رئيس أميركا الجديد "سيضطر" إلى فتح الأبواب أمام اللاجئين.. لماذا؟
"فرض قيود جديدة على الهجرة لن يضر الولايات المتحدة فحسب؛ بل سيؤدي أيضا إلى نقص العمالة واختناقات بسلاسل التوريد"
بينما تغرق الولايات المتحدة في ضغينة حزبية، يتقاتل فيها المرشحان الجمهوري والديمقراطي، دونالد ترامب وكامالا هاريس، بشأن قضايا الإجهاض، والحدود الجنوبية، والضرائب، والرعاية الصحية.
قالت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، إنه رغم هذا التنافس، إلا أن الرئيس الأميركي -أيا كانت هويته- سيضطر إلى فتح الأبواب أمام المهاجرين واللاجئين، نظرا لأزمة العمالة الكبيرة التي تعاني منها البلاد في ظل منافستها المحتدمة مع الصين على سلاسل التوريد.
مرونة قسرية
قالت المجلة إنه رغم أن الديمقراطيين والجمهوريين بعيدون كل البعد عن بعضهم البعض في أغلب المسائل السياسية، إلا أنه أظهروا مع ذلك قناعة متجددة بأداة واحدة بعينها من أدوات الإدارة الاقتصادية، وهي السياسات الصناعية.
فخلال فترة رئاسته، دافع ترامب عن فرض تعريفات جمركية على مليارات الدولارات من الواردات، لتعزيز ثروات قطاع التصنيع الأميركي.
وأبقى الرئيس جو بايدن -الذي ركز على الضغط الاقتصادي على الصين- على العديد من هذه التعريفات الجمركية.
وأمضى بايدن السنوات الثلاث والنصف الماضية في تطبيق "بايدنوميكس"، وهي مجموعة من السياسات الصناعية الابتكارية التي تتعارض مع المبادئ التقليدية للسوق الحرة.
وأظهرت هاريس كل الدلائل على أنها ستستمر في هذا النهج، أي أنه بغض النظر عمن سيفوز بالبيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، فإن الفكرة القائلة إن الدولة بحاجة إلى أن تمارس دورا أكبر في توجيه السوق، ستبقى قائمة.
لكن يستدرك المقال بأن "من غير المرجح أن تنجح هذه السياسة الصناعية في القرن الحادي والعشرين، ما لم يقرنها صناع السياسات بسياسة هجرة مناسبة لهذا القرن أيضا".
وقال إن الولايات المتحدة لديها خطط طموحة لتعزيز سلاسل التوريد، والحد من اعتمادها الخارجي في القطاعات الحيوية، والتفوق على الصين في المنافسة على التكنولوجيات الناشئة.
وأوضح أنه "مع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف الجديرة بالثناء في إطار زمني معقول، سيتطلب وجود مجموعة كبيرة من المواهب الماهرة للغاية، والتي يفتقر إليها قطاع العمال في الولايات المتحدة حاليا".
ولذلك أكد أنه "بدون سياسة هجرة أكثر مرونة وتكيفا، فإن حتى أفضل الخطط التي وضعتها الولايات المتحدة سوف تفشل".
وكما لاحظ خبير الاقتصاد السياسي، روبرت ويد، قبل أكثر من عقدين، فإن "سياسة الهجرة هي المحور الجديد للسياسات الصناعية".
ومع اقتراب الانتخابات، يبرز الاقتصاد الأميركي كنموذج فريد للتعافي بعد جائحة كورونا، مع انخفاض التضخم، ونمو اقتصادي قوي، وانتعاش ملحوظ في سوق العمل، في تناقض حاد مع تجارب الدول الصناعية الأخرى.
ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن الهجرة النشطة كانت الخلطة السرية وراء هذا النجاح، حيث أسهمت بشكل مباشر في نمو أعلى من المتوقع، وانخفاض عام في نسبة التضخم منذ منتصف عام 2022.
وتوقع مكتب الميزانية بالكونغرس أن بين عامي 2024 و2034، ومع زيادة عدد الأشخاص العاملين نتيجة لارتفاع صافي الهجرة، سيكون الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة أكبر بمقدار 7 تريليونات دولار.
كما سترتفع الإيرادات بمقدار تريليون دولار، أكثر مما ستكون عليه دون هذا النمو في القوة العاملة.
