لماذا فتحت فرنسا تحقيقا بحق رئيس وزراء لبنان السابق نجيب ميقاتي؟

"تبلغ ثروة نجيب ميقاتي 3.2 مليارات دولار"
لم يمض نصف عام على مغادرة رئيس الوزراء اللبناني السابق نجيب ميقاتي منصبه، حتى تبلورت “أدلة قوية وناضجة” دفعت إلى فتح تحقيق دولي بحقه بتهم ”فساد مالي وكسب غير مشروع".
ففي تحرك بدا أنه يسير على عجل، فتح القضاء الفرنسي تحقيقا بحق ميقاتي، في 14 سبتمبر/أيلول 2025 على خلفية شبهات بامتلاك أصول جرى الحصول عليها بطرق غير مشروعة.

ميقاتي أمام القضاء
وأكدت النيابة العامة المالية الوطنية في فرنسا (PNF) فتح هذا التحقيق، بعد دعوى قضائية قدّمها في أبريل/نيسان 2024 "تجمع ضحايا الممارسات الاحتيالية والإجرامية في لبنان" وجمعية "شيربا" غير الحكومية لمكافحة الجريمة المالية. بحسب المحامي وليام بوردون.
ودأبت "شيربا" منذ نحو 20 عاما على تقديم شكاوى في فرنسا ضدّ مسؤولين أجانب يشتبه في جمعهم ثروات طائلة من خلال الفساد أو اختلاس أموال عامة، قبل غسلها في هذا البلد الأوروبي ولو جزئيا.
وفي العام 2021، بدأت الجمعيتان العمل على الملف اللبناني لمعالجة القضايا المتعلّقة بـ"الإثراء غير المشروع"، وذلك عبر رفع شكوى ضد الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة.
وعام 2024، استهدفتا نجيب ميقاتي (69 عاما) ومقرّبين منه بينهم شقيقه طه، للاشتباه في امتلاكهم أصولا متنوّعة في فرنسا وخارجها من خلال كيانات متعدّدة، بينها شركات خارجية.
ويشتبه بجمعهم ثروات بطريقة غير مشروعة لا سيما عبر الاحتيال الضريبي، في وقت كان لبنان يغرق في فوضى سياسية ومالية عارمة.
وتتعلّق الشكوى الأولى ضد نجيب ميقاتي الذي تولى رئاسة الوزراء في لبنان مرات عدة حتى مطلع عام 2025.
وتتهم الشكوى ميقاتي بشبهات غسل أموال وإخفاء مسروقات أو التواطؤ في إخفائها، مبينة أن كلّ ذلك جرى في إطار عصابة منظّمة.
وأُضيفت إلى الدعوى أدلة جديدة في أبريل 2025، ما دفع النيابة العامة المالية الوطنية في باريس إلى إحالة القضية على المحكمة.
كذلك، تتعلّق القضية بعلاقة عائلة ميقاتي مع "بنك عودة فرنسا"، المتخصص بخدمة زبائن من الشرق الأوسط والذي يسهم فيه رئيس الحكومة السابق.
كما ترتبط بعقد رئيس لتوفير خدمات الاتصالات للبنان وسوريا أُبرم عام 1994. ووفقا للمدعين، فقد أدى هذا العقد إلى حرمان الدولة من إيرادات كبيرة.
وقدّم المدعون نجيب ميقاتي الذي جمع ثروته من قطاع الاتصالات، وشقيقه طه على أنهما من أغنى أثرياء لبنان، مع امتلاكهما عدة يخوت وطائرات خاصة ومبان في الريفييرا الفرنسية وموناكو وفي أجمل أحياء باريس.
ولفت مقدمو الشكوى إلى استثمارات لعائلة ميقاتي في ماركات ملابس جاهزة مثل "فاسونابل".
ويشير المدّعون إلى تعاملات مشبوهة بين حسابات وشركات تديرها عائلة ميقاتي وأخرى تابعة للحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة.
ومن بين الأصول التي ذكرها المدعون عقارات في فرنسا، ويختان بقيمة 100 مليون دولار و125 مليون دولار، منسوبان على التوالي إلى نجيب وطه ميقاتي، بالإضافة إلى طائرتين خاصتين.
