نهج السيسي لتقليل زراعة القمح بمصر.. قرار فني أم سياسي قادم من أميركا؟
"أميركا تغضب من خطط مصر للاكتفاء الذاتي من القمح"
في القدم، اشتهرت مصر بأنها كانت تطعم الإمبراطورية الرومانية بالقمح خلال أكثر من 600 عام، لدرجة لم تكن سفن الغلال تتوقف من ميناء الإسكندرية إلى أوروبا
وفي "عام الرمادة" في عصر الخليفة عمر بن الخطاب، حين حدث جفاف في الجزيرة العربية، أرسل عمرو بن العاص، حاكم مصر، قافلة غذائية كفتها مؤونة المجاعة.
إلا أن مصر الحديثة، ومع زيادة السكان، ظلت تواجه مشكلة في تحقيق الاكتفاء الذاتي، فضلا عن حرب ذات طابع إستراتيجي، لمنعها من التوسع بزارعة القمح، لأسباب تتعلق بضمان السيطرة على قرارها السياسي وتبعيتها، وفق مراقبين.
ولم يُقدم أي رئيس مصري، ممن تعاقبوا عليها من العسكريين الذين حكموها منذ عام 1952، على اقتحام هذا المانع الصعب، بحجج مختلفة.
وحين حاول أول رئيس منتخب غير عسكري، هو الراحل محمد مرسي، اقتحام هذا المانع، حدث انقلاب عسكري ضده وتم قتله في زنزانته بالإهمال الطبي أمام أنظار العالم.
لكن رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، لم يرضخ فقط لهذه الضغوط الدولية، بل دعا للتقليل من زراعة القمح تماما بدعوى تكلفته العالية ونقص المياه.
تصريحات غريبة
ففي 13 مايو/ أيار 2024، زعم السيسي في حفل بمناسبة موسم حصاد القمح المحلي، أن زراعة محاصيل أكثر ربحية من القمح، قابلة للتصدير، قد تعود بالنفع على مصر.
وقال السيسي: "متقوليش النهاردة (لا تقل لي اليوم) أنا أقدر أزرع مليون فدان بالقمح يطلعولي بنص مليون طن، وأنت تقدر تزرع بيهم منتجات أخرى تساوي قيمة القمح ثلاث مرات".
وأضاف أن مصر يمكنها تصدير هذه المحاصيل المربحة، واستخدام عائداتها في استيراد القمح.
وادعى أن المياه تمثل عاملا مهما في تحديد نوع الزراعات ومنتجاتها لتحقيق الاستفادة من كل نقطة مياه.
علما أن مصر واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم، وعادة ما تستورد ما يقرب من 10 ملايين طن سنويا. ويستورد النظام حوالي نصف هذه الكمية لتوفير الخبز المدعوم لعشرات الملايين من المصريين.
وتمثل محدودية الموارد المائية وتزايد عدد السكان تحديات أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح في مصر، وفق مراقبين.
وبدأ تحول مصر لاستيراد القمح في عام 1951 عندما استوردته لتغطية احتياجات القوات البريطانية على أرضها.
وبعد الإطاحة بالملك فاروق في عام 1952 بدأت عملية استيراد القمح للاستهلاك المحلي عندما اتجهت حكومة الانقلاب العسكري لتعميم استخدامه بدلا من الذرة في صناعة الخبز.
ومع ارتفاع عدد السكان في مصر زاد الاستيراد، ثم ظلت كميات القمح المستوردة في مصر تتزايد عبر السنين.
قرار السيسي أم أميركا؟
حين كان رئيسا لتحرير صحيفة "الشروق"، كتب الصحفي وائل قنديل في 17 أغسطس/آب 2010 يقول إن "الذين يحكموننا لا يريدون أن نزرع القمح".
وأكد أن "قرار عدم زراعة القمح في مصر يبدو سياسيا بالأساس وليس مجرد مسألة فنية".
