شبكة إمام أوغلو وأبراج الأموال.. هكذا تهدد مستقبل حزب الشعب الجمهوري

"هذه الوقائع تعكس هشاشة الرقابة الداخلية"
الساحة السياسية التركية تشهد في الآونة الأخيرة سجالا واسعا حول ما يُعرف بـ"ملف أكرم إمام أوغلو"، الذي يجمع بين اتهامات بالفساد المالي، وارتباط هذا الفساد بمسار التغيير داخل حزب "الشعب الجمهوري" المعارض.
ونشر مركز "سيتا" التركي مقالا للكاتب، نديم شينير، ذكر فيه أن "القضية لم تَعُد مجرد شبهات تتعلق بشراء مبنى حزبي أو الحصول على رِشا من مناقصات البلديات، بل تحوَّلت إلى رمز لصراع أوسع بين شرعية القيادة الحزبية وممارسات الفساد التي تسربت إلى قلب المعارضة".

منظومة الفساد
وقال الكاتب التركي: إن "اسمَي (أوزيل) و(إمام أوغلو) يعكسان في الواقع مسارين متداخلين داخل حزب الشعب الجمهوري".
المسار الأول يمثّله أكرم إمام أوغلو الذي بدأ حياته السياسية بطرق غير قانونية، من بينها الحصول على شهادة جامعية عبر تزوير الوثائق، ثم استمر في بناء شبكة فساد ورِشا منذ رئاسته لبلدية بيليك دوزو.
وقد نُقِلَت هذه الشبكة إلى بلدية إسطنبول الكبرى بعد عام 2019، وأصبحت أداة لتحقيق طموحاته السياسية الأوسع، وعلى رأسها منصب رئاسة الجمهورية.
أمّا المسار الثاني يتمثل في أوزغور أوزيل، الذي تولى رئاسة الحزب بعد إزاحة كمال كليتشدار أوغلو.
وأضاف الكاتب أن "وصول أوزيل إلى هذا المنصب لم يكن نتيجة مسار سياسي طبيعي أو تنافس نزيه، بل جاء بدعم مالي وسياسي وفّرته شبكات إمام أوغلو، وبذلك، أصبح أوزيل في موقع المدافع عن تلك المنظومة، مستخدما سلطة الحزب لتأمين مصالحها".
ورأى شينير أن "العلاقة بين إمام أوغلو وكليتشدار أوغلو توضح طبيعة هذا التحول؛ فبعد سنوات من تبني الأخير له سياسيا، انتهت العلاقة بصراع داخلي أطيح فيه بكليتشدار أوغلو عبر أدوات الحزب نفسها، بعد أن وُظفت أموال الفساد لتشكيل توازنات جديدة".
وتعد قضية شراء مبنى فرع الحزب في إسطنبول عام 2019 نقطة الانطلاق في كشف منظومة الفساد.
فقد ظهر للعلن صور "أبراج الأموال" –رزم نقدية مكدسة– والتي استخدمت لشراء المبنى بمبلغ 41 مليون ليرة.
فوفقا لإفادة محامي علي رضا براكا الذي كان مسؤولا عن عملية البيع، فقد اشترت شركة موكله المبنى من كيان مشترك بين شركة غول للبناء وتوكي على أساس شراكة في الإيرادات.
بعد ذلك، تفاوض محاموه مع مسؤولي الحزب لتحديد سعر البيع بمبلغ 41 مليون ليرة تركية لاستخدام المبنى كمقر للحزب.
لكن لم تجرِ العملية بشفافية كاملة؛ إذ تم تسجيل سعر العقار في السجلات العقارية بمبلغ 24 مليون ليرة فقط.
بينما سُدد المبلغ المتبقي، الذي يقارب 17 مليون ليرة، عبر وسطاء وبطرق نقدية متفرقة، فقد دفع متين غول مليون ليرة بينما دفع مسؤول الحزب فاتح كليش 400 ألف ليرة في يوم نقل الملكية.
أما مصادر الأموال فكانت متنوعة وغير قانونية؛ إذ تضمنت مبالغ من بلديات مختلفة مثل بشيكتاش وشيشلي وبيليك دوزو، بالإضافة إلى مبالغ من بلديات أتاشهير وكارتال ومالتيبه.
وأثناء عد الأموال في مكتب المحامي كان فاتح كليش حاضرا، وتحدث عبر الهاتف مع أشخاص، يُعتقد أن أحدهم هو إمام أوغلو، كما ذكر تلقي مليون ليرة من شخص سيشارك في مناقصة بلدية إسطنبول الكبرى.
