"الهسبراه الجديدة".. إسرائيل تستبدل بالمدفع المنشورات لتبرير مجازر غزة

المؤثر الواحد تقاضى في حالات عديدة نحو 7 آلاف دولار مقابل المنشور الواحد
ما كان مفترضًا أن يكون لقاءً هادئًا ومقتصرًا بين رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو و18 من المؤثرين الموالين لإسرائيل في نيويورك يوم 26 سبتمبر/أيلول 2025، تحوّل إلى مرآة عاكسة تكشف تفاصيل ما يدور خلف الكواليس.
وراء الصور التذكارية والكلمات المنمقة أمام الكاميرات، كانت تجري عملية تعبئة منظمة ضمن حرب السرديات الحديثة؛ حيث تُستبدل بالقنابل الهاشتاغات والمنشورات الممولة ببيانات الناطقين العسكريين، ويتحول المؤثر إلى أداة في العمليات النفسية تهدف إلى تقليل تأثير صور الأطفال الجوعى والمنازل المدمرة في القطاع المحاصر.
وأكّد نتنياهو ذلك صراحة خلال اللقاء: "تتغير الأسلحة مع الزمن، اليوم لا يمكننا القتال بالسيوف أو الخيالة، لدينا أسلحة تناسب ميدان المعركة، أهمها وسائل التواصل الاجتماعي".

من "إستر" إلى "كلوك تاور"
الوثائق المقدمة لوزارة العدل الأميركية بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب (FARA) تكشف تفاصيل واضحة بلا مجال للتأويل.
حكومة الاحتلال الإسرائيلي تعاقدت مع شركة أميركية تُدعى "Bridges Partners LLC" لإدارة شبكة مؤثرين تحت اسم رمزي هو "مشروع إستر".
من بين هؤلاء المؤثرين ليزي سافيتسكي، مدونة أزياء وحياة اجتماعية، ومريم عراقي، ممرضة أميركية تنشط على تيك توك حول الحياة الأرثوذكسية اليهودية، وزاك فوكس، صانع محتوى فيديو معروف بتأييده المطلق لإسرائيل.
جميعهم جزء من ماكينة دعائية ضخمة تُوظف موارد مالية وتقنية وإعلامية ضخمة في معركة كسب العقول والقلوب، بهدف التخفيف من أثر الانهيار الحاد لصورة إسرائيل عالميا، وسط اتهامات بالإبادة الجماعية وجرائم حرب في غزة.
الشركة تؤكّد أن هدفها تعزيز التبادل الثقافي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن نص العقود يتحدث بوضوح أكبر من الخطاب الناعم.
لذلك، تمَّ تخصيص مدفوعات تصل إلى 900 ألف دولار موزعة على عدة أشهر لتغطية تكاليف الإنتاج، أجور المؤثرين، تطوير المحتوى، ومصاريف الوكالة.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط؛ فالتقارير المتقاطعة المبنية على هذه الإفصاحات تشير إلى أن بعض المؤثرين تلقوا نحو 7 آلاف دولار مقابل كل منشور على منصات متعددة.
هذه الأرقام تؤكد وجود بنية منظمة لشراء الوصول والتأثير، وتكشف زيف الرسائل العضوية التي يُروج لها عبر وجوه تبدو مستقلة لكنها مدعومة بعقود واضحة وشروط معلنة.
جيل زد
بالتوازي، أبرمت الحكومة الإسرائيلية عقدًا مع شركة "Clock Tower X" لتطوير محتوى موجه لجيل "زد"، وإنشاء مواقع رقمية، وتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي بمعلومات مصممة لتأطير القضايا الخلافية، خاصة فلسطين، بما يتوافق مع الرواية الرسمية.
وهذا يعني أن الحملة لا تقتصر على المؤثرين فقط، بل تمتد إلى أدمغة المنصات ونماذج الذكاء الاصطناعي التي أصبحت بيئة الوعي اليومية لمئات الملايين.
في الخلفية، تستثمر الدبلوماسية العامة الإسرائيلية مبالغ ضخمة؛ حيث تصل رزم التمويل الحكومية إلى مئات الملايين من الشواكل سنويًا، منها نحو 545 مليون شيكل (150 مليون دولار) مخصصة لتوسيع أدوات التأثير والرسائل خلال 2025.
كل ذلك يؤكد أن هذه ليست مجرد أنشطة عفوية، بل إستراتيجية حكومية ممنهجة تورطت في جرائم حرب، تستغل القطاع الخاص والمنصات الرقمية والخوارزميات لأهداف دعائية بحتة.