ولذلك، يشدد المقال على أن "فرض قيود جديدة على الهجرة لن يضر الولايات المتحدة فحسب؛ بل سيؤدي أيضا إلى نقص العمالة واختناقات في سلاسل التوريد، تماما كما شهدت البلاد أثناء الوباء عندما أُغلقت الحدود.
نقص العمالة
وأفاد المقال بأنه "حتى مع تدفقات الهجرة الحالية، تكافح الشركات الأميركية نقص العمالة المستمر".
ففي يونيو/حزيران 2024، كان هناك 8.1 ملايين وظيفة شاغرة في الولايات المتحدة و6.8 ملايين أميركي عاطل عن العمل فقط.
ويتوقع مكتب الإحصاء الأميركي أن يكون خُمس الأميركيين بحلول عام 2030، فوق سن الـ 65، وهو ما يختبر قدرة الضمان الاجتماعي على الوفاء بالتزاماته، ويفرض ضغوطا جديدة على نظام الرعاية الصحية في البلاد.
"وعلاوة على ذلك، سوف تنطبق هذه الضغوط الديمغرافية بشكل أكبر على القطاعات التي تركز عليها السياسة الصناعية حاليا".
"على سبيل المثال، قدّر مكتب إحصاءات العمل الأميركي أن الولايات المتحدة سوف تحتاج إلى مليون عامل إضافي في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في عام 2032، مقارنة بما كانت عليه في العقد السابق، ناهيك عن العمال الذين سوف يتقاعدون خلال تلك الفترة الزمنية".
وأكد المقال أن الهجرة تاريخيا أدت إلى "خفض أسعار المستهلك، وزيادة إنتاج قطاع التكنولوجيا، وتعزيز أرباح الشركات، مما أسهم في اقتصاد أكبر وأكثر حيوية لجميع الأميركيين".
وأضاف: "مهما تحدثنا فلن نبالغ في أهمية جذب ورعاية المواهب المولودة في الخارج، كوسيلة لتعزيز الإبداع والازدهار الاقتصادي للولايات المتحدة".
فقد ذهبت 36 بالمئة من جميع جوائز نوبل الممنوحة للأميركيين في مجالات الكيمياء والطب والفيزياء منذ عام 1901 إلى المهاجرين.
ويمثل المهاجرون 16 بالمئة من جميع المخترعين في الولايات المتحدة، وربع القيمة الاقتصادية الإجمالية التي وردت من جميع براءات الاختراع المسجلة بين عامي 1990 و2016، نتجت عن براءات اختراع قدمها مهاجرون.
وأشار المقال إلى أن ميزة المهاجرين تمتد أيضا إلى تدابير أوسع تهدف للازدهار الاقتصادي، ففي عام 2022، أسس مهاجرون 55 بالمئة من شركات الشركات الناشئة في الولايات المتحدة بقيمة تزيد عن مليار دولار، بإجمالي 319 شركة بقيمة إجمالية تبلغ 1.2 تريليون دولار.
ومن بين شركات التكنولوجيا الأكثر رسوخا، أسس مهاجرون أو أميركيون لديهم والد مهاجر واحد على الأقل 60 بالمئة من أكبر 25 شركة.
كذلك، فإن ما يقرب من نصف شركات "فورتشين 500" أسسها مهاجرون أو أبناؤهم.
و"فورتشن 500" هي قائمة سنوية تنشر من قبل "مجلة فورتشن" الأميركية، وتُعنى بتصنيف أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة من حيث إجمالي الإيرادات.
جذب المواهب
وأوضح المقال أن "الولايات المتحدة تواجه خطر فقدان قدرتها الفائقة على جذب المواهب".
"وعلى الرغم من أن التحاق الطلاب الدوليين بالجامعات الأميركية قد تعافى من الصدمات المزدوجة لإدارة ترامب وجائحة كورونا، فإن حصة الولايات المتحدة من الطلاب الدوليين حول العالم انخفضت من 23 بالمئة في عام 2000 إلى 15 بالمئة في عام 2020".
ويُعد الحفاظ على ميزة تنافسية بين مجموعة الطلاب الدوليين أمرا ضروريا -بحسب المقال- نظرا لأن هؤلاء الطلاب يمثلون نسبة كبيرة من المواهب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في الولايات المتحدة.
