تحسم مستقبل الخرطوم.. هكذا وجه جيش السودان أشرس ضرباته لمليشيا الجنجويد
“الأهمية الأساسية للمعركة الأخيرة تكمن في السيطرة على جسور الخرطوم”
هجوم غير مسبوق شهدته العاصمة السودانية الخرطوم، عند قيام الجيش السوداني في الساعة الثانية بعد منتصف ليل 26 سبتمبر/ أيلول 2024، بتوجيه ضربة مباغتة لمتمردي مليشيا الدعم السريع (الجنجويد).
وأفادت وكالة “رويترز” نقلا عن مصادر عسكرية سودانية، بأن الهجوم يعد “أكبر” عملية من الجيش لاستعادة الأراضي هناك منذ بداية حربه على قوات الدعم السريع المستمرة منذ 17 شهرا.
فكيف خطط الجيش لتلك العملية؟ وما نتائجها المتوقعة على مسار الحرب السودانية الأهلية؟
طبيعة الهجوم
بدأ الجيش عمليته العسكرية بتقدم مفاجئ عبر عدد من الجسور التي تربط مدن العاصمة الثلاث، الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان.
ثم توجه نحو قواعد قوات الدعم السريع، وخاض اشتباكات ضارية معها، تحديدا في محيط منطقة المقرن غربي الخرطوم.
كما شوهدت أعمدة الدخان تتصاعد من محيط سلاح المدرعات جنوبي الخرطوم.
فيما واصل الطيران الحربى التابع للجيش، التحليق بكثافة فوق سماء أم درمان، موجها ضربات متتالية لأماكن تمركز المتمردين.
وقالت مصادر عسكرية سودانية لصحف محلية، إن "الجيش السوداني يخوض قتالا عنيفا في الخرطوم بدعم جوي كبير".
وأضافت أن وحدات الجيش ضربت بقوة عناصر الدعم السريع بالقرب من القصر الرئاسي وسط العاصمة.
فضلا عن سماع دوي انفجارات متلاحقة بالقرب من سلاح المدرعات التابع للجيش جنوبي المدينة، مع انفجارات قذائف مدفعية قرب مقر سلاح الإشارة بمدينة بحري شمالي الخرطوم.
وأورد موقع "الحرة" الأميركي أن الجيش السوداني يتحدث عن انفتاح بري هدفه السيطرة على مقرات وطرق إستراتيجية وتفتيت تجمعات قوات الدعم السريع بالعاصمة.
التطويق المزدوج
من جانبها، قالت صحيفة “السوداني” نقلا عن مسؤولين عسكريين: "نبشر الشعب السوداني، أنه بحمد الله تحركت فجر اليوم قواتكم المسلحة والقوات النظامية وكتائب الإسناد، في هجوم بري وجوي وبحري، في جميع المحاور نحو الخرطوم".
وأتبعت: "عبرت القوات جسور نهر النيل في ثبات وبطولة، وباغتت المليشيا المتمردة، ولقنتها درسا بليغا، ولقي المئات منهم مصرعهم، وفر الآلاف منهم، ومازالت قواتنا تطاردهم في أسواق وأحياء الخرطوم". بحسب البيان.
ووصفت مواقع سودانية تقدم الجيش عبر تلك المحاور في الخرطوم بأنه التقاء أجنحة جديد حدث بمقابلة قوات من شمال أم درمان متمثلة في وادي سيدنا مع قوات معسكر الكدرو عبر عبور المانع المائي "crossing of Bridges" المتمثل في "جسر الحلفايا".
ثم قيادة تلك القوات هجوما مشتركا فيما يعرف بعملية "التطويق المزدوج" للمليشيات بالانفتاح جنوب الكدرو العسكرية.
وهو ما دعا الخبير السوداني المختص في الشؤون الأمنية والعسكرية، عامر حسن عباس، للإعلان بأن: "العملية الهجومية الواسعة للجيش السوداني التي انطلقت اليوم ستؤسس لوضع جديد للحرب في السودان".
وأضاف: "ستظهر نتائجها النهائية خلال الأسابيع القادمة، وسيكون لها تحول نوعي له ما بعده".
حرب الجسور
من جهته، قال السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي لـ"الاستقلال"، إن “الأهمية الأساسية للمعركة الأخيرة تكمن في السيطرة على جسور الخرطوم”.
وأضاف: "لو نظرنا إلى الوضع قبل الهجوم، فسنجد أنه من بين 10 جسور رئيسة تربط مدن الخرطوم، على النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل، كان الجنجويد يسيطرون على 6 جسور مقابل جسر واحد للجيش، فيما خرجت ثلاثة جسور من الخدمة بعد ضربها، وهو ما ضمن لهم تفوقا نوعيا على الأرض".
وأكمل: "بسيطرة الجيش على الجسور، سيتم ربط جميع قواته وأسلحته ببعضها، وسيمنع وصول أي إمداد يأتي لقوات المتمردين من شرق النيل، وسيحولهم إلى مجموعات منعزلة يسهل ضربها والقضاء عليها، خاصة أن الجيش يتفوق بامتلاك سلاح الجو".
وأتبع: "لابد أن نذكر مدى استفادة الجيش من تدمير جسر شمبات في نهاية 2023، وكان هو السبب الرئيس في تحقيق التقدم الذي أحرزه في أم درمان".
وأضاف: "بعد أشهر قليلة من تدمير الجسر الإستراتيجي على النيل الأبيض تمكن الجيش من استعادة مبنى الإذاعة والتلفزيون وعدد من الأحياء في أم درمان القديمة بعد شهور من سيطرة الجنجويد عليها".
