إلى أي مدى ستصل تنازلات القوى الشيعية لأميركا للحفاظ على السلطة بالعراق؟

"كل من في السلطة يخشى الحساب أو الاغتيال، وحتى السوداني يسعى لإبعاد الأذى عن نفسه"
واحدة تلو الأخرى، تتوالى التنازلات التي تقدمها القوى الشيعية الحاكمة في العراق إلى الولايات المتحدة، وسط ضغوط غير مسبوقة تمارسها الأخيرة على الجهات الحليفة لإيران التي سلمتها السلطة بعد احتلالها بغداد وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003.
جاءت التنازلات في ظل ما تمر به المنطقة بعد تراجع المحور الإيراني، الأمر الذي طرح تساؤلات ملحة عن حجم ما ستقدمه القوى الشيعية للحفاظ على السلطة، وإلى أي مدى تعد واشنطن حكمهم امتدادا لإيران وتسعى لإسقاطه؟
ومن المقرر أن يشهد العراق انتخابات برلمانية في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، والتي تأتي بعد العدوان الإسرائيلي الأميركي ضد إيران، وسط توقعات بفرض الولايات المتحدة إرادتها في تشكيل الحكومة، بعدما دأبت إيران على اختيار رئيسها منذ أول انتخابات جرت عام 2005.

"تحرير تسوركوف"
ورغم أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أعلن عبر منصة "إكس" في 9 سبتمبر، أن "تحرير المواطنة الروسية إليزابيث تسوركوف" جاء بجهود كبيرة بذلتها الأجهزة على مدى شهور طويلة، لكن الخارجية الأميركية تحدثت عن ضغوط من ترامب.
وقال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، إن إطلاق سراح إليزابيث تسوركوف جاء بعد أقل من أسبوع من توقيع الرئيس دونالد ترامب الأمر التنفيذي لـ"تعزيز الجهود ضد دبلوماسية الرهائن.. هذا مثال واضح على أن السلام يتحقق من خلال القوة".
وفي 5 سبتمبر، وقع ترامب أمرا تنفيذيا ضد ما أطلق عليه "دبلوماسية الرهائن" يمهد الطريق أمام واشنطن لتصنيف دول في أنحاء العالم على أنها دول راعية للاحتجاز غير القانوني وفرض تدابير عقابية، تشمل عقوبات على الدول التي يعتقد أنها تحتجز أميركيين بشكل غير قانوني.
ونقلت وكالة "فرانس برس" عن مصدر في فصيل "كتائب حزب الله" الموالي لإيران، في 9 سبتمبر، أن الإفراج عن الباحثة الإسرائيلية-الروسية إليزابيث تسوركوف المخطوفة منذ العام 2023، جرى بشرط "تجنيب العراق أي صراعات".
وقال المصدر (لم تسمه): إن "العملية التي جرت هي إطلاق سراح وليست تحريرا، ولم تجرِ أي عملية عسكرية لتحريرها, إنما أفرج عنها وفقا لشروط وأبرزها تمهيد لانسحاب القوات الأميركية دون قتال وتجنيب العراق أي صراعات وقتال".
وقبل أسبوع من الإفراج عنها، قال المحلل السياسي العراقي المقيم في واشنطن، نزار حيدر: إن السوداني يسعى عبر زيارته إلى عُمان في 3 سبتمبر إلى "فتح علاقة" مع إسرائيل، وسيقدّم لها إليزابيث تسوركوف، المختطفة لدى "كتائب حزب الله" العراقية منذ عام 2023.
وقال حيدر خلال مقابلة تلفزيونية في 3 سبتمبر، إن "السوداني لم يذهب إلى سلطنة عُمان قبل أن يتفق مع كتائب حزب الله بخصوص المختطفة إليزابيث تسوركوف، وأنه سيدفع لهم مبلغا ماليا لقاء الإفراج عنها".
وأردف حيدر، قائلا: "الولايات المتحدة وضعت شروطا على السوداني، أحدها عدم تمرير قانون الحشد الشعبي في البرلمان الذي سحبه الإطار التنسيقي من جلسات المجلس نهاية شهر أغسطس 2025".
وأشار السياسي العراقي إلى أن "السوداني يسابق الزمن من أجل تلبية ما طلبته منه واشنطن، وإذا حصل ذلك فسنشهد مصافحة تاريخية بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب".