وفي هذا السياق، تلعب غرفة عمليات على منصة "إكس" دورًا محوريًا؛ حيث يُطرح السؤال: كيف تبدو الرسائل عندما تُضخ فيها الأموال؟
على "إكس" يظهر الأمر بوضوح؛ إذ تمنح وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية مجموعة مختارة من المؤثرين وصولا مميزا إلى مواقع محرمة على الصحفيين الأجانب، مثل مراكز توزيع المساعدات داخل غزة أو على أطرافها، لتصوير مقاطع تُظهر كثافة المعونات.
ثم تُروّج الرسالة المعدّة مسبقًا التي تروج رواية زائفة مفادها أن "الغذاء متوفر بكثرة، والمشكلة تكمن في الأمم المتحدة أو حماس التي لا توزعه".
وكان من أبرز هذه الرسائل ما جاء على لسان الناشط الأميركي الصهيوني “زافييه دو روسو” الذي كتب: “هناك طعام يكفي لإطعام كل سكان غزة لأسبوع، لكن الأمم المتحدة وحماس يتركانه يفسد، فكيف تكون إسرائيل مسؤولة؟”
هذا النوع من الرسائل يبني السردية على قلب الواقع؛ حيث يُحمّل الفلسطينيون مسؤولية الجوع، متجاهلا الحصار الخانق والقصف اليومي، والتدمير الممنهج للبنية التحتية ومنافذ الحياة.
بالتوازي، تتصاعد رسائل أخرى تنفي وجود مجاعة، وتتهم الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين بدعم الإرهاب، وتسخر من الأطفال الجياع، وتقدم تفسيرات مزيفة لصورهم المؤثرة، بالإضافة إلى تكريس صورة نتنياهو كقائد تاريخي.
هذه ليست أخطاء فردية، بل نمط اتصالي منظّم يُعاد تدويره عبر مئات الحسابات، بعضها يتقاضى أجورا تصل لآلاف الدولارات، وأخرى ممولة عبر حملات تُسوّق تحت عناوين مثل التبادل الثقافي أو مكافحة معاداة السامية.
والنتيجة هي فيضان من المحتوى الذي يبدو ذاتيا، لكنه في الواقع مدفوع بعقود رسمية، وأموال عامة، وخطط إستراتيجية واضحة.

الهسبراه
اجتماع نتنياهو مع المؤثرين يأتي كجزء من إستراتيجية قديمة تعرف بـ"الهسبراه" (Hasbara)، وهي كلمة عبرية تعني "الشرح أو التبرير"، وتُشير إلى الجهود الدعائية التي تبذلها إسرائيل لتبرير سياساتها العدوانية وتحسين صورتها عالميا.
بدأت هذه السياسة في أوائل القرن العشرين، ثم تحولت إلى أداة مركزية في الدبلوماسية العامة الإسرائيلية، مدعومة بتمويل مباشر من الدولة وجماعات ضغط صهيونية، تهدف لتشويه الحركات التضامنية مع الفلسطينيين وتعزيز الرواية الإسرائيلية في الإعلام والأوساط الأكاديمية والمنصات الرقمية.
ووفق مجلة "+972" الإسرائيلية، أعاد نتنياهو مؤخراً تفعيل وزارة "الهسبراه" التي كانت موجودة لفترة قصيرة في الستينيات والسبعينيات، وأنشأ مقرا وطنيا لها داخل مكتبه لرئاسة الحكومة لتنسيق جهود الدعاية الرسمية.
تحول صادم
صحيفة "نيويورك تايمز" كشفت في استطلاع نُشر في 29 سبتمبر 2025 عن تحول غير مسبوق في الرأي العام الأميركي تجاه القضية الفلسطينية، حيث انقلبت موازين التعاطف لأول مرة منذ 1998 لصالح الفلسطينيين.
ووفق الاستطلاع، بات 35% من الأميركيين يؤيدون الفلسطينيين مقابل 34% يؤيدون إسرائيل، مقارنة بنسبة 47% مؤيدين لإسرائيل و20% فقط للفلسطينيين قبل عامين، عقب عملية "طوفان الأقصى".
لمواجهة هذا التراجع في الدعم، خاصة داخل التيار الإنجيلي اليميني المؤيد لحركة "ماغا"، نظمت تل أبيب رحلة خاصة لـ15 مؤثرا أميركيا إنجيليا عبر منظمة "Israel 365" التي تهدف إلى "تعزيز إسرائيل من خلال بناء الجسور بين اليهود والمسيحيين".