دلل على ذلك بإقالة وزير الزراعة الأسبق أحمد الليثي بعد 18 شهرا فقط من توليه "لأنه تجرأ وأعلن أنه يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح".
قال: أثناء مفاوضات الحكومة المصرية مع الأميركيين بشأن اتفاقية التجارة الحرة (عام 2010) عاد كلاهما من أميركا وأدليا بتصريحات مفادها أن واشنطن غير مرتاحة لوجود وزير زراعة مصري يتحدث كل يوم عن الاكتفاء الذاتي من القمح.
وأوضحوا أن "هذا الأمر يثير غضب المزارعين الأميركيين .. وقد كان.. وتم إجلاء أحمد الليثي عن وزارة الزراعة".
"قنديل" أكد أن الوزير الليثي كشف له في دردشة رمضانية أنه بعد خروجه من الوزارة بأقل من أسبوع أعلن الوزير الذي حل محله "أمين أباظة" بكل فخر أننا لسنا بحاجة لتبنى سياسة الاكتفاء الذاتي من القمح طالما لدينا أموال نشتريه بها.
ونقل "قنديل" عن الوزير أحمد الليثي واقعة أخرى في عام 2005، حين كلف الليثي رئيس شركة أبى قير للأسمدة بإنتاج مركب سماد مخصص للقمح فقط.
وبالفعل تم إنتاجه في شكائر مكتوب عليها "يزيد إنتاجية القمح بنسبة 15 بالمئة" ولكن بعد خروج الليثي من الوزارة جاء وزير الصناعة وطلب من رئيس شركة أبى قير أن ينسى هذا الموضوع.
قال له "إن هذه العبارة على الشيكارة تثير غضب الأميركان وتستفزهم"، وبالفعل ألغي مشروع إنتاج السماد.
وفي 30 مارس/آذار 2011 اتهم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، محمد بديع، الرئيس المصري السابق حسني مبارك بالعمل بإضعاف مصر وعدم التعاون التنموي مع السودان (في مجال القمح) من أجل إرضاء أميركا.
"بديع" قال من أحد مساجد مدينة الإسكندرية إن "الرئيس السوداني عمر البشير قال إنه عرض علي مبارك زراعة قمح لمصر في أراضي السودان إلا أن مبارك رد على عرض للبشير بالرفض قائلا "أميركا تزعل مني"، بحسب صحيفة "المصري اليوم".
وقد جرت نقاشات متعددة حول القمح خلال فترة حكم مبارك، ووجهت اتهامات لوزير الزراعة الأسبق يوسف والي الذي عمل في المطبخ السياسي المصري نحو عقدين بالتواطؤ ورفض التوسع في زراعة القمح، وبالمقابل توسع في زراعة محاصيل وشتلات من إسرائيل للكنتالوب والفراولة.
أيضا أكد مجدي حسين رئيس تحرير صحيفة "الشعب" المعارضة، التي أغلقها مبارك عام 2000، عبر موقعه الخاصة على الإنترنت في 28 أبريل/نيسان 2024 أن السودان عرض زراعة مليون فدان قمحا على أرضه ومصر رفضت.
قال إن البشير عرض ذلك على مبارك، وذلك بخبرة العمالة الزراعية المصرية وبتمويل ليبي، ووافق القذافي حينئذ ولكن عندما عرض المشروع على مبارك قال صراحة: أنتم عاوزين أميركا تضربنا.
وأكد "حسين" أن هذه القصة الخطيرة وهي غضب أميركا من خطط مصر الاكتفاء الذاتي من القمح، أكدها أيضا آل جور نائب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، عندما جاء في زيارة لمصر، ورواها محمود أبو زيد وزير الري الأسبق بعد ثورة 2011.
حيث كان أبو زيد كوزير للري هو المسؤول عن مشروع توشكى ونظم زيارة لآل جور ليرى هذا المشروع العملاق.