ردا على هذه الاتهامات أصدر رئيس الوزراء السابق وعائلة ميقاتي بيانا، شددوا فيه على أن مصدر ثروتهم "واضح وقانوني وشفّاف".
وتابع البيان: "إننا نثق تماما باستقلالية القضاء الفرنسي وجديّته، ونحن على أتمّ الاستعداد لتقديم أي معلومات إضافية تُطلب منّا. ونُجدّد تمسّكنا بالمبدأ الأساسي المتمثّل بقرينة البراءة".
وقالت عائلة ميقاتي في بيانها: إن ثروتها "هي ثمرة عقود طويلة من العمل والاستثمارات الدولية في قطاعات متنوّعة وذلك قبل تولّينا لأي مهام ومسؤوليات عامة في لبنان".
وتبلغ ثروة نجيب ميقاتي 3.2 مليارات دولار, ويمتلك شقيقه طه ذات الرقم حسب قائمة مجلة "فوربس" الأميركية السنوية لأثرياء العالم لسنة 2022.
وانتهى عهد نجيب ميقاتي في السلطة بعد تكليف الرئيس اللبناني جوزيف عون في 13 يناير/ كانون الثاني 2025 رئيس محكمة العدل الدولية وقتها نواف سلام البالغ من العمر 71 عاما بتشكيل حكومة جديدة.
وفتح باب "ملفات الفساد السوداء" في لبنان ضد نجيب ميقاتي ليست بالجديدة، كونها مرتبطة بالحقبة السياسية له التي تسلل إلى عالمها من باب قطاع رجال الأعمال، مذ أن تولى حقيبة وزارة الأشغال العامة والنقل في ثلاث حكومات متعاقبة بين عامي 1998 و2004.

"أدلة قوية"
وفي مقابلة مع صحيفة “لوريان لوجور” الفرنسية نشرت في 13 سبتمبر 2025، أكد ويليام بوردون، المحامي ومؤسس شركة "شيربا"، جمع معلومات إضافية قال: إنها قد تُشكل جرائم تبرّر الملاحقة القضائية ضد نجيب ميقاتي في فرنسا.
وأشار بوردون إلى أن هذه العناصر عُدت في النهاية "كافية لتجاوز عتبة الافتراضات وتبرير فتح تحقيق في جرائم بالغة الخطورة، لا سيما في مجال غسل الأموال ".
وبحسب الصحيفة فإن من سلسلة القضايا التي قد تُبرر شبهات الإثراء غير المشروع، استحواذ الأخوين ميقاتي على رأس مال بنك عودة عام 2010.
فقد استفاد المليارديران من قروض بقيمة 300 مليون دولار منحها البنك نفسه، وذلك لتمويل شراء نحو 11 بالمئة من رأس المال (وهي حصة ارتفعت لاحقًا إلى 14 بالمئة).
ويحظر قانون التجارة الاستحواذ على أكثر من 5 بالمئة من رأس المال عن طريق قروض تمنحها الشركة نفسها أو تضمنه.
كما أن هناك تعميما وفق حقوقيين صادرا عن مصرف لبنان يمنع البنك من منح قرض لشراء أسهمه.
مع ذلك، أفادت التقارير بأن مصرف لبنان الذي كان يرأسه آنذاك رياض سلامة، عالج هذه الصفقة بشكل خاص، بما في ذلك عدم دمج حصص الأخوين ميقاتي في كيان واحد، بل معاملتهما ككيانين منفصلين، مما قد يسمح بالالتفاف على السقوف التنظيمية والنسب.
وتشير بعض الوقائع التي تفصل أسباب تراكم ثروات عائلة ميقاتي إلى إساءة استخدام المنصب السياسي.
ويعتقد المدعون ضد نجيب ميقاتي أن العدالة يجب أن تنظر في إمكانية منح امتيازات بشكل غير نظامي واحتمال إساءة استخدام المنصب، خاصة في ضوء الحقائب الوزارية العديدة التي شغلها ودوره السياسي.
وضمن هذا السياق، قال الصحفي اللبناني وديع عقل في تسجيل مصور على حسابه في منصة "إكس": إن "فتح القضاء الفرنسي تحقيقا بتهم ثقيلة ضد نجيب ميقاتي يؤكد على وجود هندسة احتيالية لتلك الأموال بمساعدة من رياض سلامة".
