فعلوا ذلك تحت ضغط الحاجة، لا في ظل بيئة آمنة أو مستقرة. وتقارير ميدانية نشرتها إذاعة راديو دبنقا في أغسطس/آب 2025 تحدثت عن فرض رسوم غير قانونية على الطرق، وارتفاع كبير في كلفة النقل بسبب انعدام الأمن، إلى جانب تعرّض القوافل التجارية للنهب، في مشهد فوضوي متواصل.

وزاد غياب النقد من تفاقم هذه الأوضاع، إذ انتقلت كلفة المخاطر والجبايات مباشرة إلى المستهلك. فلم تعد الأسعار تُحدَّد وفق آليات العرض والطلب وحدها، بل وفق مستوى المخاطر الأمنية. ومع شح السيولة، اضطر كثير من التجار إلى البيع بالدَّين أو عبر التحويلات الإلكترونية أو حتى بالمقايضة، ما زاد من هشاشة السوق وعمّق فجوة الثقة بين البائع والمشتري.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وصفت منصة The New Humanitarian، وهي وسيلة صحفية دولية مستقلة متخصصة في تغطية الأزمات الإنسانية والنزاعات ومقرها جنيف، هذا التحول بأنه مؤشر خطير على تفكك السوق النقدية، مشيرة إلى أن بعض الأسر باتت تعتمد على تبادل السلع والخدمات بدل الشراء المباشر.

وقالت المنصة في تقريرها: “إن عودة المقايضة ليست تفصيلا اجتماعيا عابرا، بل دلالة على فشل العملة في أداء وظيفتها الأساسية”، مضيفة أن “ما يجري يمثل تراجعا اقتصاديا عميقا يعكس حجم الأزمة، ويعيد المجتمع السوداني خطوات طويلة إلى الوراء”.

انهيار الزراعة

يُعدّ ما أصاب القطاع الزراعي، وعلى رأسه مشروع الجزيرة، أحد أبرز العوامل التي فاقمت الأزمة الاقتصادية الراهنة في السودان. فالمشروع الذي شكّل لعقود العمود الفقري للاقتصاد الوطني، ومصدرًا رئيسيًا للدخل النقدي في الريف، تعرّض منذ عام 2023 لتخريب واسع النطاق، شمل تعطيل قنوات الري، ونهب المخازن، وتشريد العمال.

ووفق تقارير أصدرتها منظمات زراعية محلية خلال عامي 2024 و2025، توقفت مساحات شاسعة من المشروع عن الإنتاج نتيجة انعدام الأمن، وسيطرة مجموعات مسلحة على مناطق حيوية. ولم يكن غياب محصول الجزيرة مجرد خسارة زراعية، بل ضربة مباشرة لتدفق النقد في الريف والأسواق المرتبطة به.

فمع تراجع الزراعة، تلاشى الدخل، ومع غياب الدخل انهارت القدرة على الشراء، وتسارعت أزمة السيولة. وفي هذا السياق، قال السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي: إن أخطر ما يميز الأزمة الاقتصادية الحالية في السودان هو أنها لا تؤثر في جميع الفئات بالقدر نفسه، موضحًا أن اقتصادًا بلا نقد لا ينتج فقرًا عامًا فقط، بل يعيد فرز المجتمع على أسس قاسية وغير عادلة.

وأضاف عبد العاطي، في حديثه لـ"الاستقلال"، أن البلاد باتت منقسمة اقتصاديًا إلى فئتين واضحتين: فئة تمتلك شبكات تحويلات خارجية أو مصادر دخل بالعملة الصعبة، وهي قادرة على الصمود ولو بصعوبة، وفئة أخرى لا تملك سوى راتب محلي أو عملاً يوميًا، وتُترك لمواجهة الانهيار وحدها.

وأشار إلى أن الأسر التي تعتمد كليًا على مصادر دخل محلية تُعد الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي، ليس بسبب ارتفاع الأسعار فقط، بل نتيجة اختفاء النقد من التداول اليومي. ولفت إلى أن هذه الفجوة أفرزت طبقة اجتماعية جديدة يمكن وصفها بـ«المنسيين»، تضم موظفين حكوميين ومتقاعدين وأسرًا لا تمتلك روابط خارجية ولا قدرة على الوصول إلى شبكات التحويل.

وأوضح أن هذه الفئات تعيش اليوم على الدَّين والمساعدات غير المنتظمة، في مشهد يعكس أن الحرب لم تُنتج الفقر فحسب، بل أعادت توزيعه بصورة أكثر ظلمًا، وأسهمت في تفكيك ما تبقى من الطبقة الوسطى.

وشدد عبد العاطي على أن الاقتصاد لم يعد مجرد ضحية للفوضى، بل تحوّل إلى أداة سيطرة مباشرة، موضحًا أن التحكم في الطرق يعني السيطرة على السلع، وأن السيطرة على الوقود تعني التحكم في حركة السوق وحياة الناس اليومية. وأضاف أن غياب الدولة وانهيار مؤسساتها أدّيا إلى تداخل الأمن بالاقتصاد، وتحول الجوع من نتيجة جانبية للحرب إلى وسيلة ضغط غير معلنة.

واستشهد باستخدام الاقتصاد المحلي لخدمة منطق الحرب، معتبرًا أن شح السيولة لم يعد أثرًا عرضيًا للصراع، بل عنصرًا أساسيًا في معادلة إخضاع المدنيين وكسر قدرتهم على الصمود الاجتماعي.

وختم السياسي السوداني بالقول: إن السؤال الجوهري مع نهاية عام 2025 يتمثل في: كيف يمكن لمجتمع كامل أن يعيش بلا نقد؟ مؤكدًا أن الحرب فككت أسس الحياة الاقتصادية، من المصارف إلى الزراعة وصولًا إلى السوق، وأن قوات الدعم السريع لعبت دورًا مركزيًا في هذا التفكيك.

وأضاف أن السودان يعيش اليوم «اقتصاد بقاء» حقيقيًا: مال موجود لكنه غير مستخدم، وأسواق مفتوحة لكنها لا تُطعم، وناس أحياء لكنهم على حافة الانهيار، محذرًا من أنه ما لم يُسمَّ هذا الواقع باسمه، وتُحمَّل المسؤولية السياسية لمن صنعه، ستظل البلاد تدور في حلقة مفرغة تتغير فيها الأرقام، بينما تزداد حياة الناس قسوة يومًا بعد يوم.