ولكن في اليوم التالي للزيارة تلقى أبو زيد مكالمة هاتفية من مبارك لتوبيخه على تنظيم جولة لآل جور في توشكى خاصة مناطق زراعة القمح وكيف أن آل جور عاد قلقا من هذا المشروع وعاتب مبارك عليه لأنه سيؤثر على صادرات أميركا لمصر من القمح!
وعام 2014، أكد الدكتور وسيم السيسي، وهو باحث في تاريخ مصر القديمة، أيضا، أن مبارك رفض زراعة القمح في مصر بتعليمات من أميركا.
قال في تصريحات تلفزيونية إنه تم زراعة منطقة الساحل الشمالي كلها قمحا وبعد هذه الفرحة، وفي العام التالي حينما بدأوا تكرار التجربة، صدرت تعليمات من وزير الدفاع السابق المشير حسين طنطاوي ووزير الزراعة يوسف والي بمنع ذلك.
وفسر وسيم السيسي ذلك بأن "هذه أوامر أميركا" لا "طنطاوي" ولا "والي" لأن "القمح سلعة إستراتيجية".
تناقضات النظام
ويقول محللون إن السيسي يسير على نفس السياسة مع أنه سبق أن صرح بضرورة زيادة مساحة القمح المزروعة، إلا أنه كان يعرقل ذلك.
والآن يقول صراحة إن مصر يجب ألا تزرع قمحا أصلا، ما يرهن قرارها للخارج لأن القمح سلعة إستراتيجية تؤثر في القرار السياسي للدول.
وخلال الفترة التي تولى فيها الوزير الأسبق يوسف والي حقيبة الزراعة في مصر (1982حتى 2004)، تم شن العديد من الحملات ضده من صحف المعارضة حول تقاعسه عن زراعة القمح كمحصول إستراتيجي، واستبدال به الفواكه والنباتات بالصوب الزراعية.
وانتشرت في هذه الفترة نظرية المؤامرة التي تقول إن هناك مؤامرة نسجتها إسرائيل (بعد اتفاق السلام) بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة لحرمان مصر من زراعة القمح وشل قرارها السياسي بالاعتماد على استيراده.
وقادت الكاتبة سكينة فؤاد حملة صحفية ضد وزير الزراعة استمرت عدة أشهر عامي 2009 و2010 على صفحات جريدة "الأهرام" الحكومية، وتحدثت عن "مؤامرة لمنع مصر من التوسع في زراعة القمح.
لكن رئيس تحرير الجريدة الأسبق أسامة سرايا منعها من الكتابة لإجبارها على وقف حملتها بعد تعرضه لضغوط سياسية، حيث كان والي صاحب نفوذ كبير في الحكومة والحزب الحاكم.
وأكدت ذلك حينئذ صحيفة "اليوم السابع"، ونشرت 20 أغسطس 2010 تقول: "القمح أوقف سكينة فؤاد عن الكتابة بالأهرام".
وقالت "فؤاد" للصحيفة إن يوسف والى بمجرد توليه منصبه في 28 يناير 1983 قدم وعدا للمصريين بأنه سيتم تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بعد 3 سنوات.
ولكن بعد ترقيته إلى منصب نائب رئيس الوزراء وأمين عام الحزب الحاكم قال إن تحقيق الاكتفاء الذاتي تحقق بالفعل بعد أن تمت زراعة الكانتلوب والفراولة، ويتم استيراد القمح بسعرهما مما لا يمثل عبئا على ميزانية الدولة.
وصرح "والي" عام 2004 بأن زراعة الفراولة بدلا من القمح أهم للاقتصاد المصري بحجة أن طن الفراولة يتم تصديره بضعف سعر طن القمح (84 دولارا وقتها).
لكن مصر تستورد حاليا القمح بسعر يتراوح بين 226 و235 دولارا للطن، وفق آخر أرقام أعلنتها وزارة التموين في مارس/آذار 2024، وهو سعر كبير مقارنة بأسعار المنتجات النباتية الأخرى التي يريد السيسي زراعتها.