لم تُكشف حادثة اختطاف الإسرائيلية إلا بعدما أصدر مكتب رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 5 يوليو 2023، بيانا أكد فيه أن من وصفها بـ "الباحثة" إليزابيث تسوركوف، اختطفت منذ أشهر عدة، من قبل "كتائب حزب الله" العراقية، وأنها الآن رهينة لديهم.

قانون “الحشد”
وقبل الإفراج عن المختطفة الإسرائيلية، سحبت القوى الشيعية مشروع تعديل قانون الحشد الشعبي من البرلمان بعد تهديدات أميركية صريحة وصلت إلى القادة العراقيين في الدولة، والتي تشي بأن تمريره سيكون له عواقب سياسية واقتصادية وأمنية.
وكشف رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني، أن الجانب الأميركي أبلغنا، أنه سيفرض عقوبات سياسية واقتصادية وأمنية في حال إقرار قوانين محددة هم يرفضونها، وهذه رسالة واضحة تتعلق بقانون الحشد الشعبي.
وأوضح المشهداني خلال مقابلة تلفزيونية في 24 أغسطس، أن "الجانب الأميركي أكد إيقاف التعاون إذا شرّعنا قوانين محددة هم يرفضونها"، لافتا إلى أن "الرسالة الأميركية كانت واضحة، أنه في حال أقررتم هذه القوانين، فإن لدينا عقوبات سياسية واقتصادية وأمنية".
وأكد المشهداني أن "الإطار التنسيقي (الشيعي) لديهم نفس المخاوف، لكن بعض من يضغط منهم في الوقت الحالي لتمرير قانون الحشد الشعبي يسعى وراء الأصوات في الانتخابات البرلمانية المقبلة".
وفي هذه النقطة تحديدا، كانت "الاستقلال" قد كشفت خلال تقرير نشرته في 29 أغسطس، أن "وفدا رفيعا من السفارة الأميركية زار البرلمان العراقي، وتحدث بكل وضوح أن أي تمرير لقانون الحشد الشعبي، فإنه سيقابل بضرب أهداف محددة مسبقا".
وأوضح التقرير نقلا عن مصدر طلب عدم الكشف عن هويته، أن "التهديد الأميركي كان يعني استهداف قادة فصائل مسلحة في الحشد الشعبي، وهذا ما أثار حفيظة القوى الشيعية بالبرلمان وتحدى بعضهم أن يجري تمرير القانون ردا على هذه التهديدات".
وتوقع المصدر أن "يتوقف الإطار التنسيقي عن المطالبة بتمرير قانون الحشد الشعبي بعد هذا التهديد الصريح، لأن الأمر لم يعد مجرد تكهنات بماذا سيحصل في حال جرى إقرار مثل هذا القانون".
وفي عام 2014 تشكلت قوات "الحشد الشعبي" على أثر اجتياح تنظيم الدولة العراق وسيطرته على ثلث مساحة البلاد، بعد فتوى "الجهاد الكفائي" للمرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني.
واندمجت نحو 70 مليشيا مسلحة شيعية غالبيتها موالية لإيران في الحشد الشعبي الذي يتهمه الغرب بأنه ذراع طهران في العراق. وبعد انقضاء مهمته والانتصار على تنظيم الدولة عادت المطالبات بضرورة حله.
وفي اتصال حمل ما وصفه بعض المراقبين بأنّه "إملاءات أميركية"، عبّر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، لرئيس الوزراء العراقي، عن مخاوف بلاده بشأن مشروع القانون الذي ما يزال قيد المناقشة في البرلمان.
وشدَّد الوزير الأميركي خلال بيان رسمي في 22 يوليو، على أن "تشريع هذا النوع من القوانين سيؤدي إلى ترسيخ النفوذ الإيراني والجماعات المسلحة الإرهابية التي تقوض سيادة العراق".
ويهدف التعديل الجديد لقانون هيئة الحشد الشعبي رقم 40 لسنة 2016، إلى إبقاء الأخير مؤسسة عسكرية وليس دمجه مع الأجهزة الأمنية، وكذلك ينص على معاملة أفراده بشكلٍ متساو مع منتسبي القوات المسلحة العراقية من حيث الرواتب والمستحقات.