وربط عقل توقيت فتح ملفه بغياب السلطة السياسية عنه بقوله “منذ سنوات عندما تم فضح فساده المالي، ضغط ميقاتي على القضاء اللبناني وأوقف تحقيقات قادتها القاضية غادة عون أثناء توليها النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بتهمة الإثراء غير المشروع”.
وأردف: "ساعد ميقاتي حينها قضاة لبنانيين لإخفاء الحقيقة منها القضية المتصلة بالقروض السكنية المدعومة، والتي انتهت بقرار من قاضي التحقيق في بيروت شربل أبو سمرا بإبطال التعقبات".
ولفت عقل إلى أن "ميقاتي أثناء توليه السلطة استخدم نفوذه السياسي لمنع الملاحقات ضده لدرجة الضغط حتى على بعض الوزراء".
ورأى أن "نجيب ميقاتي بات مثل رياض سلامة وبالتالي فإن فتح القضاء الفرنسي التحقيق بحقه يثبت صدق القضايا المرفوعة ضده في لبنان".
وفي سبتمبر 2024، أصدر القضاء اللبناني مذكرة توقيف بحق المحافظ السابق للبنك المركزي رياض سلامة، بعد استجوابه على خلفية تهم فساد مالي.
ولكن، وافق القضاء في 26 أغسطس/آب 2025 على إخلاء سبيل سلامة مقابل كفالة مالية قدرها 20 مليون دولار أميركي، ومنع سفره لمدة عام، في إطار الملاحقات القضائية المستمرة بحقه.
وكثيرا ما تثار حول ميقاتي اتهامات في لبنان تتعلق بـ "الفساد والإثراء غير المشروع".
وتناولت تقارير وتحقيقات استقصائية عديدة سيرة ميقاتي، وآخرها في أبريل 2024 حول شكوى فرنسية بحقه تتعلق "بشبهات اختلاس وتبييض أموال".
كذلك أصدر الادعاء اللبناني في 23 سبتمبر 2019 قرارا اتهم فيه نجيب ميقاتي وابنه (ماهر) وشقيقه "بالإثراء غير المشروع" بسبب حصولهم على قروض سكنية مدعومة، وهو ما نفاه رئيس الوزراء.
وجاء ذلك في ظل استعادة الأموال اللبنانية المنهوبة؛ حيث ورد اسم ميقاتي عام 2018 بحصوله على قروض من بنوك مدعومة من البنك المركزي اللبناني بملايين الدولارات على أنها قروض إسكانية. وحصل بين عامي 2010 و2013 على تسعة منها منحها له بنك "عودة".
وورد اسم ميقاتي في "وثائق باندورا"، وهو تحقيق أجراه "الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين"، ونشره في 3 سبتمبر 2021، ويتهم مئات السياسيين وأقاربهم في أرجاء العالم بارتكاب مخالفات مالية.

"رأس الشبكة"
وبحسب الوثائق، يمتلك ميقاتي شركة خارجية في بنما تسمى "هيسفيل" اشترى من خلالها عقارا في موناكو قيمته سبعة ملايين يورو، وقد استخدم الملاذات الخارجية للتهرب من دفع الضرائب.
وعام 1994 حصلت شركتا الاتصالات ليبانسل وسيليس، اللتان كان للأخوين ميقاتي أسهم فيهما، على عقود BOT (بناء وتشغيل)، لكن بعد خمس سنوات، وُجهت اتهامات بالتصريح الناقص، ما حرم الخزينة مئات ملايين الدولارات.
وآنذاك فرضت الحكومة غرامة بقيمة 600 مليون دولار، لكن بوساطة الرئيس إميل لحود ورئيس الوزراء رفيق الحريري وقتها، جرى تحويل القضية إلى التحكيم الدولي، وانتهى الأمر بدفعه 100 مليون دولار فقط.
وفي الوقت الراهن وبما أن نجيب ميقاتي بات في مرمى سهام القضاء الفرنسي، يعتقد محاميا جمعية "شيربا" غير الحكومية لمكافحة الجريمة المالية، ويليام بوردون وفينسنت برينغارث، أن القضية تتجاوز بكثير هذه العائلة.