والمفارقة أن ما قاله "والي" قبل 20 عاما، هو نفس ما يقوله السيسي الآن، أي زراعة منتجات زراعية أخرى وتصديرها وشراء القمح بعوائدها، رغم الارتفاع الحاد في أسعار القمح حاليا.
وتساءلت سكينة فؤاد حينئذ: "كيف يتم الاستعانة بخبراء إسرائيليين لتطوير زراعة القمح في مصر التي كانت رائدة الزراعة في العالم؟ ولماذا لا يتم التطبيع إلا في الزراعة فقط؟
وأكدت أن وجود الفائض من الغذاء من أهم مقومات الحضارة والاستقرار ورقى العقل والفكر والعلم وتحقيق المدنية.
فجوة في التصريحات
رغم دعوته إلى عدم زراعة القمح واستيراده، طالب السيسي في عدة تصريحات سابقة وزراءه بزيادة المساحة المزروعة قمحا وتوسيع الإنتاج المحلي لتوفير دولارات الاستيراد، عكس ما يقوله حاليا.
قال في موسم القمح السابق عام 2023 إن “الدولة المصرية تسعى للحصول على مليون طن قمح من المشروعات الزراعية الجديدة في توشكي والعوينات توفر 400 مليون دولار كنا نستورد بها”، بحسب صحيفة “اليوم السابع” في 14 مايو 2023.
وفي 27 أغسطس/آب 2023 أكد السيسي "عزم مصر تقليص الفجوة في إنتاجية محصول القمح الذي يكلف استيراده الميزانية العامة مئات الملايين من الدولارات".
طالب، خلال جولة مع الصحفيين بمنطقة "توشكي"، بـ "زراعة أربعة ملايين فدان خلال مدة زمنية لا تزيد على عام، حسبما أوردت وكالة أنباء الشرق الأوسط.
شدد على أن "مصر تستهدف التوسع في زراعة محصولي القمح والذرة لسد الفجوة في إنتاجيتهما من خلال التوسع في زراعة مساحات كبيرة لهما في مناطق عديدة جرى استصلاحها، وليس في "توشكى" وحدها".
وفي 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، قال وزير الزراعة السيد القصير، إن "محصول القمح أمن قومي لمصر، والرئيس السيسي يولي اهتماما كبيرا بالمحاصيل الإستراتيجية".
وأكد لـ "أحمد موسى" بقناة "صدى البلد": إن إجمالي المساحة المنزرعة بمحصول القمح الموسم الماضي 2023 كانت نحو 3.5 ملايين فدان، ونستهدف في الموسم الحالي (2024) الوصول إلى زراعة 3.9 ملايين فدان من القمح.
وفي 22 أبريل 2023 قال نقيب الزراعيين إن "هناك توجيهات رئاسية من السيسي لدعم مزارعي القمح وتشجيعهم على التوسع في زراعة المحاصيل الإستراتيجية على نحو يُسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وإرساء دعائم الأمن الغذائي، وتخفيض الفاتورة الاستيرادية، خاصة في ظل ما يعانيه العالم من اضطراب في سلاسل الإمداد والتوريد.
وقبل ذلك في 16 مايو 2022، أكدت وزيرة التخطيط هالة السعيد أن مصر تستهدف تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح بنسبة 65 بالمئة عام 2025، بحسب صحيفة "اليوم السابع".
وفي 27 مارس 2022، أكد مسؤولون مصريون ومصادر حكومية، لموقع "سكاي نيوز عربية"، أنه "تم إجراء دراسات في إطار توجيهات رئاسية لتشجيع المزارعين على زراعة القمح، بتقدير أن هذا الملف أحد قطاعات الأمن الغذائي المهمة للمصريين".
وذلك ضمن خطة للدولة لإضافة 1.5 مليون فدان قمح جديدة خلال 3 سنوات، عبر تشجيع زراعته واستصلاح مساحات جديدة من الأراضي وزراعتها بكميات قمح إضافية في الفترة المقبلة.