النشاط الروسي العسكري في ليبيا.. ما علاقته بخسارة رهان سوريا؟
"روسيا تسحب عتادا عسكريا متطورا من قواعدها في سوريا وتنقله إلى ليبيا"
يبدو أن موسكو اتخذت إستراتيجيات ميدانية عسكرية أشبه بلعبة "ماتريوشكا" الشعبية الشهيرة، فعندما تفتح أو تتجاوز الدمية الكبرى في روسيا، قد تنتقل إلى دمية أصغر حجما لكن هذه المرة في ليبيا.
وهي محاولة روسية مستمرة للوجود والتأثير والضغط على خصومها الدوليين في أوروبا، أو أولئك الذين نافسوها على مسرح الأحداث في سوريا، وتحديدا تركيا.
وفي 15 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد، شوهدت أرتال عسكرية من الدبابات والمدرعات الروسية، على الطريق الدولي بين اللاذقية والعاصمة دمشق، تسير عكس الاتجاه، أي تنسحب من جنوب العاصمة إلى الساحل.
وفي ذلك اليوم، أعلن 4 مسؤولين سوريين أن روسيا بدأت بسحب قواتها من الخطوط الأمامية في شمال سوريا ومن مواقع في جبال الساحل، لكنها لم تغادر قاعدتيها الرئيستين، حميميم، وطرطوس.
ذلك التراجع الروسي في سوريا، قابله تقدم وتدعيم خطوط في ليبيا، حيث الشمال الإفريقي وشرق المتوسط.
تعزيز الوجود
وفي 17 ديسمبر 2024، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية عن مسؤولين أميركيين وليبيين أن روسيا تسحب عتادا عسكريا متطورا من قواعدها في سوريا وتنقله إلى ليبيا.
وأضافت أن البيانات الملاحية أظهرت طائرات شحن روسية أجرت رحلات عدة إلى قاعدة الخادم، الموجودة جنوب مدينة المرج بالشرق الليبي (تقع على بعد نحو 170 كيلومترا شرق بنغازي مقر الجنرال الانقلابي خليفة حفتر).
وأكد المسؤولون للصحيفة الأميركية أن طائرات شحن روسية نقلت معدات دفاع جوي متقدمة، بما في ذلك رادارات لأنظمة الدفاع الجوي "إس-400″ و"إس-300"- من قواعدها في الساحل السوري إلى قواعد شرق ليبيا يسيطر عليها حفتر.
كما ذكرت المصادر المسؤولة أن موسكو تدرس تطوير منشآتها في طبرق شرقي ليبيا لاستيعاب السفن الحربية الروسية.
كذلك نشر موقع "إنسايد أوفر" الإيطالي تقريره في 16 ديسمبر، عما أسماه "الجسر الجوي" الذي أقامته روسيا مع ليبيا خلال الأيام الماضية.
ورأى أن الضفة الجنوبية للبحر المتوسط “قد تصبح مسرحا جديدا للصراع والتجاذبات الجيوسياسية” بين موسكو وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي التقرير الذي أعده الكاتب الإيطالي، جوزيبي غاليانو، أورد المعلومات التي نشرها موقع "إيتاميل رادار" الإيطالي حول الجسر الجوي لروسيا نحو ليبيا.
وكشف عن طموحات موسكو في منطقة المتوسط، كما أشار إلى تحول في إستراتيجيتها الجيوسياسية.
وبحسب "إنسايد أوفر" فإن التحرك الروسي يأتي في لحظة تغيير إستراتيجي بالنسبة لموسكو، حيث بدأت بسحب قواتها من قاعدة حميميم الجوية في سوريا، وركزت اهتمامها مجددا على قواعدها في ليبيا.
كذلك أشار إلى أن اختيار مدينة برقة الليبية، كوجهة لهذا الجسر الجوي ليس اختيارا عشوائيا، لأن الشرق الليبي الخاضع لسيطرة قوات الجنرال خليفة حفتر، يمثل منطقة نفوذ إستراتيجي لروسيا.
وشكك في قدرة “الناتو” وأوروبا على تطوير إستراتيجية فعالة لمواجهة التوسع الروسي في ظل الانقسامات داخل الحلف.
بينما تواصل موسكو، بحسب توصيفه، "تحريك بيادقها على رقعة الشطرنج في البحر الأبيض المتوسط وتبرهن أن الفرص في السياسة الدولية غالب ما تنشأ في فترات الأزمات على وجه التحديد".
تهديد مباشر
وقدم موقع "إنسايد أوفر" شرحا بأن الحضور الروسي المستقر في ليبيا من شأنه أن يشكل تهديدا مباشرا للأمن البحري والجوي في وسط البحر الأبيض المتوسط.
فضلا عن تعزيز قدرات الإسقاط العسكري الروسي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
وذكر أن الأصول العسكرية الروسية والأفراد الذين كانوا مرتبطين سابقا بمجموعة المرتزقة المكلفة من الكرملين بالقيام بمهام معينة، وتعزيز المصالح الروسية “فاغنر”، هم حاليا جزء من ما يسمى "فيلق إفريقيا الروسي"، وجميعهم موجودون في ليبيا.
ولم تخف روما قلقها من تلك التحركات، ففي 17 ديسمبر أعلن وزير الدفاع الإيطالي جويدو كروسيتو، أن روسيا نقلت وجودها العسكري في سوريا إلى ليبيا، مشيرا إلى أن وجود السفن والغواصات الروسية في البحر المتوسط "يثير القلق".
وأوضح في تصريح لصحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، أن موسكو تنقل مواردها من قاعدة طرطوس السورية إلى ليبيا، وأن سفنها وغواصاتها في البحر المتوسط قريبة من إيطاليا.