أهداف أميركية
وبخصوص حجم التنازلات التي من المتوقع أن تقدمها القوى الشيعية في المستقبل للحفاظ على السلطة في العراق، قال الباحث في الشأن السياسي العراقي، حامد العبيدي، إن "كل من في السلطة يخشى الحساب أو الاغتيال، وحتى السوداني يسعى لإبعاد الأذى عن نفسه".
وأضاف العبيدي لـ"الاستقلال" أنه "بعد سحب موافقة الكونغرس الأخيرة على إلغاء منح تفويض لشن حرب ضد العراق، تنفس قادة الإطار التنسيقي الشيعي والحشد الشعبي الصعداء، لكنهم مستعدون لأي تنازل مهما كان في سبيل الابقاء عليهم في السلطة".
ففي 11 سبتمبر، ألغى مجلس النواب الأميركي (الكونغرس) تفويضات قانونية قديمة كانت تمنح الرئيس الأميركي صلاحيات واسعة لشن الحرب على العراق، في خطوة وصفت بأنها محاولة لإعادة التوازن الدستوري بين السلطة التنفيذية والتشريعية في واشنطن.
ويأتي هذا الإجراء، الذي أقر بأغلبية 261 صوتًا مقابل 167، بدعم من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بعد سنوات من الجدل حول التفويضات الصادرة عامي 1991 و2002، والتي استخدمت لمهاجمة العراق خلال حرب الخليج واحتلاله وإسقاط نظام صدام حسين، على التوالي.
ولفت العبيدي إلى أن "الولايات المتحدة لا تريد إسقاط الحكم الشيعي بالعراق، وربما حتى لن تفرض شخصا بعينه لمنصب رئيس وزراء العراق بعد الانتخابات، على تقدير أن البلد فيه نظام ديمقراطي هي من أتت به وترعاه، على العكس من إيران التي تتباهى بأنها هي من تنصب المسؤولين العراقيين".
وتابع: "طبيعة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا توحي بأنه رجل حازم وحاسم، بل مجرد بلطجي مبتز أرعن لا يعرف بالسياسة ولا الدولة، لذلك فإنه قد يمارس ضغوطات لإبعاد أي دعم لإيران ينطلق من العراق, وليس مهما أي شخصية تأتي لتتولى منصب رئيس الوزراء".
وكانت تصريحات سابقة أطلقها قائد الحرس الثوري الإيراني آنذاك اللواء محمد علي جعفري، قد لخّصت إلى أي مدى وصل تدخل بلاده في تشكيل الحكومة العراقية، واختيار الشخصيات التي تتولى الرئاسات الثلاث في البلد.
ونقلت وكالة "إيسنا" الإيرانية في 4 نوفمبر 2018، عن جعفري قوله: "تغلبت إيران على أميركا 3 صفر في العراق"، كونها تمكنت من تعيين الرئاسات الثلاث من المعسكر الإيراني، وهم برهم صالح رئيس الجمهورية، وعادل عبد المهدي رئيس الوزراء، ومحمد الحلبوسي رئيس البرلمان.
وبخصوص الإفراج المختطفة الروسية- الإسرائيلية، نقلت صحيفة "المدى" العراقية في 11 سبتمبر عن مصادر (لم تسمها) أن "الفصائل، وبدفع من طهران، تسعى إلى تهدئة الوضع في المنطقة وتجنب ضربات محتملة"، مرجحة أن "تسوركوف نُقلت إلى إيران خلال فترة احتجازها".
وأشار تقرير الصحيفة إلى أن إطلاق سراح المختطفة "لا يوفر حماية لهذه الفصائل من أي ضربة قادمة"، لافتة إلى أن "المواجهة مع واشنطن وإسرائيل مستمرة، وأن أنشطة الفصائل في سوريا ولبنان واليمن والعراق تؤسس لصدامات مقبلة".
المصادر
- تفاوض أم فدية؟.. روايات متضاربة حول إطلاق سراح الرهينة الإسرائيلية
- انسحابات من “الحشد الشعبي” في العراق.. ضغوط أميركية أم ترتيبات داخلية؟
- تزامنا مع أحاديث عن اعتداءات إسرائيلية محتملة.. لماذا سافر السوداني لعُمان؟
- ترامب يوقع أمرا تنفيذيا يمهد لتصنيف دول بأنها راعية للاحتجاز غير القانوني
- الكونغرس الأمريكي يُلغي تفويض الحرب على العراق.. ما الذي يعنيه القرار؟