وبحسب وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية التي كشف عنها موقع "أكسيوس" في 14 أغسطس 2025، حصلت منظمة "Israel 365" على عقد بقيمة 70 ألف دولار لتنظيم رحلة المؤثرين ضمن جهود العلاقات العامة الإسرائيلية في الولايات المتحدة.
وظهر عدد من هؤلاء المؤثرين في مقاطع مصورة مع نتنياهو؛ حيث ناقشوا تأثير اغتيال المبشر اليميني المتطرف تشارلي كيرك على تراجع الدعم الإنجيلي لإسرائيل، ما يعكس قلق تل أبيب من تآكل قاعدتها داخل اليمين الأميركي الديني.
وكان نتنياهو قد أقر في 10 أغسطس 2025 بأن إسرائيل "تخسر حرب الدعاية على الإنترنت بسبب الخوارزميات"، داعيا إلى عدّ هذا المجال ميدان صراع جديدا.
في هذا الإطار، كشفت التقارير أن مجموعة المؤثرين المشاركين، المعروفة في الأوساط الأميركية بـ"فرات بويز" (Frat Boys)، أصبحت جزءاً من شبكة "الهسبراه" الدعائية، التي تهدف إلى إعادة إنتاج الدعم الشعبي لإسرائيل بين الشباب والإنجيليين في الولايات المتحدة.
لماذا الآن؟
قال الخبير في الإعلام الرقمي محمد سامي: إن "انهيار الرواية الإسرائيلية أمام الحقائق الميدانية دفع تل أبيب لتكثيف حملاتها الدعائية والاستثمار الكبير في التأثير الرقمي، في محاولة يائسة لوقف التحول السريع في الرأي العام الغربي".
وأضاف سامي لـ"الاستقلال" أن "التحول في المزاج الشعبي الغربي لم يعد تفصيلا، فبعد عامين من الإبادة والحصار والمجاعات في غزة، أظهرت استطلاعات بارزة تراجعا قياسيا في التعاطف مع إسرائيل، حتى إن شرائح واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا تميل للمرة الأولى للتعاطف مع الفلسطينيين".
وأوضح أن "هذا التراجع تزامن مع موجة متزايدة من اعترافات بالدولة الفلسطينية من عواصم مهمة مثل باريس ولندن وروما وبرلين"، مؤكدا أن ذلك جعل الاحتلال يفقد ما وصفه بـ"هامش المناورة الأخلاقية" الذي كان يعتمد عليه أمام الرأي العام الغربي.
أشار الخبير في الإعلام الرقمي إلى أن "الجبهة الأخطر لإسرائيل لم تعد في السماء فوق غزة، بل على الشاشات الصغيرة في يد الجمهور الغربي"، موضحًا أن خسارة النقاش الأخلاقي تعني انكشاف المشروع الصهيوني برمته.
وأضاف سامي أن "الإستراتيجية الدعائية تمتد من اغتيال الصحفيين الفلسطينيين لمنع نقل الحقيقة إلى التحكم في تدفق المعلومات على الإنترنت وحجب المحتوى الفلسطيني".
وأوضح أن "تل أبيب حين تفشل في مواجهة الصور الصادمة من غزة، تلجأ إلى إغراق الفضاء الرقمي بموجة تضليل لزرع الشك والارتباك في عقول المتابعين".
وختم تصريحه بالتأكيد على أن "إسرائيل تخوض اليوم واحدة من أوسع معاركها الدعائية في التاريخ المعاصر، تجمع بين المؤثرين مدفوعي الأجر ووسائل الإعلام الموجهة والذكاء الاصطناعي المدرب"، قائلا: "إنها حرب روايات تحاول فيها إسرائيل إخفاء واقع لم يعد يخفى على أحد، فصور الأطفال الجائعين والأنقاض في غزة أقوى من كل المنشورات الممولة من الحكومة الإسرائيلية لتبييض صورتها".
المصادر
- Narrative warfare: Inside Israel's battle for influence on social media
- Israel paying US influencers to reverse negative public opinion: Report
- Inside Israel’s ‘Esther Project’: DOJ filings reveal paid US influencer campaign
- Israel is paying influencers $7,000 per post
- These Billionaires Subsidize the Israeli Military Through a US Nonprofit