يذكر أن جسر شمبات كان يشكل أحد أهم مصادر الإمداد لقوات الدعم السريع وهو ما مكنه من السيطرة على أجزاء كبيرة من أم درمان
ويظهر من الهجوم الأخير للجيش أنه بنى خطته الرئيسة على استعادة السيطرة على المدينة عبر قطع الإمداد عن قوات الدعم السريع من خلال تحييد الجسور الرئيسة، تحديدا جسر الحلفايا.
الطريق إلى المعركة
ويأتي السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذا التقدم للجيش، متمثلا في العامل الفارق الذي رجح كفة القوات المسلحة، وكيف وصلت إلى تلك النقطة بعد أشهر طويلة من القتال؟
في البداية تأتي نقطة الأسلحة الإستراتيجية الفارقة والاعتماد على قوى إقليمية مختلفة، منها إيران.
ففي 24 يناير/كانون الثاني 2024، نشرت وكالة “بلومبرغ” تقريرا، ذكرت فيه: "أن أقمارا اصطناعية التقطت صورا لطائرة من نوع (مهاجر 6) الإيرانية، في قاعدة خاضعة لسيطرة الجيش شمالي الخرطوم".
ونقلت الوكالة الأميركية عن ثلاثة مسؤولين غربيين، طلبوا عدم الإفصاح عن هوياتهم لكشفهم عن معلومات حساسة، "أن الجيش السوداني تلقى شحنات من طائرة (مهاجر 6)، وهي مسيرة ذات محرك واحد تم تصنيعها في إيران".
وذكرت أن الطائرة تحمل ذخائر موجهة بدقة، وأكد محللون فحصوا صورا للأقمار الاصطناعية وجود الطائرة من دون طيار في البلاد.
وكشف "ويم زوين نبرغ" رئيس مشروع نزع السلاح في "منظمة باكس" الهولندية، أن "من بين الأدلة التي تثبت وجود (مهاجر 6) في السودان، صور الأقمار التي التقطت المسيرات في قاعدة وادي سيدنا الجوية (الخاضعة لسيطرة الجيش).
ووفقا لبلومبيرغ فإن مهاجر 6 قادرة على شن هجمات (جو - أرض) والحرب الإلكترونية، والاستهداف المباشر في ساحة المعركة.
الكتائب الإسلامية
ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبته كتائب الحركة الإسلامية السودانية في دعم الجيش، والحفاظ على قواته وأماكن تمركزه في العاصمة.
فعندما حاولت قوات الجنرال محمد حمدان دقلو حميدتي المدعومة إماراتيا إخضاع عاصمة السودان بجانبيها "الخرطوم وأم درمان" بالكامل.
استنفرت كتائب الحركة الإسلامية نفسها وأسهمت في تعطيل تقدم المليشيا.
وهو ما أكده الناطق باسم الدعم السريع "الفاتح قرشي" في 2 يوليو/ تموز 2024، بالقول إن الجيش السوداني بمساعدة كتائب الحركة الإسلامية المتحالفة معه دمروا جسر الحلفايا، الرابط بين مدينتي الخرطوم بحري وأم درمان.
وأشار إلى أن الكتائب الإسلامية ساعدت الجيش في تدمير الجسر لإعاقة تقدم وهجوم القوات (المتمردة).
خبراء عسكريون سودانيون أكدوا أنه لولا إسناد الكتائب الإسلامية للجيش السوداني، لكانت نتيجة المعارك أسوأ كثيرا، ولأصبحت المليشيا المتمردة في أوضاع ميدانية أفضل، ولأخضعت كثيرا من الولايات بسهولة، على رأسها العاصمة الخرطوم.
معركة أم درمان
ولا يغفل أن أحد أهم الأدوار التي لعبتها كتائب الحركة الإسلامية عموما، و"البراء بن مالك" خصوصا، هو دورهم في صد هجوم الدعم السريع على مدينة "أم درمان" ومنع سقوطها.
ففي 4 فبراير 2024، أعلن الجيش السوداني في بيان، أن فرق سلاح المدرعات جنوب الخرطوم، وبمساعدة المقاومة الشعبية، نفذت عملية عسكرية نوعية ناجحة على خطوط العدو (الدعم السريع) وكبّدتهم خسائر فادحة في العتاد والأرواح.
ولأول مرة منذ بدء الاقتتال بين طرفي الصراع في السودان بدأت قوات الجيش السوداني تتمركز في سوق مدينة أم درمان الرئيس بعد طرد مليشيا الدعم السريع.
وبفضل إسناد الكتائب الإسلامية القوي، نشرت الصفحة الرسمية للقوات المسلحة في 8 فبراير 2024، مشاهد مصورة لـ عبد الفتاح البرهان، وهو يتفقد المواقع الأمامية للقوات المسلحة بمنطقة أم درمان.
وقد وأوردت صحيفة "سبق" المحلية السودانية في 5 فبراير أن "كتائب الحركة الإسلامية" أخرجت فرقا خاصة بينها "استخبارات المقاومة في أم درمان القديمة".
وهي المدينة التي تمثل جزءا مهما من العاصمة، ويتقاسم السيطرة عليها الجيش والدعم السريع.
وساعدت الفرق الجيش في هجومه المباغت وهي تضم كوادر شعبية مدربة ومنتقاة مهمتها جمع المعلومات حول أماكن وجود "الدعم السريع" ورصد تحركاتهم، ومعاونة الأجهزة العسكرية في تصويب الضربات الجوية والمدفعية لمراكزها.
لذلك فإن انتصارات وتقدم الجيش الكبير الذي حدث في الخرطوم، جاء كنقطة ضمن سلسلة طويلة من الإستراتيجيات التي تبناها خلال المرحلة الماضية.