وشدد على أن "هذا ليس بالأمر الجيد، السفن والغواصات الروسية في المتوسط تثير القلق دائما، خاصة أنها على بعد خطوتين بدلا من ألف كيلومتر".
ومع ذلك، فإن عمليات الإمداد والشحن العسكرية الروسية إلى ليبيا مستمرة منذ فترة طويلة وإلى ما قبل سقوط الأسد وما بعده.
ففي 19 مايو/ أيار 2024، نشرت مجلة "فورميكي" الإيطالية مشروعا استقصائيا تحت عنوان "كل العيون على فاغنر".
وأوردت فيه أن روسيا تواصل نقل جنود ومقاتلين محترفين إلى ليبيا، مع ترجيحات بوجود ما لا يقل عن 1800 عسكري روسي متمركزين بشكل رئيس في شرق وجنوب البلاد.
وقام مشروع "كل العيون على فاغنر" برصد تحركات ونشاط المرتزقة الروس في بعض الدول الإفريقية منها ليبيا.
وأورد أن "روسيا تحاول جعل ليبيا حلقة وصل لنقل مرتزقتها بين السودان والنيجر ومالي.
واستعان المشروع بمسؤول أميركي "لم يكشف عن اسمه"، حيث قال إن "مرتزقة فاغنر لم يزيدوا في توتير الأوضاع في ليبيا فحسب بل استخدموها أيضا كمنصة لزعزعة استقرار منطقة الساحل والقارة الإفريقية".
وأوضحت المجلة أن "الوجود الروسي حاليا في ليبيا الدولة الشمال إفريقية المهمة له أبعاد مؤثرة على الساحة الدولية".
وذكرت أن ليبيا “تتمتع بمركزية جيوإستراتيجية هائلة، وتقع وسط البحر الأبيض المتوسط وترتبط ارتباطا وثيقا بمنطقة الساحل الوسطى حيث يوجد الروس عبر الشركات العسكرية الخاصة في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والسودان”.
رد طرابلس
وجاء تعزيز روسيا الأخير لوجودها في شرق ليبيا بعد سحب جزء من قواتها من سوريا، ليحفز حكومة طرابلس في الغرب (المعترف بها دوليا) بقيادة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة.
وقد تصاعدت التوترات بين وزارة خارجية حكومة الوحدة الوطنية ونظيرتها الروسية أخيرا، حيث انزعجت موسكو من اعتقال أجهزة الاستخبارات الليبية في الأسابيع الأخيرة عددا من الرعايا الروس.
ففي أوائل ديسمبر 2024 اعتقلت المخابرات الليبية برئاسة الفريق أول حسين العائب، سائحا روسيا بتهمة خرق الأمن القومي.
كما اعتقلت بعده روسيين آخرين في منطقة الشويرف جنوب غرب ليبيا، الواقعة تحت سيطرة قوات حفتر وحكومة طرابلس معا، بتهمة الارتباط بـ"مجموعات أجنبية مسلحة".
ويعتقد أن الأخيرين وصلا إلى ليبيا عبر مطار بنينا الدولي في بنغازي، وحصلا هناك على التأشيرات من هيئة الاستثمار العسكري دون أي تدخل من جانب سلطات طرابلس.
وعلى إثر هذه الاعتقالات، لم تتواصل وزارة الخارجية الروسية مع الجانب الليبي بشكل مباشر.
لكنها أصدرت مذكرة عبر سفارتها لدى ليبيا في 12 ديسمبر تنصح فيها مواطنيها بعدم السفر إلى هناك بزعم أن “القانون يطبق بشكل انتقائي”، مضيفة بطريق ساخرة بأن "جمال ليبيا يمكن أن ينتظر قليلا".
وأثار هذا استياء وزارة الخارجية في حكومة طرابلس، التي ردت على الفور مطالبة نظيرتها الروسية "بشرح عاجل لأسباب هذا التحذير" وحثت على "الاحترام المتبادل والشفافية" بين الجانبين.
وتمت الاعتقالات بالتنسيق بين مكتب المدعي العام وجهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب.
كما أبدى وزير الخارجية المكلف بحكومة الوحدة الوطنية طاهر الباعور استخفافه بوزارة الخارجية الروسية عبر لقائه مع المبعوث الأوكراني الخاص إلى الشرق الأوسط وإفريقيا مكسيم سوبخ لمناقشة تعزيز العلاقات الثنائية.
وكانت روسيا منذ بداية عام 2024، تحاول تحسين علاقاتها مع حكومة الوحدة الوطنية عبر سفيرها أيدر أغانين، الذي عزز طاقمه بفندق "راديسون بلو" في طرابلس بعد انضمام الملحق العسكري العقيد جولوفانوف أليكسي فاليريفيتش إليه.
لكن الاعتقالات الأخيرة أطاحت بتلك المحاولات، في وقت تعاني فيه روسيا من تراجع نفوذها في سوريا بعد سقوط حليفها الأسد.
فقد مكنها الأسد من الحفاظ على وجود إستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط عبر القاعدة البحرية الروسية في طرطوس.
لكن بعد فقدان الأسد، مازالت تحظى بتعاون عسكري متقدم في ليبيا مع حفتر، وتتطلع إلى تعزيز وجودها هناك بعد أن أصبح مستقبلها في سوريا على المحك.
المصادر
- إيطاليا: روسيا نقلت وجودها العسكري في سوريا إلى ليبيا
- تدفق أسلحة روسية نحو ليبيا ودول الجوار الإفريقي
- La Russia in Libia mira all’Africa (e all’Occidente). Conversazione con Collombier
- بينهم سوريون ومنصات دفاع جوي.. تفاصيل وصول جنود وأسلحة روسية إلى ليبيا بعد سقوط الأسد
- La Siria non ferma la Russia: il ponte aereo e le grandi manovre in Libia