هشاشة الرقابة
وعلق الكاتب التركي: "تكشف هذه الوقائع كيف تحولت صفقة شراء مبنى الحزب إلى عملية فساد كبيرة؛ حيث اختلطت الأموال العامة بأموال غير مشروعة، ما يعكس هشاشة الرقابة الداخلية في الحزب وبلدية إسطنبول الكبرى".
ولفت إلى أن "القصة لم تقتصر على شراء المبنى، بل امتدت لتشمل أساليب جمع الأموال بطريقة غير قانونية، وأدت إلى إثارة الجدل حول النزاهة المؤسسية للقيادات المتورطة".
فقد أظهرت هذه الصفقة بوضوح شبكة الفساد التي تحوم حول إمام أوغلو والمقربين منه.
فعندما ظهرت الصور، حاولت قيادة الحزب تبرير المشهد بالقول: إن الأموال جاءت عبر "التبرعات".
غير أن الوثائق والشهادات أوضحت أن مصدرها الحقيقي هو “الرِّشا وعمولات المناقصات، ما يعني أن الرواية الرسمية لم تكن سوى محاولة للتغطية على فساد هيكلي متشعب”. يقول الكاتب.
وأشار إلى أن اللافت هو أن "المسرحية" التي بدأت في مبنى فرع إسطنبول تعود لتُطوى في نفس المكان.
وشدد شينير على أن “فضيحة الأموال لم تقتصر على شراء المبنى فحسب، بل انعكست أيضا على الحياة الداخلية للحزب”؛ إذ جرى الحديث عن شراء أصوات المندوبين بين 1000 و1500 دولار للصوت الواحد في مؤتمرات الحزب.
قرارات قضائية
هذه الممارسات أسهمت في صعود أوزغور أوزيل إلى رئاسة الحزب بدعم غير مباشر من إمام أوغلو.
لكن بعد أن وصل الأمر للقضاء، أصدرت المحكمة المدنية في إسطنبول قرارا بإقالة أوزغور تشيليك من منصبه، وهو رئيس فرع إسطنبول للحزب والذي عُيّن بأموال الفساد.
ومعه كان القرار بإقالة مجلس إدارته إلى جانب 196 مندوبا إقليميا يُزعم أنهم غيّروا أصواتهم مقابل مصالح شخصية، وقد اتهمتهم بالوصول إلى مناصبهم عبر "سوق المندوبين" وشراء الأصوات.
ونظرا لطلب محكمة أنقرة ملف القضية أيضا، فإنه من المحتمل أن تنال القرارات هذه رئاسة الحزب نفسها في أنقرة.
فإذا صدرت أحكام مماثلة، فإن أوزغور أوزيل قد يخسر موقعه، ومعه تنتهي وصاية إمام أوغلو على الحزب عبر المال السياسي.
وأشار الكاتب التركي إلى أن القضية تحمل في طياتها عدة أبعاد.
أولها، انهيار الشرعية الأخلاقية للمعارضة، لأن الحزب الذي رفع شعارات الديمقراطية والشفافية يجد نفسه اليوم متورطا في فضائح مالية.
ثانيا، تحول الفساد إلى أداة للصراع الداخلي، فلم يعد الأمر مجرد شبهات، بل وسيلة لإعادة تشكيل القيادة عبر شراء الولاءات.
ثالثا، عودة الحزب إلى جذوره، ففي حال صدور قرارات قضائية صارمة، قد يستعيد الحزب توازنه بالعودة إلى مبادئه التأسيسية، بعيدا عن وصاية المال السياسي.
وختم الكاتب مقاله قائلا: إن قضية "أوزيل - إمام أوغلو" ليست مجرد ملف فساد مالي، بل هي صورة مكثفة عن كيفية اختراق المال غير المشروع للعمل السياسي في تركيا.
فمن "أبراج الأموال" في مكاتب المحامين إلى مؤتمرات الحزب التي صُنعت نتائجها بالرشا، وصولا إلى تدخل القضاء، يبدو أن المسرح الذي بدأ في مبنى فرع إسطنبول قد ينتهي هناك أيضا، ولكن هذه المرة عبر رسالة قاسية ضد استخدام الفساد كأداة للوصاية على حزب تاريخي بحجم الشعب الجمهوري.