وقال ويليام بوردون لصحيفة "لوريان لو جور" الفرنسية: "هذه خطوة حاسمة في مكافحة إفلات أولئك الذين استولوا على الموارد العامة للبنان وقوّضوا سيادة القانون لسنوات".
وأضاف بوردون أن النيابة العامة المالية الوطنية الفرنسية (PNF) أولت اهتماما خاصا "للاستخدام شبه المنهجي من قِبَل عائلة ميقاتي للشركات الخارجية"، والذي غالبا ما يكون بالاشتراك مع شبكات أخرى.
ويضيف المحامي: "لا يمكن لأحد أن يشكّك في قوة وجودة الأدلة ضد نجيب ميقاتي" التي قدّمتها "شيربا" وشركته، وهي أدلة قوية بما يكفي لتجاوز "حدود الظنّ" وتبرير فتح تحقيق.
وقد تكشف التحقيقات التي أوكلت إلى الإدارة المسؤولة بالفعل عن قضية رياض سلامة، عن صلات بين الأخير وميقاتي وخدمات مقدّمة، وتدفقات مالية غير مشروعة، وإساءة استخدام السلطة متعمدة.
من جهته رأى الصحفي اللبناني سمير عاصي، أن "هذه الخطوة الجديدة في الإجراءات القانونية بالغة الأهمية ضد نجيب ميقاتي؛ لأنها تُظهر أن رياض سلامة لم يتصرف بمفرده، بل كانت لديه شبكة واسعة من المصرفيين والسياسيين الفاسدين الذين يتعاونون لإثراء أنفسهم على حساب الشعب".
وقال عاصي لـ “الاستقلال”: إنه "لهذا السبب، فتح القضاء الفرنسي تحقيقا, مما يعني وجود شبكة من السياسيين المسؤولين الذين يسمحون بحدوث هذا الفساد".
ورأى “أن القضية المفتوحة بحق نجيب ميقاتي تفتح الباب بما تمتلك من أدلة جديدة عن كشف أصل الثروة لدى السياسيين في بيروت والكشف كذلك عن شبكة المتعاونين وكيف كان يتم تحويل الأموال من مصارف لبنان إلى الخارج”
وتوقع عاصي أن “تتوسع لاحقا الأسماء المرتبطة بحلقة الفساد في لبنان”، مضيفا: "وستوجه اتهامات لشخصيات جديدة طالما أن التحقيق للمرة الأولى يطال شخصية سياسية عالية المستوى كانت في السلطة منذ فترة قريبة".
وبدأت التحقيقات ضد نجيب ميقاتي ذات مرة في موناكو، قبل أن يخرج الرجل في 25 أغسطس 2023 للقول: إن التحقيق الذي استمر ثلاث سنوات معه ومع عائلته، في مزاعم فساد، انتهى بسبب عدم كفاية الأدلة.
ووفق موقع "نداء الوطن" المحلي فإن القضاة اللبنانيين أحبطوا سابقا تقدم المحاكمة ضد نجيب ميقاتي "تحت ذرائع قانونية واهية، من أجل حماية الأقوياء، كما هو الحال دائمًا، على حساب القانون".
وفي تقرير لقناة الجديد اللبنانية تعليقا على فتح فرنسا تحقيقا بحق ميقاتي، قالت: "إن الأنظار تتجه الآن إلى القضاء اللبناني الذي بات أمام اختبار حقيقي فإما أن يتعاون مع التحقيق الفرنسي أو يتهم بالمشاركة بالتغطية على الفساد".
وأضاف التقرير التلفزيوني أن "جهات حقوقية حذرت من أن عدم تحرك القضاء اللبناني سيكون بمثابة تواطؤ سيكلف لبنان ثمنا غاليا في ظل حاجته الماسة إلى الدعم الدولي".
المصادر
- ميقاتي في مرمى القضاء الفرنسي: اتهامات تبييض أموال وثراء مشبوه
- فتح تحقيق فرنسي مع نجيب ميقاتي في شبهات الإثراء غير المشروع: القضاء اللبناني أمام المرآة
- Exclusif : La justice française ouvre une enquête pour corruption et blanchiment contre Nagib Mikati
- ميقاتي: انتهاء تحقيق فساد ضدي في موناكو لعدم وجود أدلة