ففي الفترة 2022-2023، كان أكثر من نصف جميع الطلاب الجامعيين الدوليين وثلثي طلاب الدراسات العليا الدوليين المسجلين في الكليات والجامعات الأميركية يدرسون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وفي المؤسسات التعليمية الأميركية التي تشهد انخفاضا في أعداد الطلاب الدوليين، حددت ثلاثة أرباعها عقبات التأشيرات بصفتها السبب الرئيس. بحسب المقال.
لكن يستدرك المقال بأن "جذب أفضل الطلاب الدوليين لن يؤتي ثماره إلا إذا بقوا وعملوا في الولايات المتحدة بعد التخرج".
وأشار إلى أن "معدل الاحتفاظ بالطلاب الدوليين في الولايات المتحدة أقل بكثير من المتوسط في البلدان الصناعية الأخرى".
وأضاف: "حتى الطلاب الذين يكملون درجاتهم الجامعية في الولايات المتحدة مؤهلون للعيش والعمل في البلاد لمدة تصل إلى عام واحد فقط، مع خيار التمديد لمدة عامين لأولئك العاملين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات".
وشدد المقال على أنه "إذا كانت الولايات المتحدة تريد النجاح في المنافسة العالمية على المواهب، فليس هناك وقت لإضاعته".
وحذر من أن "هناك دولا أخرى تسارع بالفعل إلى اصطياد العمال غير القادرين (أو غير الراغبين) في الاستقرار في الولايات المتحدة".
ففي يونيو/حزيران 2024، كشفت كندا عن إستراتيجية جديدة لجذب المواهب التقنية، تمنح بموجبها تصريح عمل لمدة ثلاث سنوات لما يصل إلى 10 آلاف شخص يحملون تأشيرات "H1-B" في الولايات المتحدة للقدوم إلى كندا، مع تصاريح عمل أو دراسة لأفراد الأسرة المرافقين.
وقد وصل عدد طلبات البرنامج إلى 10 آلاف طلب في أقل من 48 ساعة. أما ألمانيا، فقد طرحت تأشيرة للباحثين عن عمل تمنح دخولا مؤقتا للعمال الأجانب حتى يتمكنوا من العثور على وظائف.
وفي 2023، اتخذت إدارة بايدن خطوات متواضعة لتسريع معالجة طلبات العمالة عالية المهارة.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلنت وزارة الأمن الداخلي عن عدة تغييرات في برنامج "H1-B"، بما في ذلك تمديد فترة السماح للخريجين الذين يسعون للبقاء في الولايات المتحدة، أثناء انتقالهم من تأشيرات الدراسة إلى تأشيرات العمل.
كما أصدرت الإدارة أمرا تنفيذيا موسعا يهدف إلى تقديم إرشادات؛ لتبسيط طلبات التأشيرات، وتقليل أوقات المعالجة للمقيمين الأجانب الذين يمتلكون خبرة في التقنيات الحيوية والناشئة.
وأشار المقال إلى أنه "على مدى العقود العديدة الماضية، كانت الطبقة السياسية في واشنطن مهووسة بإدارة الهجرة غير الشرعية والسيطرة عليها".
لكنه يؤكد أن "الوقت قد حان لكي يكرس صناع السياسات نفس الدرجة من الاهتمام للهجرة القانونية، خاصة المهاجرين المهرة".
وذكر أنه "كما يوجد إجماع بين ساسة الحزبين على السياسة الصناعية، فهناك أيضا إجماع بين ناخبي الحزبين على أن الولايات المتحدة يجب أن تفعل المزيد لتحفيز هجرة العمالة الماهرة".
فقد تبنى ثلاثة من بين كل أربعة مشاركين في استطلاع أجراه "مركز السياسة الحزبية" الأميركي (Bipartisan Policy Center)، في ديسمبر/كانون الأول 2022، توسيع هجرة العمالة عالية المهارة، وشمل ذلك 68 بالمئة من الجمهوريين، و74 بالمئة من المستقلين، و85 بالمئة من الديمقراطيين.
وأضاف المقال أنه "في القرن الحادي والعشرين، سيتطلب الحفاظ على الهيمنة التكنولوجية الأميركية الاحتفاظ بمكانتها كوجهة مفضلة للعمال الأكثر مهارة".
وختم بالقول: "إن رؤية "صنع في أميركا"، التي تحظى بإجماع الحزبين، يمكن أن تصبح حقيقة واقعة، ولكن فقط إذا سخّرت مواهب المهاجرين".